قراءة في رواية “حياتي الثانية” لرندلى جبور
زياد كاج
كان اللقاء الأول بالاعلامية والكاتبة والاستاذة الجامعية، رندلى رفيق جبور، في ندوة عن دور المرأة في المجتمع، رسمياً ودبلوماسياً. لكن اللقاء االثاني في مطعم، عابق بالأجواء الكوبية والمزين بلوحات وبصور ورسومات لرمز اليسار العالمي العزيز على قلبي، تشي غيفارا، كان مميزاً، عفوياً وانسانياً الى أبعد الحدود. ساعد جو المكان القريب من قصر الأونيسكو (تمثال حبيب أبي شهلا في الشارع الخارجي)، في تلطيف وكسر جليد اللقاء الأول مع سيدة اعلامية، معروفة الانتماء، ولا تهادن، ولا تساير في مواقفها في المحافل الاعلامية والسياسة.
تعرفت على الوجه الآخر لرندلى.
وجه بشوش، ذات ابتسامة عفوية، وصوت رقيق وفي غاية التهذيب. تحدثنا في كل شيء ما عدا السياسة — التي تجلب الخلاف ولو بين الأخوة – وتبادلنا الكتب. أهدتني كتابين: الأول بعنوان “أيلا”، والثاني: “حياتي الثانية” (رواية)، 2022، 250 صفحة (نشر خاص). وكان اللقاء فرصة للتعرف على الدكتورة ليلى شمس الدين، المتخصصة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا. جلسة راقية ونخبوية تشعر بعد مغادرتك أن الوقت كان زرع في محله.
“حياتي الثانية” كتاب جريء يسرد بصوت “وجود” سيرة حياتها الصعبة منذ الطفولة، فتقرر وهي في قمة نجاحها في عالم المحاماة، أن تلجأ الى معالجة نفسية (جانين). “أربعون عاماً بالتمام أكملتها وكأنها لمحة”! ونكتشف لاحقاً أن “وجود” تعاني من قلق وجودي: “من أنا؟” ثم تبدأ رحلة العلاج الطويلة بالعودة الى الطفولة: “..تربيت وحيدة…وكان اللعب مع الأولاد، على بساطته، خطيئة…لم أكن أحظى بفرصة التعبير عن ذاتي”. تشعر وجود أن طفولتها ضاعت منها. وأنها كانت تدفن الحياة في داخلها. تعيش البطلة قصة حب عذري جارف مع “جهاد” الذي يكبرها سناً وفكراً وهي دون الثامنة عشر. تكتشف ادارة المدرسة والأهل القصة (الانحراف!!)..ويختفي جهاد من حياتها.
“حياتي الثانية” هو سلسلة بوح واعترافات على لسان “وجود” التي تأخذنا معها الى باريس بعد سنوات حيث تلتقي بحبيبها من جديد. باريس..”مدينة الحب بلا ضوابط…باريس تنوع وثقافة وحضارة وأناقة وتاريخ وحرية..”
وفي الكتاب الكثير من التحليل الذاتي النفسي والكثير من الحكم: “الشرط الأول لكي تكون حياتنا سليمة هو أن نحب ذاتنا”، “الحب هو الهروب الجميل من أوجاعنا، ولكنه غير ثابت وغير نهائي، وحده الموت هو الحقيقة الثابة والنهائية”، “إيماني..في كل دمعة وفي كل ابتسامة. في كل نجاح وفي كل خيبة..”، “العلاقة مع الله؟ لعلها العلاقة الوحيدة الثابتة..”، “المصائب لا تأتي فرادى “(أبو الطيب المتنبي).
تعلمت من أحد أندية القراءة والكتب الذي كان يعقد جلساته الاسبوعية في مقهى في شارع الحمرا، عبارة “لا تفسده”!!
بمعنى أن لا تخبر كل ما تعرفه عن الكتاب والرواية كي لا تفسد سوقها، وتقطع عنصر التشويق. في “حياتي الثانية”، أحبت الاعلامية جبور أن تزين فصولها بأقوال وحكم كأنها عناوين: “الألم ثمرة والله لا يضع ثماراً على غصن ضعيف لا يقدر على حملها… (فيكتور هوغو)؛ “بعض لقاء يمنحنا أجنحة نجتاز الليل بها…(نازك الملائكة)؛ “الخوف لا يمنع من الموت، لكنه يمنع من الحياة… (نجيب محفوظ).
رندلى رفيق جبور هي نقيبة العاملين في الاعلام المرئي والمسموع في لبنان، والأستاذة في قسم الاعلام في الجامعة اللبنانية الدولية وفي جامعة العلوم والآداب اللبنانية، والمستشارة الاعلامية، التي خطفتها منا أضواء الاعلام وعالم السياسة اللبنانية الشائك والمفخخ… والذي ترك أثره وبصمته بوضوح في لغة كتاب “حياتي الثانية”.
لا بديل عن التواصل الإنساني المباشر في هذا العالم الافتراضي العابق والمفخخ بالخيالات والمخيلات و”اللايكات” و”القلوب” و”القبلات” الخالية من الروح الانسانية التي صنعها الباري.
في ظل قصر الأونيسكو (مؤسس مسرح اللامعقول والساخر من عبثية الحياة)، وعلى بركة ضحكات تشي غيفارا ورائحة سيجاره الكوبي ومثاليته الثورية ، وحبيب أبي شهلا يراقبنا في الخارج (أحد رجال الاستقلال الذي توفي بنوبة قلبية…) ، كان اللقاء الأول مع رندلى رفيق جبور و “حياتها الثانية” على أمل لقاء آخر والمزيد من الكتب.