سجلوا عندكم

التأكيد على الثنائية المجتمعية في كتاب “في البدء كان المثنى” لخالدة السعيد

Views: 246

وفيق غريزي

إن ظاهرة تحكّم المذكّر  في المؤنث قديمة جدا، وسابقة للأديان وشديدة التعقيد، وإذا كانت اعراض هذا التحكّم والمؤسسات والبنى والقوانين التي نتجت عن هذا التحكّم ونظرته ورسخته، قابلة للكشف عبر التحليل والبحوث التاريخية والاثنولوجية، فإن قراءتها النفسية – البيولوجية لا تزال في مدار الأساطير ومستوى اللاوعي. وربما أمكن وصف هذه العلاقة او تصنيفها على مستوى الفردي، لكن الصعب هو تحليل موقف الهيمنة والتملّك والقمع الذي يحضر غريزيا عفويا وثقافيا لدى المذكّر ، فردا أو جماعة ازاء عموم الجنس المؤنث، أي المؤنث كجنس بإطلاق، لا كمجرّد فرد شريك وقريب او مخصوص، فسلطة “المذكّر  الغريزية والمادية والاجتماعية والمعنوية، تتمتع بالشمول والامتداد في ما يتجاوز العلاقات الخاصة والأسرية الى القضاء الاجتماعي السياسي والحقوقي العام”. وهي التي تتموضع في أعراف وقيم وأخلاقيات ومحرمات وأوامر دينية، وتتحوّل إلى أحكام تطوع الدين، بل تخترق الديني لتنبني في تراتب اجتماعي جنسي، كم تترسخ في قوانين وانظمة عامة معقد ة. 

 

هوية أسطورية تخترق الحضارات

نوازع الهيمنة التي يتحرك بموجبها الفرد المذكّر  تتخذ سمة الانتداب الجمعي والتراثي، حيث الرجل المفرد يتصرّف كممثل لعموم جنس الرجال والسلطة المعنوية وحتى الدينية. ومن هنا تؤكد خالدة سعيد أن سلطة المذكّر  هي التي تؤسّس منظومة الأعراف والتصورات والتقويمات والتقاليد المتصلة بالتراتب الجنسي جسديا ومعنويا وحقوقيا، ومن ثم “هي التي تتموضع في التقاليد وتحدد القوانين، وهي التي تفرض منحاها في القراءات الدينية والتأويل والمرويات، ويتمثّل ذلك في ديانات مختلفة، منذ القديم، ومع اليهودية خاصة، وبالنتيجة تأسس التراتب الديني، التشريعي والتراتب الاقتصادي والسياسي على التراتب الجنسي فضلا عن التراتب القبلي والطبقي “. 

ارهاب المذكّر الذي يستبّد بالمؤنث، ذلك الارهاب المتكئ على القيم كما اسس لها الذكور، يأخذ مظهر القيمة والتشدد الأخلاقي والديني، هذا الارهاب يتعدى امرأة معينة إلى الجنس بكامله. هذه العلاقة المعقدة يغذّيها نهر الغريزة الجوفي عابر التاريخ ومخترق الحضارات والأديان، فالحركات الإنسانية الكبرى، حسب رأي خالدة سعيد، سواء تمثّلت في الأديان الكتابية التوحيدية غير الإبراهيمية أو في الحركات الروحية كالبوذية والكونفوشيوسية، أو تمثّلت في ثورات اجتماعية أوروبية، لم تنجح في تقنين هذه العلاقة الملتبسة أو إجلائها وتنظيمها، ولا استطاعت أن تحررها من النوازع، ومما يؤججها من علاقات القوى، حيث لم تكرسها او تنظر إليها. ويظهر ذلك حتى مع بعض فلاسفة عصر الأنوار. 

 وفي ما يتّصل بالنساء تحديدا، توضح خالدة السعيد أن المقابلة بين النصوص التأسيسية للأديان، من جهة، ثم أعمال التابعين، كأعمال الرسل ثم اللاهوتيين في المسيحية، ورواة الأحاديث النبوية في الإسلام، من جهة ثانية، هذه المقابلة تكشف البون الواضح بين النصوص الأولى التأسيسية وبين شروح الفقهاء والدعاة في اطار الواقع الاجتماعي. وتتكلم خالدة السعيد هنا على ما يتصل بتصور هوية النساء تحديدا، اذ تعتبر النساء جميعا امرأة واحدة. فالتنميط هو ما يسمح بالنظرة الى النساء والسلوك ازاءهن فرديا وجماعيا، ولكن النظم قد ازدادت تشددا في كل ما يتصل بالنساء، بدأت بتحديد حركة النساء في المجال العام ومن النساء من المساجد منذ عهد الخليفة الراشدي الثاني، وبلغت مبالغ متفرقة في التردي مع مرور الزمن وتبدلات السلالات الحاكمة، سواء على مستوى الأحوال الشخصية او الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتقييد حركة النساء، والتغييب المطلق للنساء في الحياة الجمعية. 

 

المرأة في مناطق عربية وإسلامية 

أما في عصرنا الراهن، فاذا كانت اوضاع بعض النساء في مناطق محدودة من العالمين العربي والإسلامي قد شهدت حالات متفاوتة من التطور القانوني والإقبال على العلم والعمل واختراق الحواجز إلى مواقع المسؤولية ولو بصعوبة، فإن النساء في مناطق شاسعة من هذا العالم نفسه يعشن في الحرمان من العدل، والاستلاب النفسي والفكري والجسدي. ويحرمن من كل اعتبار إنساني يتجاوز الوظيفة الجنسية، فضلا عن الحرمان الاقتصادي والعلمي والصحي، وغياب الحق في تقرير المصير والمشاركة في سياسة الجماعة. بل أن النزاعات المتشنجة ضد النساء. تقول خالد سعيد: “ترتوي من عمق غريزي موغل في القدم، متواصل في التاريخ، عابر للحضارات، يتلوّن بألوان الثقافات”. وبالطبع هي في العمق والتأصّل بحيث انها قابلة لاختراق كل حركة سياسية او دينية، وقادرة على الانبعاث، متداخلة او مقنعة بالشعارات الجديدة، ومتسلحة بمنطق جديد بحيث تدفع إلى سحب ما سبقً التوصل اليه والاعتراف به من حقوق. فليس حصول النساء على بعض الحقوق والحريات محصنا ضد الانتكاس. 

وتؤكّد خالدة السعيد في هذا السياق على أن النصوص متربّصة كل لحظة بمصير النساء، كما صار اليه الوضع حاليا في العراق وبعض فلسطين وفي الجزائر وعدد من الدول والقطاعات في المنطقة، علما أن الحريات السياسية للنساء لاتزال في عدد من البلدان محرّمة صراحة حتى في نصوص القوانين الوضعية، رغم دخولنا الألفية الثالثة، والنتيجة حسب ما توصّلت اليه السعيد، ما من مكاسب سريعة أو نهائية يمكن بعدها التأكد من تطور تدريجي تلقائي، بسبب الجذور السحرية الخرافية والغريزية لهذه الأوضاع، فلا تكاد احوال النساء تتقدم بقوة في 

 بعض الظروف حتى تعود وتتراجع وتسوء. من هنا، فإن قضية الحقوق هي قضية مفتوحة ولن يكون لها انتصار نهائي في المدى المنظور. 

 

حركة المعرفة وتحرر النساء 

إن التطورات في العلوم الإنسانية وفي حركة المعرفة عامة، اذ تصب في اتجاه فهم اوسع وأبعد للانسان، تستدعي نقل ذلك كله من ميادين التخصص الدقيق إلى أفق الوعي العام، من أجل نقلها من حد المعرفة إلى حد العدالة والحياة، وهو الحلم البعيد، وإذا كان الدور الذي تلعبه المؤسسات المتخصصة والمنابر الثقافية والدراسات والإسهامات الفردية عل اختلافها، فإن تيار وعي الندّية والتعبير النسائي والمبادرة النسائية في جميع المجالات الفنية والاجتماعية أو العلمية، وحركة الدخول في المجالات، السياسية والعملية جميعها، هو حياة الحركة وعماد التطور مهما واجه من صد وهجوم. 

تقول المؤلفة: “تغيير الوضعية الدهرية للتراتب والتسلط وشيطنة الجنس المؤنث بكامله، وهدم عقيدة قصوره والتوائه وحيوانيته ونجاسته، ومقاومة إبعاده عن ساحات العمل والعلم والنضال، لا يتحقق بلا دخول كثيف في مجالات النشاطات جميعها بقوة القرار الفردي”.

ومن اهم التصورات أن تحرر الشخصية الانسانية يمكن أن يتحقق باستقلال عن الشروط المحيطة، او التصور أن تطور اوضاع النساء يمكن أن يتحقق فعليا بانعزال عن تطور ثقافي-اخلاقي عميق بالمذكّر نفسه. على كل حال حسب اعتقاد خالدة السعيد ينبغي أن نتذكّر أن عدد رواد الحركة النسائية من الرجال العرب لا يقل عن عدد النساء الرائدات وأن ضحايا الحركة من رجال العرب يفوق عدد الضحايا من النساء، ربما لأن النساء لا يؤخذن بجد أو لأنهن يقمعن بسهولة، ولا بد من الاعتراف بأن عامة الرجال ليسوا وحدهم من يتشبث بالوضعية الدونية للنساء، بل تشاركهم في ذلك جماعات وطوائف من النساء. والنتيجة من وراء كل ذلك هي أن للنساء، من جهة نصف حقوق من حيث أنها كائن خصوصي، بل ناقص، حسب رأي النظام الذكوري، يضبط شؤونها قانون الأحوال الشخصية، وهي شبه إنسان أو شكل إنساني بصفات بهيمية للثقافة الشعبية الموروثة والقوانين المعيشة غير المكتوبة. ولتحقيق العدالة يجب النظر إلى النساء كنصف المجتمع، وليس هناك تمايز بين النساء والرجال إلا بيولوجيا، وتحرر النساء مرتبط بتحرر الرجال اقتصاديا وفكريا من الموروثات المتزمتة والسلوكية الاستبدادية…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *