شـوْقي أبي شَـقرا… في وداعِ شَـاعرٍ مُزْدَهِـرِ القـوَام
جمال ابراهيم
سفير سابق للسودان في لبنان
الثلجُ يحار في القدومِ ، في أيّ فندقٍ
وأيّ غرفةٍ، حتى يهتدي إلى
أغصاني
يختارني من جميعِ المتكئين
في الزوايا على حجرٍ ثمينٍ على
نقشِ نجمةٍ على أسطورةٍ على
خنزيرٍ غاضب وإكليلٍ من النصر
وأمجّد الخالق
شوقي أبي شقرا (1935-2024)
لم أبلغ أنا سن العاشرة، حين امتشق هذا الشاعر الكبير سيف القصيد ، وكتب وكتبَ حتى امتلأت “أكياس الفقراء”* ، واغـتـنت من بهاء اللغة تخرج مكتوبة من قــلم، وتترقرق دمعاً من محبرة . لم أعبث بشعر كتاب للأطفال بعد، لكن شوقي أبي شقرا، هذا الشاعر اللبناني الكبير، كان قد ابتنى لنفسه قصراً من شـموخ اللغة، واستوى شـــاعراً يتبعه غاوون كُثر، قبل عام 1959، قبل نحو خمس وستين عاما. جمع اللؤلؤ من بقايا مائدة التاريخ والغناء، سجد في كنيسة ما في جبل لبنان ، وتساقى خمر الخيال إلى حدِّ النشوة ، ثم انتضى ســــيفاً وامتطى فــرســـاً وضرب في الجبل، ولم ينحـنِ لعاصفة التقليد، ولا لبكائيات الأطلال، ولا لعبثِ الحجارة.
دعني استدعي طفولتي وأحدثك عن معهد بخت الرضا في مدينة الـدويم على النيل الأبيض في السودان، أيّها المذهّب بالفطرة ، المنتعل نجمات الخُزامى والبنفسج اللبناني . من ذيَّاك المعهد كانت تأتينا أولى كتيبات فكّ الحرف وانكشاف اللغة واستهلال الخــيال. ثمّـة عبقري فيلسوف ومُربّي متوّج بماسات اللغة، اسمه عبد الله الطيب المجـــــــذوب، ينــظـم لأطفـــال في سن السابعة وحتى العاشرة ، شــعراً يقــرّب الدنــيا الواســعة، خيــالاً وصـــوراً تخاطـب عقــولنا الصغيرة المقفلة من زمــن التخلق بمزاليج الغفلة المموّهة. تساقينا القصيدة مموسقة في مناهج التعليم الأولى، وقد توافـقــت مع سذاجة التلقي التي نحن علـــيها ، نرقص لايقاع بدائي ونطرب معها. لحرف اللغة العربية رنيـن نسمعه، كـأنـه يخرج من أجــراس معـبد مخفيّ في السموات العلى . من قصــــائــد كتـــاب الأطفال ، كســبتُ أنا جــــائزة تذوّق اللغـــة المخمورة بالوزن، المتخـمة بالقوافـي، وكأنَّ الغيب قد أخفـي عنّي شــاعريتي ، فلم أتبيّـن ســـريانها في شجر العقل، ولا في سوسنة القلب، وأنا بعد في اخضرار الطفــولة غضّ الهـوَى . كيفَ جاز لي – إذاً – أن أكتب الشعر و”أبي شــقرا” ينظم أيضاً . . ؟
هكـــذا خرجَــتْ في عام 1959 ، قصـــائد الشـاعر شـــــــوقي أبي شـــقرا فـملأ بـها “أكيـاس الفقراء” – ديوانه الأول – والشعر الجديد يتحسّس طرقاً وعرة على شرعة التفعيلة، علاها شـوك واستبطنها حنظل. . وقف حُـماة القوافـي وقباطنة بحـور الخليـل ، يذودون عن حقول الشعر القديمة من هجوم طيورٍ جزلى وعصافيرٍ ملوّنة أطلـقهــا من حسبوهم متغوّلين قراصنة، مثل نازك: زرقاء يمامة الشّعـر، ومثل بدر السياب الذي استدان الشعر عافية وحداثة من أفول جسمه، ورماد صدره. خجلتْ تجاربنـا في الســودان، ولها في التفعيل ريادة، وما خــرج صوتها إلى أبعد من زواريب “العباسية” في أم درمان، حـيث كان يقيم محمد المهدي المجذوب في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. خِــدنه وابن عـمّه عـبــد الـله الطيب المجذوب، هذا اللغوي الورع، بعد اللغــوي السوداني الأول الشــــيخ الطيب السّراج، هو ثاني سوداني يجلس في مجمع اللغة العربية في القاهرة، عضواً فيه عام 1961 وحتى وفاته عام 2003. طرق الرّاحل عبد الله الطيب، وكذا ابن عمّه محمد المهدي المجذوب، باباً من أبواب الشعر هو الأقرب لشعر التفعــيلة التي ظـهــرت لاحقاً، ولكن هو السُّودان والسودانيون، صوتهم دائماً إلى خفوت، وإن خرج فليس له صدى: لك أرفع بعض قصــيد منثور قديم لشــاعرنا الفذّ الرّاحل محمد المهـــدي المجذوب:
وقفتُ على سيفِ البحر الأحمر
الموج أزرق، الموج أخضر
الموج أصفر، الموج أغـبـر
عيني هناك في الأفـق
الموج هنـاك جـامدْ
الموجُ حـائط مُهدّم في صحراء
أحاطت به أمواج الرّمال وجمدت عليه ودار رأسي . . الموج الموج
ذلك من نظم المجذوب في 26/ 12/ 1959 م
ثم هو نفسه ذلك الشاعر الفذّ الذي أنشد قصيدته عام 1958م والقاهرة تحتفل في مهرجانها بأحمد شوقي وحافظ ابراهيم:
لَوْلا أسَايَ بدأتُ بالغزلِ كالعهـدِ مِن شُعرائنا الأوَلِ
سَقياً لهم زالوا وَمَا برَحَتْ أصداؤهُم تَنداحُ في الأزلِ
وربوعُهم في البيدِ ظامـئةً غُـدرانـها بمحــاجـرِ الإبلِ
حملتْ على الأقتابِ طاويةً فجْر الهُـدَى وَمنارة السّبُلِ
لَوْلا الأسىَ لفعلتُ ما فعلوا وأذبتُ آمـآقي على طــلـلِ
هكذا ترى أيها العظيم، أنَّ روحك كانت عندنا ، مثلما روحنا كانت هنالك ، شرابنا من دنٍ واحد، وبأكوابٍ عِــدة. .
هذا الرّاهب الفتّان، المُختبئ في صنوبر الجبل، المستقلّ عند “بكفيا”، الصاهــل في “بيت شباب” **، حيث زرته في ربيع عام 2008م ، في داره المحاط بشجرٍ متكاثف خلّاب، حفـيّـاًّ بي وبأصدقائه وأصدقائي، الذين انتشروا كقُـبّـراتٍ لاهية في بيـدر مخضوضر بديع . زوجــه – هــذه الصبية في سنواتها المحتشدة بمؤازرة طويلة للشاعر- وهو ممسك بمزماره – اللصيقة بالشجرة تكبر أغصانها منذ 1959م، وتداني ثمرها برعايتها الفذّة – فتحتْ ذراعيها في زهو حفاوتها بنا ، أيقونة مسـقية بالسَّمر والضحك والانشــراح إلى أقصاه. أولـمَ لنا، ثـمَّ أرهف ســـمعه لقصــيدي وبارك نظمي، وأنا أعرف كـيفَ يستسيغ إن أراد، أو لا يستسيغ شِـعـر التفعـيلة. أرهقه نظمي. تبسّم متأملاً وأنا ألقي قصيدي
– بحر الطويل هذا الذي نظمت عليه؟
يسأل في لغة المعلّم البليغ العارف، وما كنت أجهل ثورته العارمة على التقلـيـد، خـرج عليه والتزم موقـفــاً لم يتزحزح عنه، إذ هو ليس مُعلّــماً فحسـب ، بل هــو أكاديمية شـعرية كاملة الفصول. أهـديته مجموعتي الشعرية الأخيرة، فقبلها شاكراً. في مناسـبة أخرى، وقد نبهه شاعر لبناني صديق بوعدٍ قطعه على نفسه، أن ينظــم قصيدة تقليدية، ذكرته وأنا أودّع بيروت في يومٍ بليل، أنّي أتطــلع لهذه القصيدة، فأكّد لي أنه جاد في انفاذ وعـده وسـيفعل. ياااه ، أخيراً ســتأتي من شوقي أبي شقرا قصيدة تقليدية ! هاهو يقول لنا إنه متمكّن يملـك أن يطوّع اللغـة على أيّ شكل، ولن يندسّ في مدرسة مسـوّرة، ولن يأسره إطــار . . تذكّرتُ ثانية شــاعرنا الســـوداني الكبير محمد المهدي المجذوب في تنقله مثـل فراشة بين وردة وأخرى ، تتهيّـبه اللغة، ويتوجّس منه الخليل الفـراهيدي، وترتعد القوافي منه في آنيته. .
شـــــوقي أبي شـــقرا: ربّان “الشِّــعر”، المحارب بأسيافٍ مصقولة لامعة ونصال قتالة، سطع بهياً في معاركه ومغامراته اللؤلؤية، في ســـنوات الاستهلال وفتوحات التجديد الأولى . رعى الثقـافة وفتح لها آفاقا لا تحد، فكسبتْ حركة الشعر العربي ، شـباباً مقاتلاً وشــعـراء أشــدّاء، واستوَت القصيدة بعــدها وبأقلامهم، خارجة من محارة التقليد والقافية والبحــر الخليــلي، لتشـكّل صـوّراً شعرية بألوان زيت الإبداع، وألون ماءٍ سلسبيل خـلّاق. خيول المعارك والسجالات لم يهدأ صهيلها بعد منـذ “مجلة شِـعر”، التي ذاع صيتها لسنوات قليلة في الستينيات من القرن العشـرين . خرجنا في هدأة القصيد ، إلى أصداء الإبداع الحـُرّ ، فلا ترى النثر نثراً ولا الشعر شعرًا ، ولكن تجد القصيدة في أكمل رؤى، مُسـيّجة بأبهـــى خيال، مُزدانة بأنضر لغـة. لا تلاقيك قافية طنّـانة ، بل صورٌ تأخذ بالأبصـار أخذ عـزيزٍ مُقتـدر آسِــرٍ جاذب. .
“السيتي كافيه”. . مقهــى المثقفين في بيروت التي أحبـبــت هنــالك. دلّـني علــيـه وعرّفني إليه، صديقي الأديب والناشر اللبناني سليمان بختي. وقفتُ تأدّباً أمـام هـذه القامة السامقة . هـذا “الـنّـوتيّ المزدهر القوام” *** . الجسم النحيل جسم شاعر حرّ بلا مراء. الشَّعر الفضيّ . . كيفَ لا يتفضَّض وديوانه الأول خرج من مطابع بيروت قبل نصف قرن؟ همس مرحباً بي وعلى الطاولة – بالطبع – كتاب ، وأمامه جليسته مدام “أبي شـقرا”. كــان يجب أن تكون معه الرفيقة، قريبة منه دانيـة دنـوّ القصائد التي اندستْ في جيب قلـبه. .
-“أنتم محبّون للشعر في السودان ، والأدب العربي زاهر عندكم ..”، كان يقول لي وكأنه يجامل ســفير السـودان ، ولكنه في الحقيقة كان يعني ما يقول..!
-سيّدي..” أنت مدرسة كبيـرة في الشعر..
قلتُ له ولم أكن أجامل أيضاً.
زادَ صديقي سليمان في التقديم ، ليقول له:
-“أبو الشوق”. . أمامك سـفير وشاعر من السودان.
تهللت أسارير وجه “ابي الشوق” الطفولي المتغضّن شباباً وحيوية ، وقصــائد تحتشد سرّاً في عينيه ، لا تكاد نظاراته أن تخفيها وهي في زجاجٍ سميك. يطرب شاعرنا للقب الجميل..
هذا الشاعر الكبير ، عمره وفق كرونولوجيا كتبه ، يحسب كما يلي:
أكياسُ الفقراء – مجموعة شعرية، (1959م)
خطواتُ الملك – مجموعة شعرية، (1960م)
ماء إلى حصان العائلة- مجموعة شعرية، ( 1962م)
سنجابٌ يقع من البرج- مجموعة شعرية، ( 1971م)
يتبع السّاحر ويكسر السنابل راكضا – مجموعة شعرية، (1979م) )
حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة – مجموعة شعرية، ( 1983م))
لا تأخذ تاجَ فـتى الهيكل – مجموعة شعرية، (1992م))
صلاةُ الاشتياق على سريرِ الوحدة- مجموعة شعرية،(1995م) )
ثياب سهرة الواحة والعشبة- مجموعة شعرية، (1998م))
سائقُ الأمسِ ينزل من العربة- مجموعة شعرية، ( 2000م))
(نوتيّ مُزدهر القوام- مجموعة شعرية – مجموعة شعرية، (2003)
من لا يقف دهشة واحتراما لهذه العـناوين التي توّجت شكل القصائد ؟
حتى العنوان، تتخذ فيه اللغة عند شوقي كينونتها الجديدة، فترتفع إلى ما بعد النحو وبعد الجناس وبعد البلاغة. جبــروت الشــعـر في أتمّ بنــاء. طـيّعةٌ هي اللغــة، صلابتها طينٌ بأصابع “أبي الشوق” – كما يناديه محبّوه- تنفلق منه مجرَّات القصائد، فما القافية ؟ ما الموسيقى؟ ما الإيقاع؟ وأنت تأخذ مجلسـاً بين لغة تتشكل تماثيل نورانية، شجراً معشوشباً وقوارب راسية، وفتيان في رهـبة الهياكل، وسناجب ينسـلون من الأبراج، وأشواق تنام على أسِــرّة ، وسحرة يخرجون في السنابل ، ونوتيـة في البحـار مزدهرون . يا للشعر النازف في العنــوان ، تبتسم الحدائق وينتشر العطر، فوّاحا من حديقة دار “أبي شقرا” في حواف”بكفـيا” . “بيت شباب ” أقلّ شــباباً من هذا السّبعيني المُزدهر القوام. .! حيث سكنى الشاعر.
أهديته من كلامي زهرة الشّعر في عيد ميلاده الخامس والسبعين ، حياةً زاهية وشِـعراً مــديدا. كان ذلك في 2010 وأنا زائر في بيروت…
***
هــوامــــــش:
*أكياس الفقراء” هو ديوانه الأول (1959
** بيت شباب” هو حي صغير في نواحي “بكفيا” مطالع جبل لبنان ، معقل المسيحيين الموارنة
***الإشارة لديوانه :”نوتيّ مزدهـر القوام” (2003م ).
الخرطوم – يوليو