صباح … شحرورة الوادي (في ذكرى مولدِها)
الدكتور جورج شبلي
صباح، شحرورة الوادي، وياقوتةُ لبنان، تزوجَها الّلحنُ طاعةً للهوى، فأذهلَت خطّةَ الدّربِ الموصِلِ الى المجد، إذ لم تحفرِ الشمسُ، فيه، خَيالَها لِطولِ انتظار، لأنّها بَلَغته بقفزةٍ واحدة. وقد أكّدَت، بصوتِها الذي ألبَسَته حواسَها، على أنّ منبِتَ الشّهدِ كان من فمِها، ومَلقطَ الوَردِ من طلّتِها، كيف لا، وصوتُها سيوفٌ تُغمَدُ وتُشهَر، وغديرٌ ترقرقَتْ فيه دموعُ القصائد، وماجَت به الرشاقةُ فكان كالنّورِ أو أَرَقّ. إنّ أداءَها النّغَميَّ الرشيقَ، كما تَنَفُّسُ السِّحر، يَلمعُ الفرحُ من متنِه فكأنّه في يومِ عرس، مَنْ يسمعْهُ يستغرقْ في غيبوبةِ النشوةِ أو لذّةِ التّيهِ، وكأنّ داودَ لم يَنطقْ إلاّ بنغماتِه.
صوتُ صباح الأُستاذيُّ النَّفَسِ، والذي أدّى القوالبَ الموسيقيةَ في أَشكالِها الكلاسيكيةِ والرومنسيةِ والتجديدية، كان مصقولًا بقُزَحِ الخِبرةِ كأجنحةِ الطواويسِ، وكغمزاتِ الحِدَقِ المِلاح، تتحاسدُ الأنغامُ في التسابقِ إليه، وتتمنّى كلُّ جارحةٍ أن تكون أُذُنًا تلتقطُ منه مطالعَ الجَمال. فصباح واحدةٌ من أعلامِ الغناءِ الذين كانتِ الموسيقى من جُلَسَائِهم، وهي إذْ تشدو، يَعبقُ الجوُّ منها بِرَيّا الخمرةِ المُعتّقةِ مُستَجيبًا للإثاراتِ الإحساسيّة، ويرتعدُ كأنّه فضّةٌ قد مسَّها ذهَب. فصوتُها، بمحتواهُ الجماليِّ والإبداعيّ، يَندرُ أن تجودَ بمثلِه قريحةُ الزّمان، ويَصعبُ أن يتلاشى التوتّرُ المُتبقّي بعد سماعِه إلاّ بِبَترِ العَصَب.
صباح الضّارِبةُ شُهرةً عندما تُطلّ، وقد سرى أمامَها أَرَجُ المِسكِ، وفَتَّرَ النّعيمُ ألحاظَها، ورخّمَ ألفاظَها، كنتَ تحسبُ ” زِريابًا ” حاجِبَها، والفِطنةَ والصَّباحةَ وصيفتَيها. أمّا المكانُ الذي تُشعِلُ فيه القلوب، فهو المكانُ الذي لا يَتَنَفَّسُ فيه إلاّ الذَوّاقة، والذي تَشعرُ فيه الأرضُ أنّها أسعدُ ما تكون، بالتّرَفِ الذي يُسْكِرُ الأرواح، وبالملاحةِ التي تتغلغلُ في مَسالكِ الأنفاس، وبالوَشْيِ الذي لم يَسبقْها إليه صائغ. إنّ هذا الحضورَ الأخّاذَ الأرفعَ من أن يكونَ مُلحَقًا بِحاشية، والذي يَمسحُ أعشارَ القلوب، كان يَفرضُ أرستقراطيةَ التّواضعِ، وهي متعةٌ مُضافةٌ الى مُتَعِ الحياة، أو صَرْحٌ من قواريرِ المَرْمَر، لذا بقي الأَعلقَ بالنفوسِ، لا يسمو الى الّلحاقِ به كثيرٌ مِمَّن ذَوَّعَتِ الشُهرةُ أسماءَهم.
صباح قالبُ نُبْلٍ مَستورٌ بثوب، دافعُها أعمالُ الخيرِ، والحبِّ، والتسامحِ، بلا مثقابِل، لأنّ جزاءَ الخيرِ في الخيرِ نفسِه. فقد بذلَتْ ذاتَ يدِها عندما احتاجَها الآخرون، وعَفَّتْ عن ذاتِ يدِهم عندما احتاجَتْهم. إنْ ظمئوا أَروَتْهم، وإنْ عجزوا أَعانتْهم، بالرَّغم ممّا نابَها من نوائبِ الدّهرِ الذي جرى على حكمِه المألوفِ في تبديلِ الأحوال. هي لم تُصِبْ مجدًا بتدميرِ الآخرين، فهذه اللطيفةُ العِشرة قد أحبَّتْ إخلاصًا مَنْ أحبَّها رِياءً، ومَن ماتَ لها ماتَتْ عليه، فلم تبخلْ حتى عندما تَعَوَّجَ قَدُّها، وتَكَمَّشَ خَدُّها، هي المؤمنةُ بدستورٍ خالدٍ وهو أنّ البَغضاءَ لا تتلاشى بالبغضاءِ، وإنّما بالمحبّة.
إنّ الغناءَ، بعدما ضاقَت ظِلال صباح بتَطاولِ السنين، باتَت أجفانُه مَقروحةً، وصدرُه ضاقَ مِمَّن جعلوا الصّناعةَ تطغى على القرائح. فبعد ولائمِها الفردوسيّةِ، وهي دلائلُ إِعجاز، صارَ غناءُ غيرِها إفطارَ صائمٍ على الخبزِ البَحت، وبعد نثرِ زهرِها على شَدا المزاهرِ، خُدِّشَتِ الأوتارُ بنثرِ الشَّوك. فمن دونِ أطايبِ صباح، وما يُتَرَشّفُ من فمِها، لم يَستطعِ الذَّوقُ سوى الحزنِ على حالِه، لأنّه كلّما سمعَ غناءً لَطَمَ وجهَه وأَزْبَد، كمثلِ مَنْ لَمَحَ الشيطان. فأينَ المؤدّون من صباح التي صوَّرَتِ النغماتِ، وأتقنَتِ الصُّنوفَ المحبَّبةَ في فنونِ الغناء، فافْتَتَنَتْ بها القلوبُ التي أَطربَها ذلك الاستعراضُ العفويُّ للإمكانيّاتِ الصوتيةِ في التنقّلِ بين أجزاءِ الّلحن، ولاستخدامِ العُرَبِ، والتّحويلاتِ المَقاميّةِ والإيقاعيةِ، بما يُبرِزُ في الأَداءِ جماليّاتِه. إنّ هذه المقدرةَ شبهَ الأسطوريّةِ كانت مُمْتَنِعَةً على أغلبِ أهلِ زمانِها، وعلى مَنْ أتى بعدَهم في عصرِ الفسادِ الذي أصبحَ سُنَّةً شائعةً في شرقِ الفنّ.
لقد انقبضَ رحمُ الإبداعِ بعدما طَوَتْ صباح سدّتَها، وفترَ نفوذُها الجماليّ، لأنّ كثيرًا ممّا فيها لا نظيرَ له، ولا شاكلة. وإذا انتهَتْ صلاحيّةُ صباح التي كان للتأنّقِ واللياقةِ معها حظٌّ عظيم، بعدَ عُقودٍ من التألّقِ، وحَظوةِ المجدِ، وإرثٍ وارف، فإنّ الكثيرين من النّازحين الى أرضِ الفنِّ قد انتهَتْ صلاحيّتُهم قبلَ أن يبدأوا.
***
*الصورة الرئيسية من صفحة صباح الرسمية على فيسبوك