آرثر رامبو… شاعر معجزة وطفولة أسطورية
وفيق غريزي
فهم جميع كتّاب السيرة، بصورة أكثر او اقل كمالا، اهمية الأقاصيص المرتبطة بطفولة الكاتب او الشاعر او الفنان. لكن هذه الأهمية لم تؤكد قط بصورة كافية. وكثيرا ما يحسّ المرء، وهو يتأمل الآثار الفنية، ليس في ماديتها السهلة الادراك ولا في الطلاسم والألغاز الواضحة جدا لجوانبها، او المعنى الثابت لموضوعاتها، بل في الروح التي تتمتع بها في الانطباع الجوي الذي تحمله في النور او الظلام الفكري التي تصبها فينا.
وكثيرا ما يحس المرء بما يشبه “الرؤيا” عن طفولة مؤلفيها تخترق ذاته. وكي يعبّر عن فكرته لابد ان يتساءل: “اليس من اليسير ان نبرهن بمقارنة فلسفية بين مؤلفات فنّان ناضج وحالته النفسية عندما كان طفلا؟
إن العبقرية ليست سوى الطفولة التي صيغت بصورة واضحة، للتعبير عن ذاتها بأعضاء رجولية وقوية، عل حد قول الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821- 1867)، الذي أضاف: “ليست النزعة الشعرية عند الانسان سوى القدرة على التعبير عن روح الطفولة الكامنة فيه”.
فمن خلال بعض لحظات خاطفة من الفرح هي التي تجدد نضارة القلب، وتحيي خصوبة الروح، وتبعث الطفل النائم في اعماق كل منا… إننا باجتيازنا نظام الزمان الذي يعيش فيه الانسان البالغ، نصل إلى النظام الآخر الذي يحيا فيه الطفل، وهو نوع من الأبدية المسحورة، التي هي العدسة الوحيدة القادرة على التقاط الجمال وتسجيل انعكاساته، كما أنه مناخ فردوسي عامر بالطمأنينة، مملوء بالحب والتعاطف البشري، حافل بالسر والفضول، غني بالآمال والأحلام. وما العبقرية سوى الطفولة المستعادة قصدا. وبهذا يدعو بودلير الى رؤًية طفولية، رؤية حادة سحرية لفرط ما هي بريئة.
الشاعر الفرنسي الظاهرة آرثر رامبو Arthur Rimbaud (1854- 1891) الذي وضع المدماك الأول في بنيان الحركة الرمزية الفرنسية، التي استقطبت أشهر شعراء فرنسا من امثال: فرلين – بودلير – مالارميه وغيرهم، يعد ظاهرة نادرة في مجال الخلق الشعري والإبداع، حيث أنه انتج في مرحلة الطفولة وقبل أن يتعدى العقد الثاني من عمره، نتاجا متميزا كمًا ونوعا. فكانت هذه الطفولة بكل ما تحتويه من وعي ثاقب، وخيال جامح، ونبالة أصفى من نبالة الصخور، قصة طفولة أسطورية، قصة خلق ألوهية.
وعن طفولة الشعراء الدائمة قال فرانسوا مورياك: “إن القدر الرائع والمخيف في الوقت ذاته، الذي عرفه الشعراء من امثال بودلير فرلين ورامبو يكمن في هذه الموهبة الفذة والفظيعة التي تجعلهم عاجزين عن ان يشيخو “وكثير من الشعراء المبدعين، كانت الطفولة بالنسبة اليهم، الدفق الكبير، والينبوع الذي لا ينضب لخلقهم وإبداعهم.
مؤسس الحركة السوريالية اندريه بريتون (1896 -1966) قال: “إن الروح التي تغوص في السوريالية يتاح لها الفرصة كي تعيش من جديد بحماسة، أفضل جانب من طفولتها، وتستعيد بأقل لحظة كل مجرى حياتها الماضية كما يحصل لإنسان على وشك الغرق “.
إن ذكريات الطفولة تولّد فينا شعورا منزها عن الانانية، هو أخصب المشاعر على الإطلاق، فالطفولة، إذًا، ربما كانت تدنينا أكثر ما يكون من جوهر الحياة الحقيقية. وأغلبية الشعراء يحتاجون كي يستعيدوا فردوس طفولتهم المفقود، وينتقلوا الى عالمها المسحور، ويبقوا في نتاجهم شيئا من روحها الالهية، إلى أن يبذلوا مجهودا اراديا، وأن يلجأوا إلى الذاكرة، بينما رامبو لا يحتاج إلى تكليف نفسه مثل هذا العناء، إنه طفل من حيث النظرة الدهشة المسحورة -المفتونة التي يلقيها على الكون، وانسان ناضج من حيث القدرة على التعبير عن هذه الرؤيا، كما يقول سمير الحاج شاهين في كتابه عن الشاعر رامبو، لقد خلق رامبو ليستمر طفلا خلال الحياة، طفلا بقلبه الطاهر – الشرير، ببراءته وطغيانه كما يرى ايضا الشاعر جاك بريفير.
في أرض النضوج
إن الانتقال من فردوس الطفولة الآمن والحالم، حيث الحقيقة العارية، والقدرة الفائقة، والخصوبة والطهارة الأصيلة، إلى ارض النضوج المضطربة، القلقة، حيث الواقع المبتذل، والعجز الجذري والنضوب والانحلال والتفسخ، خلق في ذات الشاعر احساسا بأنه فقد إلى الأبد هذا العالم الوردي، متخطيا إلى زمن آخر، إلى الرجولة التي هي الطفولة المدنّسة. لهذا غادر الشعر، أو بالأحرى طلّقه الشعر، لأنه إذا ماتت روح الطفولة في الشاعر كفّ الشعر عن أن يكون بالنسبة اليه تعبيرا فذا في مواجهة النظام القائم.
هكذا لفي رامبو نفسه عاجزا حين بلوغه سن الرشد عن الاحتفاظ بسر الطفولة وقدرتها العجائبية على رفض كل امر وإلقاء نظرة جديدة كلية على الكون والأشياء.
وفي راي الشاعر فإن: “الرجولة الحقيقية – تساوي الحقيقة الظاهرية – الفعل، تعتدي قدريا على الطفولة الحقيقية الظاهرية -زائد الحلم – زائد التأمل”. ومرحلة الانتهاء من كتابه “فصل في الجحيم” هي المرحلة الفاصلة بين عالم الطفولة وعالمه الرجولي، حيث وعى أنه باجتيازه عتبة الرجولة عليه أن يخنق عرائس الالهام ويطرد من قلبه شيطان الشعر، لأنه تخطّى عالم الخيالات البريئة، إلى الواقع الثقيل كالرصاص، ومتطلباته المادية التافهة. وتقول سوزان برنار:
” كل البشر تقريبا شعراء عندما يكونون أطفالا، لكن قليلون هم الذين تعيش فيهم المقدرة العجيبة على اعادة خلق الواقع بعد سن العاشرة، ولهذا وبعد البلوغ نضب عند رامبو معين الشعر”. وشعوره بأنه تخطى عالم الرؤى والأحلام، وأنه اصبح لا ينتمي إلى عالم الطفولة والبراءة،، بل إلى الطفولة المدنّسة التي تعني الرجولة. أمات فيه كل حس، وتبخّرت احلامه، وكل جمالات الكون، كل هذه تؤكد أنها لم تكن سوى مجرّد سراب.
الطهارة والنقاء الروحي
إن الضيق الوجودي والحاجة إلى الطهارة والنقاء الروحي الشامل، والعجز عن التكيف والتلاؤم مع الحياة، قاد رامبو الى طفولته والحنين إلى فردوسها، والعداء لكل ما هو غريب عن هذا الفردوس، “لأن البراءة لا ترضى المساومة ولا التنازلات، إنها لا تقبل سوى المطلق”. وبات يشتاق ان ينام بغفلة وبراءة الأطفال الطاهرين الذين كان واحدا منهم. والحنين إلى الطفولة استمر ت جذوته مشتعلة في أعماقه حتى وفاته. ففي رسالة الى صديقه بول رميني يقول: “لماذا الناس يدينون الولد الخصب الخيال على طباعه الجامحة، ويحاولون شفاءه منها، بان يزرعوا في رأسه اوهاما أخرى تحوز على رضاهم؟ “.
وفي العام 1870 كتب إلى صديقه ارنست دلاهاي يقول: “آه، سعيد هو الطفل المهجور في زاوية نائية، المترعرع على هوى الصدفة، الذي يبلغ طور الرجال دون أي فكرة مفروضة عليه من قبل أساتذة أو عائلة، جديد طاهر دون مبادئ، دون مفاهيم، بما أن كل ما يعلموننا اياه هو مسخرة! متحرر من كل شيء”.
إن نتاج رامبو الشعري حفل بذكريات الطفولة، وبالرحلات التي يقوم بها الطفل على اجنحة الخيال إلى عوالم غنية بالأساطير، وهو لا يبرح دائرة المكان المحدد، ففي قصيدة “بوهيميتي” يصوّر طفولته المشردة في الحقول ويقول:
” كنت ارحل
القبضتان في جيبتي المثقوبتين
سترتي ايضا كانت تصبح خيالية
كنت امضي تحت السماء
يا ربة الشعر
وكنت عبدك الامين
آه، آه كم بهيامات رائعة حلمت “.
الطفولة لدى رامبو، هي الطبيعة البكر، التي لم تصل اليها يد الانسان، وهندستها وفق ميوله وأهوائه، هي معبودته. هي:
“عند حاشية الغابة
ورود حلم ترن
تنفجّر تضيء “.
وفي قصيدته طفولة ٤ من كتابه “الإشراقات”، يقول:
” اني القديس
في حالة صلاة على الشرفة
اني العالم في مقعده القاتم
الأغصان والمطر تتقاذف
على نافذة المكتبة
سأكون تماما الطفل المهجور
على رصيف الميناء
المتقدم في البحر العالي”.
كانت حاسة الجمال عند رامبو – الطفل غنية بالتأثرات والانفعالات. طفولة تعيده الى مواسم الاندهاش والفضول، إلى ماض ممتلئ بالجلاء والحرية، والخيالات الزاهرة بجوهر الأساطير والمغامرات.
وفي قصيدة “هدايا رأس السنة للأيتام”، يصور احزان الطفولة، ومشاعر النفي المرهفة بجمال الوجود، الحالمة بحياة الانطلاق:
“..وتوهّمت انهما رافدان في فردوس وردي
والنار تترنم فرحة في موقد متوهج الأضواء
وسماء جميلة زرقاء تطل من النافذة
والطبيعة تستيقظ
ونور الشمس نشوان
والأرض السعيدة بعودتها الى الحياة
ترتعش، وهي نصف عارية تحت قبل الشمس”…
من المؤكد جدا ان فرصة اعادة اختراع الحب، قد اختفت إلى الابد مع اختفاء السذاجة الطفولية، ورامبو يكّف عن الكتابة عندما تحرمه نهاية الطفولة الملزمة، أكثر من أي قرار فكري، من الأمل في تغيير الحياة “.
وخلال رحلته الطويلة في حياة الرجولة، وانتقاله في أقطار عدة من العالم، والانغماس في حمأة العمل الجسدي واستقراره في اليمن السعيد، بقي ضمنيا رافضا كل معطيات الحياة ما عدا الطفولة والطبيعة، اللتين تندمجان معا لتؤلفا جنة خضراء، وكان سعيه الدؤوب من أجل الحصول على بديل عنهما، إلا أنه فارق الحياة وفي قلبه ألم، لأنه لم يستعد طفولته النقية سوى بالأحلام فقط…