جورج شكّور وجه لبنان المُشرِق في العصر الذّهبيّ:”إنّنـي خالـدٌ بذِكـري وشِعـري/وفِعالي، وفي قلوب صِحابي”
د. يسـرى البيطـار
كان يومًا كبيرًا حين اصطحبني صديقي الأستاذ لواء جورج شكّور إلى منزل العائلة في الأشرفيّة للتعرّف إلى والدِه الشّاعر؛ ذلك أنّني قرّرتُ دراسةَ نماذجَ من شِعره في رسالة الماستر في اللّغةِ العربيّة وآدابها، بإشراف أستاذي وصديقنا المشترك الدكتور الشاعر جورج زكي الحاج.
لم تطُلْ مراسمُ الاستقبال؛ وإذا بي مع الشاعر الكبير نجلس إلى طاولة المكتب. لم أتوقّع أنّه سيقرأ لي مجموعتَيه بصوتِه “زهرة الجماليا” وَ”وحدَها القمر”، في أربع ساعات، مع التّعليقات المفعمة بحيويّة الإبداع، والنّابعة من صدق التّجربة الشّعريّة؛ قبل أن أحمل المجموعتين هديّةً ثمينة، للمتعةِ والبحث. قلتُ لنفسي: ها هو شاعرٌ يكتب بقلبه، ويعطي من قلبِه!
قرأتُه، وكانت رسالتي في الماجستير: “المرأة في شِعر جورج شكّور” فاتحةً لرسائلَ وأطاريح أخرى في لبنان والخارج، أذكر منها في الجامعة اللّبنانيّة رسالة الأستاذة ريما أبي خير: “الحاءات الثّلاث في شِعر جورج شكّور، الحبّ والحرّيّة والحكمة”، وأطروحة الدّكتور الشاعر جهاد الزغير: “ملاحمُ إسلاميّةٌ بأقلامٍ مسيحيّةٍ، بولس سلامة وجورج شكّور، دراسة بنيويّة سيميائيّة”.
جورج شكّور وجه لبنان المُشرِق في العصر الذّهبيّ، صديق سعيد عقل والأخطل الصّغير والشّاعر القرويّ وباسمة بطولي، الذي لُقِّبَ بأمير شعراء العرب، وكُرِّمَ في الشّام والعراق والكويت ومصر وإيران… وهو القائل، في رسالةٍ إلى الشّعراء:
“أرى شِعرَ غيرِي شِعرَ نفسي متى يَرُقْ
وأبـرَأُ مِـن شِعـري إذا لـم يَـرُقْ لِـيَـا “
والقائل، في رسالةٍ إلى أهل السّياسة:
“كلُّ الزّعامات مرهونٌ بها زمنٌ
إلّا زعامةَ شِعرٍ، عمرُها الدهَرُ“
وكأنّي به قد خَطَّ بهذا رؤيا خلودِه، مثلما خُطَّت أربعةٌ من أبياتِه على مدفنِه:
” كُنْ بنا، قبرَنا، حنونًا رؤوفًا
مـا أشـدَّ الظلامَ تحت الترابِ
لم تسَعنا الأقطار طولًا وعَرضًا
كيـف نحيـا في ظلمـةٍ واكتئـابِ
إنّنـي خالـدٌ بذِكـري وشِعـري
وفِعالي، وفي قلوب صِحابي
هـذهِ سُـنّـةُ الحيـاةِ ممـاتٌ
ثمّ بعثٌ في جنّةِ الأطيابِ“
كتبَ جورج شكّور الحبَّ في بداية حياتِه، والملاحمَ الدّينيّة في قسمِها الأخير.
فأصدرَ “وحدَها القمر”، و”أشرعة الرحيل”، و”زهرة الجماليا”، و”مرآة مِيرا”، و”همسات للحلوين”… كما أصدر ملحمة الحسين، وملحمة الرسول صلعم، وملحمةَ الإمام عليّ التي كَتب مقدّمتَها المطران العلّامة جورج خضر؛ ليختم مسيرتَه الإبداعيّة بملحمة المسيح.
وإذا كان لي مِن شِعره ما أفخر به وأتقلّدُه كما تتقلّد الحسناء عِقدَها اللّؤلئيّ، فقصيدةٌ ألقاها في البترون عام 2007، مطلعُها:
“كَتبَت يسرى فرقَّ الغزلُ
كَـلِـمًـا مِـن أنجُـمٍ تشتعـلُ“
ليقولَ في ختامِها:
“كم تُرى مِن قبلةٍ ضاعت سُدًى
يــومَ لا شِـعــرٌ بـهـا يـحتـفِـلُ“
وقصيدةٌ أخرى ألقاها في البترون عام 2014، مطلعُها:
“أشرقَت يسرى كما شمسُ النّهارْ
فـشَـدا المنبـرُ بـالشِّعــرِ وطـارْ“
جورج شكّور المولود في “شِـيخان” من قضاء جبيل عام 1935، وقد أسماها “بلدة المئتَي كتاب” لأنّ هذا ما قدّمته أقلامُها من عطاءٍ فكريٍّ للبنان، توفّيَ فيها عام 2024، هو الوفيُّ لها حين كان يُمضي كلَّ صيفٍ فيها وكلَّ عيد، والوفيُّ لأصدقائه من كلِّ مكان.
وإذا أعلنَ شاعرنا قائلًا:
“حُـقَّ للشاعرِ ما ليـسَ لهُـمْ
هِبَةُ الشِّعرِ عطاءٌ مِن عَـلُ“
ولا سيّما في الغزل، فهو لم يكفر حين ألَّهَ حبيبتَه فقال:
“إلهَتِي أغنيةُ الشعاعِ والبريقْ
ماردةٌ مِن جُزُرٍ عذراءَ تستفيقْ
ويَكتَسي مِن عريِها البنفسجُ العبيقْ“
وأيضًا:
“يُقالُ إنّي شاعرٌ وأعبدُ امرأهْ
ما هَمَّ؟
أنتِ النار يا حبيبتي وهُم قلوبٌ مُطفَأَهْ“
وأتساءل مع صلاح لبكي في كتابهِ “لبنان الشاعر”: “لماذا انطلقَ دائمًا مِن جبالِنا، ونشأ في سهولِنا وعند شواطئِنا شعراء كما تبوح الورود وينمو البيلسان؟”
***
*كلمة د. يسرى البيطار في افتتاح الملف التحيّة إلى الكبير الراحل الأستاذ جورج شكّور
على صفحات مجلة غرفة ١٩ الإلكترونيةالصادرة من كاليفورنيا ، باللغة العربيّة.