سجلوا عندكم

قوّة غير مرئيّة في رمضان

Views: 989

د. جورج طراد

  من المصادفات الرائعة هذه السنة، أن كل أبناء العالم العربي بفارق ساعات قليلة، دخلوا معا في الصوم، مسيحيون ومسلمون على اختلاف المذاهب والتوجهات.  وهذه مصادفة لا تتكرّر إلا نادرا، نظرَا إلى أن بداية الصوم عند كلا الطرفين غير مرتبطة بتاريخ محدّد في التقويم العالمي، فضلا على انها غير متزامنة دائما عند الطوائف المسيحية، ممّا يجعل هذا التلاقي الروحي لا يتكرّر إلا كل عدة عقود. من هذه الندرة بالذات تنبع أهميّة المصادفة: المتحرّك يصبح ثابتّا، ولو لمرة واحدة، هذه السنة.  

  وإذا كانت “المصادفة هي طريقة الله للبقاء مجهولا”، على ما كان يقول البرت انشتاين، فإنّ ” قوّة غير مرئيّة” على الأرجح، هي التي تضبط “المصادفات التزامنيّة” في نظريّة كارل يونغ، تلميذ فرويد ومنافسه!

  من هنا فإن روحانيّة تزامن الشهر الفضيل هذه السنة مع الصوم الكبير المبارك، هي دعوة غير مرئيّة من بارئ الأكوان للتوحّد والتلاقي ونبذ كل دواعي التفرقة والخصام.

 

   وليس هناك مكان أفضل لانعقاد مثل هذا التلاقي المتسامي من قصر الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة. ذلك أن سيّد القصر يجسّد بقناعاته وبمواقفه كل معاني التلاقي بين الديانات والمذاهب، مع احترام خصوصيّة كل منها والحفاظ على حريّة أتباعها في ممارسة شعائرهم الدينيّة من دون أي تعدِّ أو ضغوط. ولذلك فإن الشيخ نهيان هو مثال حي للتسامح والإلفة، ليس وفق تسمية الحقيبة الوزارية التي يتولاها فحسب، وإنما خصوصا من خلال قناعاته ومواقفه المنفتحة التي يعرفها أبناء الإمارات جميعَا وكلّ المقيمين وزوار هذه الدولة الراقية التي تُعتَبرُ مثالًا يُحتًذى في التعايش والتسامح.

  ففي خلال خمس وثلاثين سنة أتردّد فيها على الإفطارات التي يقيمها الشيخ نهيان يوميّا لمئات الضيوف في قصره، كنت ألاحظ مروحة التنوّع الديني والمذهبي في صفوف المدعوين. حتى اتباع غير الديانات السماويّة الثلاث، فإن لهم حضورًا ظاهرًا على موائد الإفطار في قصر الشيخ نهيان.. وكأن تلك الموائد هي أمم متحّدة دينيّا يلتقي فيها الجميع في تكامليّة لافتة يرعاها سيّد القصر ويحرص على تنميتها وازدهارها، حيث يرعى جميع ضيوفه بمحبته الغامرة وقلبه المنفتح على الحضور من دون تمييز أو استثناء.

  أما ما بعد الإفطار فيحين موعد تجلي الروحانية بأسمى درجاتها، حيث تغمر القصر وحدائقه المحيطة الإبتهالات والتضرعات الطالعة من صلاة التراويح التي تساعد على انعتاق الروح من كلّ ما يمكن أن يكون قد علق فيها من ماديات فانية ومن اهتمامات دنيويّة نافلة. هكذا تتصفّى الروح وتتنقّى من كلّ الشوائب والأدران، حتى إذا ما انتهت الصلوات والجلسة التي تعقبها حيث يتحلّق المدعوون حول الشيخ نهيان، انصرف الجميع وهم مزوّدون بصفاء روحي قلّ نظيره. ينصرفون وهم على أمل بالعودة غروب اليوم التالي إلى القصر حيث يلتقون الشيخ نهيان من جديد حول موائده العامرة.

 

  إنه الشهر الفضيل هذه السنة، حيث يلتقي مع الصوم الكبير عند كل الطوائف المسيحيّة، ليصح قول القائل إن الجسد يولد مرة واحدة، أما الروح فإنها تولد كل يوم من أيام الصوم المبارك. فليتنا نتعلم الدرس ونولد من جديد بعد أن نتخلّص من نزاعاتنا وأنانياتنا وصراعاتنا التي لا تنتهي، فنستعيد الصفاء الموعود ونحافظ على نقائه كما أخذناه من الجلسات الرمضانية في ربوع الشيخ نهيان!

  قديمًا قال الجاحظ: “لا يُقاس المرء بما قرأ ولكن بمدى انتفاعه ممّا قرأ”. وقياسًا نقول: لا يقاس المرء بما عاش من أيام رمضانية ولكن بمدى انتفاعه من روحانياتها!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *