سجلوا عندكم

“غيبة مي” أم “ضلال مي”؟

Views: 88

نجاة الشالوحي

تدرك نجوى بركات أهمّيّة المكان الروائيّ وتأثيره في جذب القارئ إلى عالم الرواية، الأمر الذي بدا واضحا التركيز عليه في روايتها الجديدة “غيبة مي”، الصادرة حديثاً عن “دار الآداب”

تدور أحداث الرواية في فضاء مغلق وهو بيت السيّدة مي. والبيت (الفضاء المكانيّ) يجسّد قيم الألفة والاستقرار والأمان، ويمنح الشعور بالطمأنينة والراحة. ويعدّ البيت من أهمّ الأمكنة في حياة الإنسان، فهو المأوى ومحطّة الذكريات والأحلام. وللبيت حضور قويّ وفعّال وله دلالات على تعلّق مي بالأسرة (هي التي فقدت أمّها طفلة وحرمت من حنانها وعطفها) ففيه تشعر بالحماية. 

 

أحلام اليقظة

ويرى باشلار أنّ البيت “هو المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكّل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائنًا مفتتًا”، فحوّلت الروائيّة عنصر المكان إلى أداة للتعبيرعما يختلج داخل مي من عواطف وتقلّبات مزاجيّة ونفسيّة وسلوكيّة. 

وتدور الأحداث بين مطبخ السيّدة مي وشرفة منزلها، فتجعلنا نشمّ رائحة القهوة، ثمّ نقترب على مهل لنتأكّد من خلو الصالون من غريبة اقتحمت عزلة مي، ثمّ نخرج معها إلى الشرفة ونتفقّد أصص النبات. 

ولم تغادر مي شقّتها في الطابق التاسع إلا لأمور طارئة ومنها زيارة طبيبها الذي أوكله التوأمان، وهما ولداها، أمر الاهتمام بها، أو لتفقّد انفجار مرفأ بيروت والدمار الهائل الذي خلّفه، وحين طلب الطبيب البيطريّ الحضور إلى عيادته ليعلمها بمرض خطير أصاب قطّتها.

 ويجري الوصف بأسلوب رشيق بعيد عن التكلّف مستخدمة الحواس الخمس؛ وموظّفة إيّاها توظيفًا جماليًّا يشدّ القارئ بشغف وحماس بعيدًا عن الملل. 

يرى باشلار أيضا أنّ “كلّ كتاب يجب أن تعاد قراءته بمجرّد الانتهاء منه، فبعد القراءة التخطيطيّة الأولى تأتي القراءة الخلّاقة”. ورواية “غيبة مي” لا تكفيها قراءة واحدة، لنبني روابط وعلاقات مع الشخصيّات والأمكنة. 

 

الرواية المكانيّة

ويمكننا أن نصنّف هذه الرواية بالرواية المكانيّة، فالمكان هو المهيمن وله الدور الفعّال في توجيه وتحريك انفعالات مي، وهناك تعالق بين شخصيّة مي والمكان: “تدور الفصول في الخارج، تتبدّل المواسم، تشتعل الحروب، تزول الكهرباء، تنفجر المدينة،… فهنا، في جزيرتي المرتفعة، لا يتبدّل مناخ، ولا تسوء أحوال، ولا تحدث انفجارات، ولا تضطرب أوضاع. هنا، في هذا الداخل الذي لي، لا بدّ من ثبات وسوية وانتظام” ص46. 

ومن داخل هذا الفضاء المكانيّ تتنقّل ذاكرة مي بين طفولتها السعيدة على الرغم من فقدها لوالدتها، فوالدها أحاطها بالعناية ورفض أنّ يتزوّج؛ أو يوكل أمّه أو أخواته أمر الاهتمام بطفلته.

 

فتاة موهوبة

ومي فتاة موهوبة، فمنذ كانت طفلة تقف أمام المرآة وتتخيل أدوارًا تمثيليّة تؤدّيها ببراعة، وعندما شبّت تقدّمت لمباراة الدخول إلى كليّة الفنون وجاء ترتيبها الأولى. وفي مرحلة الدراسة الجامعيّة تعرّفت على شاب عرض عليها أن تقوم بدور البطولة لمسرحيّة ادعى أنّه كتبها لتكتشف بعد فترة قصيرة أنّه كاذب؛ ولم يؤلّف أيّ عمل مسرحيّ؛ ولم يؤمّن التمويل اللازم له. ولكنّها وقعت في حبّه على الرغم من معرفتها بكذبه وادعاءاته. فتبدأ بكتابة المسرحيّة وتنسب التأليف إليه، حتّى أنّها تركت منزلها الوالديّ وعاشت معه في شاليه على شاطئ البحر؛ فتؤلّف المسرحيّات ثمّ تقوم بتمثيلها؛ وتصل الليل بالنهار فتعطيه المال الذي تجنيه ليسكر ويلعب القمار وحين تسأله: متى نتزوّج؟ يتهرّب. فلا تحصل على جواب واضح يحدّد مصير حبّهما. ولمّا خسر كل المال في القمار عرضها (مي) على أصحابه؛ عندها تلقّت الصفعة التي أيقظتها من سباتها؛ ودفعتها إلى لملمة ثيابها ومغادرة الشاليه.

***

تعود مي إلى بيتها وإلى المسرح والتأليف والتمثيل وتحاول شطبه من ذاكرتها، ولكنّه يعود ويقتحم حياتها ويدّعى أنّه تغيّر وأصبح شخصًا آخر. فهل حقًّا تغيّر؟ وهل ستثق مي به؛ فيلج حياتها وهي التي لم تقصه من قلبها ولم يغب عن فكرها؟

في طيات “غيبة مي” يختبئ الجواب…  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *