الرّوح اللبنانيّة قريحةُ المَهاجِرَة
الدكتور جورج شبلي
إنّ سرَّ إبداعِ شعراءِ المَهجر، يعودُ الى الرّوح اللبنانيّةِ التي ألبَسَت نتاجَهم بُعدًا إنسانيًّا، وفَيضًا روحانيًّا، وأصالةً جَماليّة، وعمقًا فكريًّا، وأَسقَطَت على تجربتِهم، في مَهاجرِهم، كَشفًا عن مفهومِ الحياةِ والوجود والوطن، فانتصروا، به، على دارِ الغربةِ، وكذلك، على ذواتِهم التي تقطَّعَت شوقًا وحنينًا الى الأهلِ والدّار.
لقد طَوَّقَت الرّوح اللبنانيةُ عُنقَ الأدبِ المهجري الذي كانَ، بها، عن حقّ، باكورةَ المظهرِ العالميّ لقَلَمِ لبنانَ البليغ. وقد نَسجَت هذه الرّوحُ صورةَ الوطن في عمقِ العصبِ المهجريّ الحادّ، وبِذلك، لم تَدَعْ نَصلَ البُعدِ يَقطعُ رأسَ الارتباطِ بمسقطِ الرأس، والأَصل. لقد روَّضَتِ الرّوحُ شعراءَ المَهجر على ترنيماتِ الوطنِ جَهرًا، لينعدمَ، عندهم، الشكُّ بوصيّتِه، ويُصبحَ، بالتالي، صلةَ اتّساعٍ يتوقُ المَهاجِرةُ الى إعادةِ فَضلٍ له.
إنّ تراثَ قوافلِ اللبنانيّين في أَقطارِ الدّنيا، قد خَلَّدَ الرّوحَ اللبنانيّةَ، خبزًا صلبًا يتسلّقُ أدراجَ الحنين، ويخزّنُ ذاتَه في مكنوناتِ البُعد، وهكذا، باتَتِ الرّوحُ في اكتفاء، ذلك لأنّ شِعرَ المهجريّين جعلَ هذه الرّوحَ منزلَ قضيّتِه، فباتت الأرض، بها،ُ جوعًا الى وجود، ولوحةً مُتحِفةً نثرَتِ النّداوةَ في لُهاثِ الحنين، ليَصحَّ ما قيلَ بأنّ بارِزَ الهمِّ أَهونُ من كامِنِه. وهكذا، تركَت الرّوح اللبنانيةُ بَصمتَها في جِدارِ نفسِ المَهاجرة، فازدادَ مخزونُ الوجدانِ الوطنيّ في ذواتِهم، وفي شِعرهم، وتَمالَحَت الرّوحُ معهم فاكتحلوا بها، وأصبحَ وجهُ لبنانَ مُبارَكًا.
من الظّواهرِ البديهيّة أن يكونَ لشكوى الغربةِ، مع المَهاجرة،عهدٌ مكتوبٌ، لم يشيحوا عنه، حتى غدا بَسْطَةَ رِزقِهم عندما قرعَتِ الموهبةُ بابَ إبداعِهم. فأتى إنتاجُهم، في بداياتِه، منتسِبًا الى مَخاضِ الغُربة، فاغتسلَتِ العيونُ والقلوبُ بالدّمع، وتَمزَّقَ الأمل، وكانَ ضبابُ الحزنِ والقَلق، أَوسعَ مدارٍ للوحشة. لقد سَقى الألمُ شِعرَ المهجريّين، والألمُ طَمّاعٌ وأسلوبُهُ كوَخزِ السّكاكين، وعنكبوتيّتُه تَعصى على التّرويض، وقد لَزِمَت قلوبَ المَهاجرةِ لُزومَ الغَريم، إلّا أنّ شعراءَ المَهجرِ صَلُبَ خَدُّهم في ساعاتِ الشَّوق، ولم يخشعوا للألمِ المخزونِ فيه، لأنّ الرّوحَ اللبنانيّةَ نضجَت في داخلِهم، فلم يكنْ ماءُ تأثيرِها طِينًا، ولا أَسوِرَتُها من غُبار.
إنّ رحلةَ الرّوح اللبنانيّة الى جَمعِ المهاجرة، أدَّت الى نُضجِ مُجاهدتِهم جاذبيّةَ الغُربة، فكانَ، بينَهم وبينَ الشّوقِ والحنين حربُ اتّصالٍ وانفصال، فبِقَدرِ ما كانت الغُربةُ سجنًا ظلالُهُ شوقٌ وألم، بِقَدرِ ما استطاعَ المهاجرةُ، بفِعلِ الرّوحِ، الانسلاخَ عن أَسْرِ الهجرة، ليعبروا الى الميراث الوطنيّ، وهو مُحيطٌ لا شواطئَ له، ومُتَنَفَّسٌ عَيَّشَ المَهاجرةَ حالَ الانعتاقِ ليُبعَثَ المُبدِعُ فيهم. من هنا، ليس من بابِ الادّعاء أنّ الرّوح اللبنانيّةَ كانت في صُلبِ تَحفيزِ المَهاجرة لإنتاجِ أروعِ طرازاتِ إبداعهم، فمهما قيلَ عن تجربةِ الهجرة، وعن اكتنازها بالصّفاء الوجدانيّ، تبقى، بحيثيّتِها الوحدانيّة، وبمعزلٍ عن الرّوح اللبنانيّة، غيرَ مكتملةِ الدَّفق، ولا تستطيعُ أضلاعُها، منفردةً، تشكيلَ ترسيمةٍ ينضحُ عنها دَفقُ المشاعرِ والجَمال.
لقد غرسَت الرّوح اللبنانيّةُ في المَهاجرةِ غروسَها، وأَمسكَت بتقاطيعِ موهبتِهم الشَّرِهةِ الى الانتاج، فكان لها دَورٌ طليعيٌّ في توضيبِ حديقةٍ لهذه الموهبةِ، وهي حديقةٌ كثيرةُ الفواكِه، لا تبرزُ قيمةُ بضاعتِها إلّا في أسواقِ الذّخائر. إنّ التّوفيقَ بين إحساسِ المَهاجرة بالغربة، والتزامِهم الرّوح اللبنانيّة، أَنتجَ شِعرًا مَعاشُهُ أَبْرَك، فلو كانَت تجربةُ الهجرةِ عقدًا، كانت الرّوحُ اللبنانيّةُ واسطَتَه.