صالونيّةُ الشِّعر

Views: 26

 الدكتور جورج شبلي

لقد راجَ، في يومنا الحالي، ما يمكنُ تسميتُه ” صالونيّة الشِّعر “، بمعنى الغَوص المتكرِّر في الحيثيّةِ الشّعبويةِ التي تهدفُ الى إثباتِ الحضورِ بالتّصفيق، فقط، ولَو لم يكنْ في مضمونِ الشِّعرِ المُؤَدّى رَنَّةٌ جَماليّةٌ إبداعيّة يصلُ صداها الى الأذواق.

بين الكثرةِ والنوعيّة، صلةٌ واهيةٌ يُستَنتَجُ منها أنّ منهجَ التأليفِ الشِّعريّ مُنغَمِسٌ في حالةِ العجز، ما يودي، حتمًا، الى الانحطاطِ في القيمة، وهذا الانحطاطُ هو السُمُّ القاتل لمسيرةِ الشِّعر، عندَنا. لقد باتَ النَّظمُ، مع الكثيرين، حركة ميكانيكيّة مُفرَغَة من نَكهةِ الشِّعرِ في نفائسِه، كفنٍّ هو من أرقى الفنون، وذلك ما يجعلُ الشِّعرَ غيرَ مفهومٍ حقَّ الفَهم، ويجعلُ صاحبَه عاديًّا بعيدًا عن التميّز، ما يُناقضُ قَولَ ابنِ رشيق :” لقد سُمِّيَ الشّاعرُ شاعرًا لأنه يشعرُ بما لا يشعرُ به غيرُه “.

لا يمكنُ، عندَ سماعِ الإلقاء، إلّا أن نتخيّلَ صَنَمًا باهتًا هو وعاءٌ جامدٌ لمضمونٍ أَعوَج، لا يحملُ في ذاتِهِ لوحةً، وإيحاءً، وصورةً كانزة، وجوًّا سحريًّا يستدرجُ المُستمِعَ إليه، إعجابًا، واندهاشًا. فما يُسمَعُ ليسَ سوى مجموعةٍ من القوالبِ اليابسةِ السطحيّةِ التي صُبَّت بفوضى، فلا رونق، ولا إمكانيّةَ لهزِّ المشاعرِ، وتحريكِ الحسِّ بالمتعة، حتى يُظَنَّ أنّ الشِّعرَ باتَ من الآثارِ المهجورة، ويؤكدَ على أنّ أصحابَه ليسوا سوى مُنتَحِلي لَقَب شاعر.

لقد أودى مستوى الشِّعرِ، اليوم، بصالونيّتِهِ الشَّعبويّة، وبنَظمِه التّراكميّ المُهَلهَل، بمستوى التذوّق الفنّي لدى النّاس، لأنْ ليس في هذا النَّظمِ شيءٌ من الشِّعر. فأينَ التجلّي الجَمالي، وأينَ ديناميّةُ الخَيال، وأين الجِدّةُ في الابتكار، وأينَ الإحساسُ العميقُ وخوالجُ العواطف، أين الخروجُ من آفاقٍ الى آفاق… إنّ الأهميّةَ، في الصّالونيّة، هي للإخراجِ، وكأنّ النّظمَ فصلَ جسدَ الشِّعرِ عن روحِه، وفي ذلك انصياعٌ موصوفٌ لخطرِ القضاء على الشِّعر.

أمّا الرّنينُ الموسيقيّ، فنشازُه غيرُ مُريحٍ للأُذُن، إنْ لم يكنْ عِبئًا عليها، ما يوضحُ عدمَ معرفةِ النّاظِمِ بالإيقاعات، وبمقتضياتِ التّناغم، وبضرورةِ انسجامِ الكلامِ مع الجَرسِ الموسيقي. ولمّا كان النّشازُ هو الخروجَ عمّا هو مألوفٌ من الانسجامِ والملاءمة في المقطوعةِ النَّظميّة، فإنّ نتائجَه تبدو في توتّرِ السَّمعِ، أواضطرابِه الذي يثيرُهُ التّشويشُ، والضوضاءُ النَّغَمي، وفقدانُ الجَماليةِ الموسيقيّةِ التي هي الكيانُ النُّطقيّ للشِّعر. إنّ كُسوفَ الموسيقى في المقطوعاتِ النّظميّة، يحوّلُها الى مكانٍ مُمِلٍّ، لا يطيبُ المقامُ فيه.

إنّ إسقاطَ التّجديدِ على الشِّعر يستنجدُ بالموهبةِ، والمعرفة، والثقافة، فالتّجديدُ شيءٌ من الخَلقِ، لا الزّينة، وهو ينبثقُ عن مشقّةٍ، واجتهاد، من هنا، فالشِّعرُ الرّتيبُ، بلا تجديد، كلامٌ مَيت، وهذا، بالذّات، ما تكرِّرُه الصّالونات، من خُطاباتٍ نظميّةٍ أكثرُها نثرٌ، ومفرداتٌ مشقوعةٌ، مُغتَرَفَةٌ من المُرسَل، وليسَ موقعُها في نطاقِ الإبداعِ المتجاوِز.

وبعد، ما أحوجَنا الى شِعرٍ لامِعٍ شاهق، يومضُ قيمة، وصفاءً، يصدرُ عن شاعريّةٍ مُبدِعة، خضراء، صاحبُها نبيهٌ، قادرٌ، خَصبُ الموهبة، واسعُ الأجواء، بليغُ الأداء، عميقُ الإحساس، لاعبٌ أمامَ الجَمال، راقٍ ذَوقُهُ، لا تسحقُهُ شهرةُ الشّعبويّة، ولا يطمئنُ الى تصفيقِ الصّالونات… 

 

  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *