سليم تقلا… ذاك الزمن المتألّق المدرسة التي أقفلوها!

Views: 42

السفير سمير شمَّا

تلاقت مختلف الآراء على اعتباره “رجل دولة”. رأى فيه إميل إده “دماغ الكتلة الدستورية”. وهكذا وصفته الأجهزة الفرنسية. كم يَصحّ في مكوّنات شخصيته تعبيرُ Self-made-man، فقد بنى نفسه بنفسه! قدراته الذاتية أوصلته إلى ما وصل إليه. تجاوز نصيحة والده الصيدليّ حبيب تقلا عندما خاطبه: “السياسة” ! كإبني. أيش بدّك بهالشغلي”. السياسة في مفهوم سليم تقلا ورؤيته تتّشح بلفحة ترسّل. أن تكرّس نفسك لخدمة الأمّة وقضاياها وهناء شعبها هو فعل إيمان يتخطّى مفهوم السياسة والوظيفة بأبعادها الشعبويّة منذ زمن الحكم العثماني بمظاهرها وألقابها الخادعة.

من مكوّنات شخصيته عفّةُ اليد: زمناً رحباً عانى من ضيق مادي، فاضطر – كما كتب – إلى العمل ليلاً نهاراً. بقي متعالياً على الإغراءات المادية – الدنيوية رغم معاشرته في العقد الأخير من عمره أثرياء القوم- كما كتب أحد مؤرخي سيرته الذاتيّة. أمّا رؤيته الشخصيّة وقتاعاته الفكرية فسماتٌ أخذته إلى السلطة، إذ لم يرثها أباً عن جدّ. وجاء في كتاب المستعرب الياباني نوتوهارا “العرب وجهة نظر يابانية”. “مسألة التوريث متجذّرة في العالم العربي حتى على صعيد الأحزاب السياسية بما فيها اليسارية. لقد بقي بكداش رئيساً مطلقاً للحزب الشيوعي السوري منذ شبابه حتى وفاته. وبعد رحيله احتلّت زوجته منصب زعامة الحزب، وقد يرث ابنه زعامة الحزب بعد عمر طويل إن شاء الله”، ليصل إلى نتيجة أن التوريث هو أحد الأمراض المزمنة في العالم العربي.

 

“محاور لبق، معتدل نزيه ومستقيم”

من بين رجال السياسة اللبنانيين القلائل أتقن سليم تقلا في ذلك الوقت اللغة الإنكليزية، بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية والفرنسية. كتب فارس ساسين في إعداده كتاب “سليم تقلا” مُبيّنًا أنّ مختلف عارفيه توافقوا على أنه “محاور لبق، دمث الأخلاق ومعتدل، نزيه ومستقيم، المثقف المنفتح على العرب والعالم الغربي والمحترم في أوساط المسلمين”. قال عنه المفوّض السامي دي مارتل أنّه “أحد أكثر الموظّفين كفاءة في لبنان.” وقد طرح اسمه لرئاسة الدولة حين جرى تكليف ألفرد نقاش في 9-4-1941.

في السياق عينه أوضح فارس ساسين في كتابه المذكور أنّ سليم تقلا كان يؤمن بالحقائق التالية: “القوة هي أساسية في تعريف السلطة. إنّما يجب على هذه السلطة أن تكون عادلة لكي تحظى بتأييد الناس. عليها عدم التفرقة بين المواطنين. يقتضي أن لا تخضع لابتزاز الأعيان الذين يريدون البقاء فوق القانون”.. واشترط سليم تقلا في أهل الحكم: الوقار والحزم والصلابة…”.

 

لا ريب في أنّ الصلابة، هذه الكلمة – الفضيلة، تأخذنا إلى اثنين من كبارنا: سمير عطالله الذي كتب في جريدة “النهار” بتاريخ 10/1/2010: “لست أدري كيف يستطيع الكاثوليك- وخصوصاً الزحالنة منهم – الجمع بين الصلابة والوداعة إلى هذا الحدّ”. وكذلك نجيب صدقه، أمين عام وزارة الخارجة والمغتربين أواخر ستّينيّات القرن الماضي والسفير لدى فرنسا لاحقاً، الذي ترأّس بدايةً وفد لبنان إلى القاهرة. ولمّا بلغه أنّ شخصًا آخر يترأّس الوفد بدلًا عنه للتوقيع على اتّفاقية القاهرة في 13 ت2/1969، مخالفًا موقف صدقه المتصلّب، عاد فوراً إلى لبنان غاضباً ورافضاً أن يكون شاهداً على توقيع اتفاق يطعن سيادة لبنان ويمهّد لنزاعات متلاحقة. ردّة فعله على ما جرى ذكرتها Josette Alia في كتابها “Quand le soleil était chaud “: “رئاسة الجمهورية:” أتستحقّ المخاطرة بكيان الوطن وزعزعته رغبة وطمعاً بالوصول إليها”؟! لا بدّ هنا أيضًا من التذكير بأنّ نجيب صدقه وضع كتابًا شهيرًا عنوانُه “قضية فلسطين” صدر في آب /1946، فعَدّه المفكّرون السياسيون مرجعاً استثنائياً يجمع المقاربة الأكاديمية إلى النظرة الرؤيوية للمضاعفات الكارثية لإنشاء إسرائيل على الشرق الأوسط بكامله”.

ومن ثمّ، لا عجب من موقف سليم تقلا الذي دأب على تحذير الحكّام ومن هم في السلطة من ازدواجية الجمع بين مصالحهم الماليّة الخاصة ومصلحة الشعب. عندما سئل Sebastian Piñera رئيس جمهورية سابق في تشيلي: “من تراه الحاكم الذي يفضّل مصلحة الدولة على مصلحته الشخصية المالية؟ أجاب: “اثنان يلتزمان هذا المبدأ: القدّيسون والأموات”. في ما يسمّيه علماء السياسةConflict of interest . لذلك كتب العارفون أنّ ثقة الرئيس الشيخ بشارة الخوري بسليم تقلا أصبحت مع الأيام شبه مطلقة. وكان على أطيب العلاقات مع الرئيس رياض الصلح، لكنّه لم يتردّد في التعبير عن قناعاته وانتقاد آرائهما إذا ما تعارضت مع ما به يؤمن. كان يجيد قول كلمة لا.

 

من المفيد هنا التأمّل في عبَر السياسة العالميّة حتّى ندرك قماشة الرجل اللبنانيّ العريق الذي نستحضر ذكراه اليوم! كتب الرئيس جون كنيدي: “من أخطاء الحكّام اعتمادهم غالباً على مستشارين دعاهم “Yes Man” . آمن بأنّ حَمَلة المباخر يسيئون إلى الحاكم فيضعف بصره وتتضاءل بصيرته. George Kennan السفير الأبرز في تاريخ الدبلوماسية الأميركية. أطلق نظرية الاحتواء ((Containment التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. دعاه كنيدي: Mi Mentor (المعلّم المخلص والناصح) لأنه اعتمد قول الحقيقة. “قولوا الحق والحق يحرّركم” وقول “لا” عند الضرورة.

تعزيز منعة الدستور اللبنانيّ

على هذا النحو، اجتهد سليم تقلا في تعزيز منعة الدستور اللبنانيّ. فاقترح أن تكون فترة رئيس الجمهورية خمس سنوات، ولا يحقّ للرئيس الترشّح ثانية إلّا بعد انقضاء خمس سنوات على ولايته. في يقينه أنّ التجديد رغبة مرضيّة مهلكة رافقت الغالبية الساحقة من رؤساء الجمهورية. أكّد الجنرال ديغول أنّ التجديد هو أحد مسبّبات النزاعات والحروب الأهلية في لبنان. وللسفير الأميركيّ Robert Murphy مبعوث الرئيس أيزنهاور الى لبنان والشرق الأوسط في كتابه Diplomat among Warriors الرأيُ ذاته، إذ إنّ إعادة تقييم الأوضاع اللبنانية المعاصرة تقودنا إلى الحقيقة التالية: في حال اعتمد الدستور اللبناني اقتراحَ سليم تقلا والعمل بموجبه، لَتمكَّن لبنان من اجتناب العديد من النزاعات والأخطار والمآسي.

 

أفليس علينا أن نتّعظ بتجربة المكسيك في هذا المضمار! إليكم الجنرال Porfirio Diaz رئيس المكسيك أواسط القرن التاسع عشر، وقد أغوته السلطة – غالباً ما تفسد – حكم بلاده على امتداد خمسة وثلاثين عاماً. أحدث هذا الواقع ثورة شعبية عام 1910 قادها Pancho Villa و Emiliano Zapata طالبًا التخلّص من التجديد ونهاية الديكتاتوريات. بوصول الثوّار إلى مكسيكو العاصمة توجّه Zapata إلى مكتب رئيس الدولة وصبّ نار غضبه وثورة الناس على كرسي الرئاسة ف”أحرقها” وأحرق معها مقولة “من العرش إلى القبر”. اعتبرها مكمن الداء وعلّة العلل التي جرّت الويلات على البلاد والعباد. من ثمار الثورة دستورٌ جديد يحدّد الولاية الرئاسية بستّ سنوات غير قابلة للتجديد أبداً. وبعدئذ عرفت المكسيك استقراراً سياسياً وازدهاراً اقتصادياً، فلا زعامة إلى الأبد ولا توريث السلطة للأبناء والأحفاد، ولا لإنشاء عائلات سياسية على طريقة “إذا مات منا سيّد قام سيّد”. حتى إذا عاود الرئيس حنينٌ إلى السلطة، أدرك تمام الإدراك أنّ أمامه طريقَين لا ثالث لهما. المنفى أو القبر… وفي الأزمنة الحديثة تجسّد المنفى الذهبيّ لرئيسَين سابقَين في سفارتي المكسيك لدى إسبانيا وأوستراليا. 

من مآثر سليم تقلا تأسيسُ وزارة الخارجية. في امتحان الدخول إلى السلك الدبلوماسي أصدر تعميماً واضحاً: من كان الأول في الامتحان – أياً كانت طائفته أو مذهبه- يحقّ له أن يختار المركز الذي يريد. فكان إدوار غرّة، وهو أيضًا كاثوليكيُّ المنبت، الأوّلَ بين المرشّحين، فاختار قنصلية لبنان العامة في نيويورك. وفشلت جميع محاولات في تغيير هذا المبدأ.

وعلاوةً على ذلك، اعتمد سليم تقلا معيار الكفاءة شرطاً جوهرياً للوصول إلى السلطة وطبّقه بحذافيره، أي ما يدعوه علماء السياسةMeritocracy أكثر من شعار ال Democracy وهي غالباً مفهوم رمادي–غامض. الدمقراطية اللبنانية! لنتذكّر أنّ ميشال شيحا دعاها “الدكتاتورية المقنّعة” لأنّها بُنيت على هيمنة الطوائف الكبرى على الطوائف الصغرى، وهيمنة الزعيم الطائفي على باقي الزعماء في لبنان”. ثمّ تعدّدت التسميات: دمقراطية توافقية – دمقراطية ذات خصوصية لبنانية، مما دفع أحد المفكّرين اللبنانيين إلى القول: “الدمقراطيّة في لبنان؟! كم من الأخطاء والخطايا تُرتكب باسمك”!

 

إيضاحًا لمفهوم الدموقراطيا، يجدر بنا هنا أن نتأمّل في كتاب :Lewis Gadis “George Kennan: An American Life”. أطلق Kennan صرخة مدوية: “إني أكره الدمقراطية. أرغب التعبير عن إعجابي بال “أوتوقراطية المحافظة” كمثل النمسا ما قبل الحرب أو حكم أنطونيو سالازار في البرتغال. أمّا المؤرّخ الفرنسي الكبير Dominique Chevalier فوصف الدمقراطية العربية بأنّها “دمقراطيات قبليّة”. ولجورج برنارد شو قولٌ مأثور: “لا تصلح الدمقراطية الحقيقية في مجتمع جاهل لأن أكثرية من الحمير ستحدّد مصيرك”.

وزراء خارجية لبنان في ذاك الزمن السعيد

ولكي لا يقتصر الأمر على امتداح سيرة الرجل الاستثنائيّ سليم تقلا، لا بدّ هنا من التنويه بوزراء خارجية لبنان في ذاك الزمن السعيد كما عرفناهم. ها هوذا فؤاد بطرس يجسّد مثال السياسيّ اللبنانيّ الحصيف النزيه. كتبت عنه في 10 تموز/2010: “في تارخ لبنان الحديث سيبقى اسم فؤاد بطرس مثالاً للعقل والتفكير الرؤيوي. عندما أعطي لبنان أن يكون فؤاد بطرس من قيادييه، فرض بشخصيته الفذّة احترام قادة العالم يومذاك، فارتاحت له وكبرت به الأمة وتباهت”. وكتبت له من فيينّا في 25 تموز/2005. “عندما تمّ اقتراح فؤاد بطرس وزيراً في حكومة إنقاذ، كان الخبر كومضة ضوء في عتمة ليل لبنان الطويل. وتساءلنا: هل تحمل هذه التركيبة السياسية الواهبة منذ الطائف رجل دولة بثقل فؤاد بطرس (فالرأس كبير كبير كما كتب خليل رامز سركيس). وهذه الوزارة التي انضممنا إليها أواسط ستّينيّات القرن الماضي كبرت وكبر لبنان بمن كانوا على رأسها وتكابرنا بهم وبها. أتقبل باعتماد سياسة “إلّا للبنان ما دانوا ولا احتكموا” (كما في شعر سعيد عقل)؟ 

هذه الوزارة!؟ هل من رافعة بعدُ تنشلها إلى رحاب حكم القانون والنظام والشفافية؟ كيف السبيل إلى إنقاذها من معيار “الولاء للزعيم الأوحد معياراً للحكم على أبنائها بدل الكفاءة والخلفية والضمير المهني الحيّ؟ ويبقى كتاب فؤاد بطرس “فؤاد بطرس المذكّرات” الصادر في ك2 /2009 مرجعاً أساسياً للإضاءة على أوضاع لبنان وما يواجهه من أخطار وما يخبىء له المستقبل.

 

كيف لنا ألّا نذكر أيضًا علمًا من أعلام اللبنانيّين الروم الملكيّين الكاثوليك، عنيتُ به فليب تقلا: وزير الخارجية والمغتربين، وحاكم المصرف المركزي، وسفير لبنان لدى فرنسا. جمعت شخصيته المزايا الحميدة التي ميّزت أخاه سليم: القيَم الخلقية، والعقل الراجح، والمشاعر اللبنانية السامية، والمواقف الصلبة دفاعاً عن لبنان وشعبه. كان لقاؤنا في سفارة لبنان في باريس ربيع 1968 في طريقي إلى البرازيل بمهمّة دبلوماسية ذات علاقة بالمغتربين. نغتني بتجاربه في الشأن العام ورؤيته الثاقبة الى أوضاع لبنان ومستقبله.

في زمننا الحالي وعودٌ إلى بدء. لئن أطلّ سليم تقلا من عليائه يواجهه مشهد سياسي يتعذّر عليه إدراك خلفيّاته الدستورية والقانونيّة وإيجاد ما يبرّره: أن يُحرَم مَن انتمى مثله إلى طائفة الروم الكاثوليك الملكيّين من الحصول على وزارة “سياديّة” كمثل الخارجية والمغتربين، وهو مؤسّس هذه الوزارة وراعي بداياتها! وماذا عن الكفاءة التي آمنّا بها سبيلاً إلى الترقي!؟

أستحضر هنا الدكتور بشاره منسّى وكتابه “الدستور اللبنانيّ: أحكامه وتفسيرها” الصادر باللغتين العربية والفرنسية، وهو مرجع موثوق لرجال القانون المختصّين، والمستشار القانوني لمجلس من عام 1970 حتى 1997 والذي شارك في جلسات الطائف. أكّد لي أنّ الدستور اللبناني شدّد فقط على التوزيع العادل للوزارات بين الطوائف. وأشار إلى أنّ استبعاد مذهب طائفيّ معيّن من وزارة سيادّية يعتبر مناقضاً ومخالفاً للدستور والمبادئ الدِّموقراطية.

***

* “النهار”

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *