هندسةِ البناءِ الأسلوبيّ في رواية “سهْراب يبعث من جديد” لـ زينب يوسف
إبراهيم رسول
البناءُ الأسلوبيُّ في الروايةِ التي تعودُ إلى التاريخ لتأخذ مادتها الخام منه يستدعي أنْ تكونَ اللّغة غير عادية والأحداث تجري بأسلوبٍ إبداعيٍّ جديدٍ حتَّى لا تُقدم الرواية على أنَّها حشوٌ كلامي لا غير، وهذا السردُ صعبٌ جدًا، إذْ تكمن الصعوبة من العتبة الأولى حتَّى نهاية التصميم النهائيّ للعملِ الإبداعيّ، لهذا نقرأ على سبيل ِ المثال، رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، فالروائيُ اِستطاع أنْ يخلقَ الكثير من الأحداث والشخصيات لكيْ لا تبدو الرواية عن سرد لا جمالية فيه، ومن هذه الروايات أيضًا، رواية الأخوة كارامازوف للروائيّ الروسيّ دوستويفسكيّ الذي كتبها بأربع مجلداتٍ ضخمة، لكنها أصبحت من الشهرة ما جعلها تُعد من الروايات المهمة في كُلِّ عصرٍ ولكلِّ جيلٍ جديد، ومن بين الروايات أيضًا الجديدة، ورواية “بندول فوكو” أو “طبل الصفيح” وغيرها الكثير جدًا من الروايات الطويلة،
رواية “سهراب يبعث من جديد” للكاتبة زينب يوسف الصادرة عن دار نينوى، تحكي قصص كثيرة وهذه القصص تاريخية، هذه العودةُ إلى الوراءِ تستدعي من الكاتبة الإلمام الواسع في التاريخ الدينيّ والسياسيّ وقراءة غير عاديّة في الأحداث وأثرها على الإنسانِ وانعكاسها على المستقبلِ، فحينَ تقرأ الكاتبة بنفسٍ علميٍ وهمّة عالية، لتجيءِ بعمليةِ إعادة إحياء القديم بثوبٍ جديد، فهي تحكي قصة حُبّ تنشأ في قرية فارسيّة، وبداية من الاسم تعملُ الكاتبة على الخروج من الرؤية عن إلى الرؤية في، أيْ أنَّها لا تقرأ الأحداث بالنقلِ بلْ هي انغمست في الأحداث لتصوّر لنا الصراع النفسيّ، لأنَّ الرؤية التي تدخلُ في عمقِ الشخصيات القديمة يحتاجُ إلى غوصٍ في باطن الشخصيّات وهذا ما فعلته حين رسمت ملامح الصراع النفسيّ في الشخصية المركزية، هذه الشخصيّة المهمة تبدو هامشيّة إلاّ إنَّ ما خلقته الكاتبة جعلَ من هذه الشخصية تكونُ مركزيةً، فهذا الخلقُ من جديد، أعطى أهميّة كبيرة لشخصياتٍ كانتْ هامشيّة، وهذه المركزية هي مركزية إنسانيّة، أيْ أبرزت الجانب الإنسانيّ لهذه الشخصيّة التي مرّت بأطوار وأحوال كثيرة بدايةً من الغُربة الوجودية التي عاشتها عبر اليُتم وانعدام الأقارب من جهة الأب وسفر الأقارب من جهة الأم إلى مصر، هذا يعني مواجهة حقيقة مع الحياة فريدًا.
تقنية السرد الطويل
تقنية الحكي الطويل أو السرد الطويل، تُريد أزمة كثيرة، ولكن ليست أزمنة هامشيّة، تقول الكاتبة: عمل فريد حفار قبور مُذ وطأت قدماه هذه القرية، أما عمله السابق فكان في النجارة، التي ورثها عن والده منذ طفولته، وفي إثر مجموعة من المآسيّ المتوالية من فقدانِ أمه وحبيبته، وزواج أختيه، وسفر أخوية إلى حلب ليعملا في التجارة، عزم على ترك قريته التي شبَ فيها ليرحل إلى أيّ مكان آخر يمكن أن يمنحه الأمل في حياة أقلّ مأساوية.( الرواية: 10). الكاتبةُ تختزلُ أزمنة وأمكنة وحوادث في أربعِ أسطرٍ، هذا الاختزالُ إشارة إلى عدم أهمية الأحداث في هذه المدة الزمنية التي جاءتْ في السردِ كنوعٍ من الإضافات التي لا بُدَّ منها.
العنوانُ طويلٌ نسبيًا، كأنَّ حجم الرواية يتناسبُ مع العنوان، فعلُ البعث إشارة رائعة وبليغة، فالبعثُ يكونُ بعد مدة من الخمول والفتور، والبعث يجيء كخلاص وبشارة وأمل، لهذا تتصف الرواية بأنَّ الأملَ فيها، ( سهراب يبعث من جديد)، يحكي قصة كاملة بأمكنتها أزمنتها وحوادثها، لكني في هذا المقال سأعنى بموضوع السرد الطويل وهندسته .
الروايةُ ترجع بنا إلى الوراءِ، إلى الماضي لتأخذ منه الإلهام، وبالفعلِ كانَ الإلهامُ حاضرًا في مخيلتها، فهي تستدعي أحداثًا وشخصيات وأمكنة قديمة، إلاّ أنَّ ما تحتاجه هذه الرواية هو الحديث بلُغةِ الزمن الذي تدور فيه الأحداث، فنحنُ لو قرأنا الحوار الذي دار بين فريد والشخص الذي لقيه في مكان كرم زيتون ودار حديثٌ بينهما، الراوية مهيمنة ومسيطرة على الشخصيات، فعل الماضي الناقص ( كان) وردَ بكثرة، كأنَّ الكاتبةَ حكواتيّة تحدّث الناس عن قرب، وهنا يكونُ عليها سلك سبيل التشويق والشد والجذب، الصعود والهبوط، التلاعبُ بالمفردات اللغوية وتحريك بعضها، كنوعٍ من المشاركة في بثِّ التواصل الصوتيّ، لهذا لوْ تركت الشخصيات تحكي عن نفسها وتعبّر عن ذاتها لكان التفاعل أكثر، فهي تصف الشخصيات بالطيبةِ والدماثةِ( الرواية: 11)، إذ ينبغي أنْ يقرأ َ القارئ الفعل الذي يدلُ على الطيبة والدماثةِ.
ما يُرهق السرد الطويل، هو هذه النزعة الوصفية المهيمنة من قبل المبدعة، فهي عالمةٌ عارفةٌ، تُهيمنُ الفكرة في مخيلتها فتجعلها تُمارسُ سلطةً على شخصياتها، فنحنُ نقرأ مشاعر الشخصيات من خلالِ رؤية الكاتبة لها، وليسَ من الفعل الذي يشدنا إليها، ثمَّة ميزة في السردِ التاريخي الذي يتمحور في قصص الفلاش باك، هي ميزةُ السرد التتابعي الذي هو أقدم الأساليب البنائية، فالروايةُ تعتمدُ عليه في هندسته الرواية، وتأخذ الرواية بالتصاعدِ شيئًا فشيئًا حتَّى ذروة العقدة.
اللُغة الأنيقة في السرد المرهق
تعتمدُ المبدعة على لُغتها الأنيقة في هذا السرد المرهق، الذي يحتاجُ إلى لُغة أنيقة تُعبّر عنه التعبّير الأنسب، ولكن يبقى السؤالُ الذي يلّح، أينَ الحوادث العامة التي ينبغي أنْ تؤثرَ في شخصياتها التأثير الواضح الملموس؟ الشخصيةُ تتفاعلُ سلبًا وإيجابًا مع الأحداث العامّة، هذه الرواية تبرز الشخصيات عبر منولوج تُحكى من خلاله، لأنَّ الحياة العامة هي صورة تُكوّن الشخصية، أينَ هي الحياة العقلية والدينية والسياسية لمجتمع تلكَ الفترة؟ هذه الأسئلةُ مكانها هنا يبدو ثانويًا وكانَ الأولى بها أنْ تبدو مركزية وتجيء القصّة من خلالِ الحدث، هذا وجهٌ من وجوه القراءة النقديّة، التي تُراعي الحياة العامة على الحياةِ الخاصة، وهنالك وجهٌ آخر، يعتبرُ الوجه الثاني من أوجه القراءة النقديّة، وهو الوجهُ الذي يبحثُ في الشخصية بما هي عليه وفيه، وهذا هو ما اِشتغلت عليه الرواية، فهي تبحثُ في إنسانِ هذه الرواية وليس في الأحوال العامة فحسب، لهذا سنقرأ هندسة السرد من وفق المنظور الثانيّ.
الهندسةُ هي التخطيط المُسبق الذي يعتمدُ على العقلِ في البناءِ، وعلى الخيال في مادةِ هذا البناء، وأحسبُ أنَّ الميزتينِ قدْ وردا في الرواية، فهي طويلةٌ ولكنها غير مُملة، وأجزائها خمسة لكنها كثرة غير مفرطة، لهذا نسجّل للكاتبةِ أنَّها تشتغلُ على إبراز القيمِ الإنسانيّة في إنسانِ تلك الحقبة التاريخيّة، وأحسبُ أنَّ روائيًا مُعاصرًا قدْ اشتغلَ على هذا اللون في الإبداع الروائيّ وهو الروائيّ يوسف زيدان كنموذجٍ يقتربُ من اللون الذي اِشتغلت عليه المبدعة زينب يوسف في روايتها، لكن لكلٍّ منهما طريقتهُ الخاصة في النظر ِ إلى الحوادثُ، لهذا تبدو بصمتهما واضحة على العملِ الإبداعيّ.
الراوي العليم أو الأعلم بكُلِّ شاردةٍ وواردةٍ تخصّ عمله، سيؤثر على اِتجاهِ البناءِ الفنيّ، لهذا فحينَ تكونُ الهيمنة كثيرة تفقد الرواية متعتها لأنَّها تبدو كأنَّها وجهُ نظرٍ يُراد إرسالها إلى القارئ، لكن ما فعلته الكاتبة في هذه الرواية، أنَّها حينَ يكونُ الحوار يخص الجانب الفكريّ للشخصية تنزوي إلى الوراء، وتترك الحديث للشخصية فتبدو مجرد ناقلة، هذه ميزةُ في السردِ الطويل، لأنَّ الشخصيات قدْ تكونُ حيّة ولا يمكنُ لكَ أنْ تتقمصَ دورها وطريقتها أو ثقافتها، لهذا نقرأ في الحوارات الشخصيّة ترجع الكاتبة إلى الخلفِ لتتصدر الشخصية المشهد.
لهذا تبدو الرواية بأقسامها الخمس، أنَّها تتناصفُ بينَ الشخصيات والكاتبة من حيثِ الجانبِ الحكواتيّ السرديّ، الوصفُ للكاتبةِ والحوار للشخصيات، هي حُرّة، تتحرك أنّى شاءت، لكُلِّ رواية مادة خام تكونُ مادتها الأصل، ومنها تُستخرج الثيمات، إلاّ أنَّ المادةَ الخام حينَ تكونُ تاريخية فهذا يجعلُ المهمة تكونُ أصعب وأعقد على المبدعة، من حيثِ أنَّ الجميعَ سيشترك معها في صحّةِ هذه الشخصياتِ أو الأحداثِ، لهذا أجدُ أنَّ للمُبدعةِ ثقافة واضحة في مادّتها الخام، الذي تشكّل منها موضوعها الرئيس، وتجيء المعرفة الثقافية في الفنِ الروائيّ كطريقة تعبّر من خلالها عن رؤيتها الشخصيّة في الحوادث التي تسردها، لهذا فالهندسةُ البنائية اِعتمدت على البناء التتابعي التسلسليّ الذي هو ميزةٌ خاصّةٌ للروايات التي تُصنّف أنَّ مادتها من التاريخِ.
السردُ الطويلُ يعنى به هو السرد الملحميّ في صورةٍ من صورهِ، إلاّ أنَّ العصرَ الجديد صارتِ الرواية، هي وجهةٍ من وجوهها هي ملحمة روائيّة، وقراءتنا لهذا المصطلح ( أي السرد الطويل) يجيء بهذا المعنى، فالروايةُ فيها مساحة سردية واسعة وكثيرة، والكاتبة اعتمدت على الخزين الثقافيّ التاريخيّ لروايتها، لهذا نجدُ في الرواية فضاءً واسعًا في إعادة البعث الجديد لحقبة تاريخيّة ماضيّة، هذا الماضي الذي يُستعاد أدبيًّا هو بعثٌ جديدٌ أو قراءةٌ جديدة مُعاصرة، لهذا يلجأ الكثير من المبدعينَ/ المبدعاتِ إلى إعادةِ الخلق أو ما تقول الرواية البعث من جديد، عصرنة التاريخ عملية جدًا معقدة وتقف الكثير من المُعوّقات التي تُقيّد هذه العملية، لكن المبدعة تسلّحت بمعرفتها بالتاريخِ وخلصت إلى ما خلصت إليه في روايتها.