سجلوا عندكم

تحيَّة إلى الكلمة الحُرَّة يواكيم مبارك

Views: 90

د. الهام كلّاب

في بداية ستينيَّات القرن الماضي، عندنا أنعمَت عليَّ الحياة بمُتابعة دراستي في باريس، كانت عيناي مفتوحتين وأذناي سامعتين، حيال كل ما أراه وكل ما ألتقيه. وهناك التقيت ولصُدف الحياة الجميلة الأب يواكيم مبارك الذي كانت تربُطه بطُلَّاب لبنانيِّين الصداقة والمشورة والتقدير.

هو  كاهنٌ  لبنانيٌّ مُهاجرٌ، إرادةً وقسرًا، إلى باريس، والذي اختطَّ لنفسه إيمانًا مسيحيًّا، وفكرًا نيِّرًا، وتواضعًا عريقًا، وموقعًا روحيًّا وإنسانيًّا ووطنيًّا لا يخضع ولا يُساوم.

ولد يواكيم مبارك سنة 1924 (أي تقريبًا منذ قرن) في كفرصغاب البلدة المُشرفة على وادي القدِّيسين شمالي لبنان، وتوفي في فرنسا في ٢٤ أيار سنة ١٩٩٥.

درس في إكليريكيَّة غزير، وبعد  سيامته كاهِنًا، استقرَّ في فرنسا، حيث  حاز علی ثلاث شهادات دكتوراه من جامعة باريس، مُتخصِّصًا في العُلوم الإسلاميَّة والعربية، متقنًا للُغَّات عديدة منها العربيَّة والسريانيَّة والفرنسيَّة واليونانيَّة، تلميذًا للفيلسوف وعالِم الاجتماع لويس غارديه، والمستشرق الكبير لويس ماسينيون (١٨٨٣-١٩٦٢) الأستاذ في الكوليج دوفرانس وعميد الدراسات الصوفية في الإسلام.

بعد تخرُّجه درَّس يواكيم مبارك في جامِعة السوربوں في باریس وفي  الجامعة الكاثوليكيَّة في لوزان في بلجيكا، عن الديانة الإسلاميَّة في عقيدتِها.  

هو العلَّامة والذي يستحقّ هذه الصفة، في علم اللاهوت، والأديان، والتاريخ، والسياسة،  من خلال معرفةٍ عميقةٍ بالأديان، وقواسِمها المُشتركة، ورؤيةٍ مُنفتحةٍ على إشكاليَّات الماضي وقضايا الحاضِر ورؤى المُستقبل.

أصدر العديد من الكُتب والمؤلفات باللُّغة الفرنسيَّة حيث عاش، وهو ما لم يساعد برحابة على نشر فكره عامة.  لذا كان لاهتمام بعض دور النشر الرائدة بنشر الترجمات، ولاهتمام د. جورج قرم (المُكرَّم اليوم أيضًا في هذه الحلقة) بفكره ونتاجه – مع تشابُه المقاصِد والرؤى- الفضل في تعريفنا بهذه الشخصيَّة الموسوعيَّة في العلم، والإنسانيَّة، والوطنيَّة.

لقد كتب الأب مبارك وحاضر بإيمان، وجرأة، وصِدق، وتأنٍ، واستثارة للأفكار، وتفكيك للحجج وصياغة للأحداث، وأصدر خاصة خُماسيَّاتِه، وهي مجموعاتٌ موسوعيَّة من خمسة أجزاء علميَّة، تضمُّ وثائقَ، وشهاداتٍ مُنتقاة بحريَّة، في مسار حياته وفِكره التنويري والروحي والإنساني.

هي في “الخُماسيَّة الإسلاميَّة- المسيحيَّة” وهي “الخُماسيَّة المارونيَّة” عن التاريخ الماروني في مُستوياته الثلاثة، المسكونيَّة أي وحدة إنطاكية وتماسُك التاريخ الشرقي والعربي للكنيسة، والسياسيَّة في الانتماء إلى العالم العربي، والثقافيَّة في التراث المُشترك لكلّ حضارات الشرق.

يدعو إلى عدم الخلط بين ما هو زمني وما هو روحاني، ويعتبر أن اليوم الذي يَفقِد فيه الموارنةُ دورَ الوسيط بين الديانات والحضارات والشعوب، يفقدوں سِرَّ وجودهم.  لقد دعا الى إعادة بناء لبنان كنموذج يُحتذى، وكمختبر، وإلى إنشاء مجلس حُكماء، ويقول:

“لبنان ضروري للمسيحيَّة جمعاء، وللإسلام أجمع، ولن يحققا مصيرهما الا معًا، حيال محاولات تقسيم الشرق إلى دول دينيَّة في اقتراح الداء كدواء”.

تميَّز نِتاج الأب مبارك بالفِكر المُنفتح، العارِف بتجارب الماضي، والداعي إلى آفاق الحاضر والمستقبل، والساعي بإيمان متين إلى التفاعُل والتبادُل والتآخي والانسجام بين الناس والأعراق والأديان وبين الدول، وخاصة بين لبنان والعالم العربي، والداعي إلى إدانة الظُّلم والعُنف والعُنصرية والعصبيَّة.

من هنا، تركز اهتمامه على تاريخ العلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة من خلال البحث عن جُذور القواسِم المُشتركة وتفسيرِها وتطويرِها، وعلى قضيَّة فلسطين، حيث ندَّد بالموقف السلبي القديم للكنيسة، وبتقديم الحجج التوراتيَّة، وبتحوُّل اليهود إلى الصُّهيونيَّة وإنشاء دولة إسرائيل – وهي كما يقول: “كأنها صكّ مُلكيَّة عقاريَّة في أرض فلسطن”. واحتجَّ بسُخطٍ ومرارة على احتلال القُدس.

وحذَّر منذ منتصف القرن الماضي من تأسيس الكِيان الصُّهيوني المُهدِّد للكِيان اللُّبناني الذي هو المِثال المُعاكس، بسبب تعدُّد طوائفه وتداخُل تاريخِها وتعايُشِها على مرّ العصور.

ولا تزال كلّ هذه القضايا تؤرق حاضرَنا وتهدِّدُ مُستقبلَنا.

لم يتوقَّف يواكيم مبارك عند سعيه الروحي ونضاله الفكري والتعليمي، بل تجلَّى التزامُه الصادِق بالعودة إلى لبنان خلال الحرب الأهليَّة  في سعي رسولي ووطني لمُصالحةِ الجِهات المُتحاربة والدعوة إلى التوافُق ونبذِ العُنف واعتماد لُغة الحِوار.

من الناحية الدينيَّة، كان يحاول مُواجهة انحسار الدور الروحي والمعنوي للكنيسة وتحديدًا  دورَها الوطني، فحاول إقناع البطريركية وكنيسة روما بضرورة انعقاد مجمع ماروني (وهو هيئة من رجال الدين الكبار المجتمعة للنظر في بعض القضايا الكنسيَّة) وذلك بعد انقضاء قرنين ونصف علی آخر مجمع في اللويزه ١٧٣٦، لمُناقشة موقِع الكنيسة من تحديَّات العصر في لبنان والشَّرق.

 حاول يواكيم مبارك الانصراف التام بجديَّة لتحضير هذا المجمع الذي استنفذ قواه، ولكن الأولويَّة أُعطيت لمؤتمر المجمع الشرقي إنما في روما، ولم ينعقد مجمع محلي سوی بین عامي ٢٠٠٣- ٢٠٠٥، وبعد مُغادرته هذه الدنيا.

في خطاب ألقاه في باريس سنة ١٩٨٧، أكد العودة إلى كنيسة إنطاكية، ورفض حرفية الكتاب المقدس، والاهتمام بتناغُم البشريَّة، والتعاضُد مع كل الشُّعوب التي تُعاني الاضطهاد.

 أما  بالنسبة الى لبنان، فقد ركز على إعادة بناء لبنان تحرُّري خلَّاق كنموذج ومُختبر، وإلى إحياء النهضة العربية في مواجهة الأصوليَّات، وإلى تفاعُل الثقافات والسعي دومًا إلى القواسِم المُشتركة.

لقد تميَّزت حياتُه اليوميَّة، والفكريَّة، والروحيَّة، بالرؤية المُنفتحة الشاملة لتجارب الماضي ولآفاق الحاضِر والمُستقبل، وبالسعي بإيمان متين إلى التفاعُل والتبادُل والتآخي والانسجام بين الدول وبالدعوة إلى إدانة الظُّلم والعُنف والعُنصريَة والعصبيَّة.

***

أودُّ أن أختُم هذه المُداخلةَ السريعة بخطابٍ مُعاصر للبابا المنتخب هذا الشهر ليون الرابع عشر وكأنه يخاطب الأب مبارك من خلال التاريخ: “إلى من سئموا من إساءة استخدام السُّلطة، ومن الكنيسة التي تبدو أحيانًا  كقصر أكثر منها كبيت. الله لا يحتاجُ  إلى جُنود، يحتاجُ إلى إخوة.

       وأنت نعم، أنت واحدٌ منهم”.

***

* ألقيت في ندوة  ثقافية نظمتها دار  “أبعاد”  بعنوان “تحية إلى الكلمة الحرّة”، كُرِّم خلالها ثلاث قامات فكرية وثقافية: الدكتور جورج قرم، الكاتب جان داية، والأب يواكيم مبارك،  ضمن  معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 66، بيروت – سي سايد أرينا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *