أبو شيار: الشعر العمودي نبع جمال غريب
هو فارس من فرسان القصيدة العمودية في المغرب، ظلّ لعقودٍ وفيّاً لهذا الشكل الشعري العريق، يصدَح به في المحافل. رسخ إسمه في المشهد الشعري وأحبّه جمهور الشعر بالرغم من تأخّره في إصدار دواوينه الثلاثة: “فَيْض الأباريق” و”معارِج الروح” و”أوتار النزيف”. إنه عبد العزيز أبو شيار الذي حلّ ضيفاً على الميادين الثقافية وحاوره ميلود لقاح.
لماذا تأخّرت في إصدار دواوينك الشعرية؟
كثيراً ما طُرِحَ عليّ هذا السؤال في مناسباتٍ عديدة. تعود بداية كتابتي للشعر لمرحلة الإعدادي حيث كنت أكتب بعض الخربشات على أوراقي وسرعان ما أرميها ، لأنني لم أكن أهتم بتدوينها أو حفظها، ولم أفكّر وقتها في جمعها أو طبعها في ديوان، لأن فكرة الطبع في حدّ ذاتها كانت غائبة عني رغم أني كنت أشارك في عدّة مناسبات بقراءاتٍ شعرية. مرت سنون كنت خلالها أكتب في أوراق هنا وهناك وتأخّرت – فعلاً – في نشر كتابي الأول، بسبب تردّدي وتوجّسي حيال ما أكتبه من شعر، هل فعلاً يرقى لما أصبو إليه من جمالية اللفظ والمعنى؟ أو هو اجترار لما قيل؟
كنت دائماً أتردّد في الطبع غير أنني سنة 2010 استجمعت شجاعتي وقرّرت إخراج أول ديوان إلى الوجود وهو “أوتار النزيف” وكانت جلّ القصائد فيه تُعبِّر عن هموم الأمّة العربية وقضاياها الكبرى كفلسطين والعراق.
اخترت الشكل العمودي وظللت وفياً له في زمن كَثُرَ فيه الحديث عن الحداثة الشعرية. لماذا؟
لأنني أحبّه كثيراً وأميل إليه، لأنه هو الأصعب ولأنه أكثر أصالة، فلو جلست في مجلس هل ستجد أحداً يستشهد بشعرٍ حر؟ الجواب: لا! إنما يُستشهد بالشعر العمودي. ليس التجديد بالألفاظ والقوالب وإنما في المعاني وأصالة اللغة، نحن نسعى إلى إبقاء اللغة العربية في الذروة دائماً ولا نتركها تموت، ولم يخلُ عصر من العصور من شعراء كبار يجدّدون ويحافظون على أصالة اللغة التي ينتمون إليها مع وجود أطراف حاولت طَمْس هذه اللغة. تمسّكنا بالعمودي لهذه الأغراض لتبقى العربية على روعتها وفخامتها، ونحن لا نقول إن القوالب الأخرى لا توجد فيها جمالية، ولكن ليس من مصلحة اللغة العربية أن يُطمَس الشعر العمودي وأن يذهب أدراج الرياح. ولا ننسى أن شعر التفعيلة مأخوذ عن ثقافة أجنبية، فكلما كان الشاعر أقدر وأكثر تمرّساً في اللغة والأداء يأتي بالروائع العمودية، والمثل الذي لا يغيب عن العين الشاعر أحمد شوقي الذي استطاع أن يُبقي على جلالة اللغة العربية وعارض عيون الشعر العربي لأعظم الشعراء العرب فأجاد مثل أصحاب تلك القصائد وربما تفوّق عليهم، كنونية إبن زيدون وسينية البحتري ومع أنني أتنفّس الشعر العربي الأصيل، إلاّ أنني من الذين لا يحجرون على العقل المُبدِع أيّ إبداع وأعتقد أن القصيدة العمودية مازالت حيّة وقادرة على استيعاب قضايا الإنسان ومشكلات العصر، بشرط التمكّن من عَجْن اللغة وإعمال الفكر والتحليق في أجواء الخيال البديع. وأرى أنه ليس من السهل أن نكتب العمودي إذ لا بدّ من أن تجهد نفسك وتتصبّب عرقاً لتولَد القصيدة تلك الولادة العسيرة بمعانيها الجميلة وبشطريها ووزنها وقافيتها.
الشعر العمودي حصان نافر في ثنايا المُخيّلة، عصيّ على كل ضرورة، فهو برق، وبئر أسرار، ونبع جمال غريب، هو الضرورة المُقيمة في لُغزها العصيّ وهو كوكب الكلمات السابِح في كونه الشخصي يُغامِر في الوصول إليه عشاقٌ مسحورون مسكونون بالكلمات الجميلة والموسيقى الغنية على إيقاع عروض الخليل. لكنني رغم حبّي الشديد للعمودي فإنني لا أرفض شعر التفعيلة، بل أحبّه أيضاً وقد ورد في ديواني الأخير “معارج الروح” ست قصائد من شعر التفعيلة أو ما سُمّي بالشعر الحر. وعلى كل حال فالشعر شعر سواء كان عمودياً أو حراً بشرط الجودة والإبداع، والقصيدة الجيّدة هي التي تحدث في نفوسنا دهشة حسب قول نزار قباني.
في عدد من الأمسيات تكون الوحيد الذي يقرأ نصوصاً عمودية. ألا تشعر بالغربة؟
أبداً ما شعرت يوماً بغربة وأنا أقرأ قصيدة عمودية. على العكس، أشعر بارتياحٍ وفخرٍ واعتزازٍ ما دمت مُقتنعاً بأن القصيدة عبّرت بصدقٍ وجمالٍ عمّا أريد التعبير عنه ، وهي شاهِد إثبات على قُدرتها على إيصال الرسالة النبيلة التي أرغب في إبلاغها للمُتلقّي في ثوبها الأنيق بمعانيها السامية وصوَرها الأخّاذة ووحدة موضوعها وتماسكها ووزنها وموسيقاها وقافيتها المطربة.
أغلب شعراء الحداثة كتبوا العمودي في بداياتهم: مثل الروّاد جميعِهم ومحمود درويش ودنقل والمجاطي….. لكننا نلاحظ اليوم أن الشعراء يشرعون في كتابة قصيدة النثر ولا يعترف أغلبهم حتى بقصيدة التفعيلة التي كانت في الخمسينات إلى نهايات السبعينات أيقونة الحداثة الشعرية.
لماذا؟
بعض المُهتّمين بالأدب يعتقدون أن لكل عصرٍ ثقافته وفنه وشعره “لكم دينكم وليَ دين”. ففي القديم كان الشعر العمودي وبعده مع نازك والسيّاب وغيرهما ظهر شعر التفعيلة، واليوم قصيدة النثر والومضة والخاطرة والسانحة، وغداً سيظهر مع الزمن نمط آخر لا ندري ما هو. أعتقد أن الشعرية هي المقياس في كل هذا، لقد قامت قيامة الشعراء عندما ظهر شعر التفعيلة، إلاّ أن مسيرته انطلقت من دون توقّف، ما اضطر الشاعر العربي أن يفسح له مكاناً للتعبير. وبغضّ النظر عن مُصطلح: قصيدة النثر، الذي أثار الجدل حوله أكثر مما أثاره منهج شعرائه وفكرهم، فأنا أقول: إنّ في كل أنواع الشعر ما يستحقّ الإشادة لما يتركه فينا من قِيَمٍ إنسانيةٍ وجمالٍ وجلالٍ وفيه ما يستحقّ الإبادة لما نلمس فيه من ضحالة ورداءة.
هل فقدت القصيدة العمودية حضورها في المغرب؟ وكيف ترى مستقبل هذه القصيدة؟
برأيي لا، بل أصبحت تستردّ مكانتها وبقوّة في حَمْأة هذه الرداءة المُستشرية في عالمنا العربي عامة وفي المغرب بخاصة إثر ظهور شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة. ومن المُلاحَظ أن القصيدة العمودية صارت تُقام لها الآن مهرجانات ومُلتقيات جهوية ووطنية ودواوين جماعية ومسابقات كبرى.
ولا أعتقد أن مستقبل القصيدة العمودية رَهْنٌ بشعرائها الذين يكتبون على منوالها ويتطلّب منا الاهتمام باللغة وكل ما يتعلق بها من علم البلاغة والعروض إضافة إلى حفظ أشعار الأقدمين من جهة، مع سِعة الاطلاع على التاريخ والفلسفة وفقه الواقع.
إذ لا يعقل للشاعر الذي يخوض في قصيدة العمودي أن يقف على الأطلال باكياً مُجتّراً ما قاله الشعراء قبله بل عليه أن يعيش واقعه وعصره مُستجلياً قضايا أمّته في صوغ شاعرية تأخذ بتلابيب الروح وتدغدغ شغاف القلب.
****
(*) الميادين نت.