سجلوا عندكم

جورج طرابلسي: أرى تخمة في الشعراء ومجاعة في الشعر

Views: 21

دارين حوماني

جورج طرابلسي الصحافي المزمن، خمسون عاماً وأكثر عاشها في خدمة الصحافة، مدخله إليها الثقافة والأدب، تفاصيله محض ثقافية، وقلبه يتجاوز حياته بنى فيه عالماً واسعاً من الحب والأدب والكتابة.. شغل منصب رئيس الصفحة الثقافية في جريدة «الأنوار» ثلاثين عاماً الى حين صمت دار الصياد الأخير لكن جورج طرابلسي أصرّ على إستكمال طريقه فأطلق موقع «ألف لام» الإلكتروني.. كان لجريدة «اللــــواء» الحوار التالي معه.

بعد أكثر من خمسين عاماً في خدمة الصحافة نسألك من أين جاءتك الصحافة؟

– أصابني سؤالك بنوع من انفصام الشخصيّة، شعرت معه بأنًّ في داخلي جورجين مختلفين، أحدهما يعترف بالروزنامة والآخر ينكر أساس وجودها. الأول: هو الجسد، المادي الملمس، المحدود الأبعاد، أسير المقاييس، والخاضع لدورة المواسم وسلطة الزمن. والثاني: هو المحبَّة، والشعاع المطلق، المنبعث من النُّور، المنطلق من الحرف، المنبثق من الكلمة/ الله، ما دفعني إلى التساؤل «أي منهما يجيب»؟ لكن، كون الصحافة هي (في الأساس) بنت الكلمة، وهي فعل محبّة، ومنارة فكر ومعرفة، فبديهيّ أن أترك الجواب للذي على صورة الله ومثاله، وأقول إنَّ الصحافي كالشاعر، إذا لم يولد صحافياً فلا يمكن أن يكون، لا بعد خمسين عاماً، ولا حتى بعد خمسين مليون عام. وأجزم، جواباً، على أنَّ الصحافة لم تجئ إليّ، ولا أنا ذهبت إليها، بل فتحتُ عينيَّ على الدنيا وأنا أحمل أوراق نفوسها، أبي القلم وأمي المحبرة وحياتي صفحات، صفحات وصفحات…

ماذا أعطتك الصحافة، وهل  ثمّة شيء ما أخذته منك؟

– لم تعطني الصحافة شيئاً ولم أعطها أي شيء، كل ما في الأمر هو أننا تخطينا العلاقة التقليدية إلى الاتحاد أبدياً في دائرة المحبّة، التي «لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها»، لأن الصحافة مكتفية بالصحافة…

 كنت مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في جريدة «الأنوار» لأكثر من ثلاثين عاماً، كيف هو جورج طرابلسي الآن بعد توقف «الأنوار» عن الصدور؟

– زادتني العتمة إيماناً بقدسيًّة النُّور، لذلك فإنَّني أحاول تحويل قلمي إلى عود ثقاب، أضيء به شمعة الحق والخير والجمال، بدلاً من لعن ظلمة الذين اطفأوا «الأنوار» ظلماً، وحوَّلوا حِبر الفكر إلى بحر من الحزن والقهر…

كتبت مقالاً قصصياً عن أزمة الصحافة بعنوان «دمعة وإبتسامة» ختمته بـ «الموت مش عيب»، ماذا تقول للمتخرّجين حديثاً من كلية الإعلام الذين ينتظرهم مستقبل ضبابي ومحزن في ظل الواقع المأسوي لحال الصحافي كما تصفه؟

– «العَيْبُ» في المعاجم هو وصمةٌ، أو نقيصةٌ، أو شائبةٌ، أو مَذمَّةٌ، أو عورةٌ، فهل ترى حبّة القمح في واقع موتها عيباً، أم أنها ترى فيه سنابل خير، ومواسم بركة، وحياة تضج بالحياة؟

مقالة «دمعة وابتسامة» كُتِبَتْ قبل حوالى السبعة أشهر من نشرها في مجلة «أورا»، ولم أكن أتصوّر أن تتحوّل وقائعها «المتخيّلة» إلى مأساة طبق الأصل للتراجيديا الحقيقية التي نمرّ بها اليوم… وهي (للتذكير فقط) خُتمت بالقول إنَّ «نبيل» («بطل الاقصوصة» الصحافي الآدمي، أو الغشيم، بالمفهوم السائد، كونه لم يستغل مركزه ولم «يدبّر حاله» على الطريقة المعروفة) كانت هواجسه في محلها، إذ أنَّ صدمة صرفه من بلاط «صاحبة الجلالة»، التي أفنى خمسين عاماً من عمره في خدمتها، أصابته بأزمة قلبية حادة، وقيل إنه روى لمسعفيه في غرفة العناية الفائقة، قصة شاب اشترى سيارة رياضية مكشوفة، ملأ خزَّانها بالوقود وقادها بسعادة غامرة على اوتوستراد سحري ظهر أمامه لحظة خروجه من مرآب الشركة، وفجأة، وفي قمة فرحه بـ «مشوار العمر»،  تبيّن له أنَّ الأوتوستراد مسدود بجبل شاهق، ومحاط عن جانبيه بالوديان السحيقة، والضوء الأحمر في «تابلو» سيارته ينذر بفراغ خزان الوقود. وقبل أن ينهي قصته، ذرف نقطة حبر، حفرت على بلاطة ابتسامته عبارة «ولا يهمكم… الموت مش عيب…»، وهي مستوحاة من عبارة «الشغل مش عيب»، المعروف متى تستخدم أو تقال.

وعليه، أقول إلى خرّيجي الإعلام: «امشوا على ضو»، لا تضعوا البيض كلّه في سلّة واحدة، لا تغرنّكم الألقاب والشعارات الجوفاء، لا توقِّعوا على أي ورقة قبل استشارة محام أو أكثر، لا تقبلوا بقبض راتب مجزّأ (تحت الطاولة و/أو فوقها)، لا تدعوا الحاجة إلى الوظيفة تجعلكم تقبلون اليوم بما يمكن أن تندموا عليه غداً… وأهم الأهم إدراككم أنَّ الإعلام هو مهنة كسائر المهن، لا يكون «رسالة» إلّا إذا كان حرّا، مادياً ومعنوياً. لذلك، وقبل انطلاقكم بـ «سيارتكم الجديدة»، القوا نظرة دقيقة على «الأوتوستراد» المفتوح أمامكم، وتأكدوا من نهايته قبل تأكدكم من بدايته، لأن أعظم ما في الحياة ليس بدايتها، بل نهايتها، التي عليكم السعي إلى جعلها سالمة، هانئة، آمنة، وسعيدة…

ما هي رؤيتك للمشهد الشعري في لبنان؟

– أرى تخمة في الـ «شعراء» ومجاعة في الـ «شعر»…

هل هناك مواضيع كتبتها في الجريدة لا تنساها وتفكر في جمعها في كتاب لإطّلاع الجيل الجديد على مخزونك الصحافي والثقافي؟

– كثيرة هي المقالات والمواضيع التي لا يمكن أن أنساها والتي كنت أتمنى أن أجمعها في كتاب، لكنني – للأسف – فقدت أرشيفي خلال الحرب، ولم أبادر على الفور إلى استنساخها من أرشيف «دار الصيّاد»، الذي تعرّض قسم كبير منه، في وقت لاحق، للتلف بسبب الفوضى والإهمال والحريق وتسرّب المياه، وعندما قررت التركيز على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فوجئت بإغلاق أبواب الدار وإطفاء «الأنوار»… وبتّ أركّز على محاولة إنقاذ ما تبقّى من أوراق روزنامة حياتي.

وهنا أتذكر حكاية فنّان شهير رسم عجوزاً يحمل سلّة عنب، ومن شدّة براعته في رسم عناقيد العنب، كانت العصافير تحط على السلّة محاولة نقد حبّاتها… لكن الناس فوجئوا بقيامه بتمزيق اللوحة ورميها، وعندما سألوه عن السبب، أجاب: «لأنني فشلت في رسم العجوز، الذي لو نجحت في رسمه لخافت العصافير ولم تجرؤ على الاقتراب من السلّة».

لذلك، فإنني لست نادماً على ضياع مقالاتي، لأنها لو كانت ناجحة لما بقي الوضع في لبنان على ما هو عليه، وأقلّه، لما ازداد سوءاً…

****

(*) جريدة اللواء 21 حزيران 2019.

 

(https://filles-du-coeur-de-marie.cef.fr/)

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. دمتَ أديبنا الكبير جورج طرابلسي شمساً ثقافية تحوّل ليلنا العربي إلى أنوار لا تنطفىء..