أمين زيدان لـ Aleph- Lam: علاقتي بسعيد عقل علاقة عاشق نبوغ بـ “نابغة العصر”
بعض من يدّعون الشعر نظامين
ومن يدعون الأدب متطفلين
كلود أبو شقرا
في منطقة القصيبة في المتن الأعلى، كانت إطلالة الأديب والمترجم والمربي أمين زيدان على الدنيا، ومن هذه القرية التي تكحلت عيناه بنور طبيعتها التي تجاور السماء وظلال ناسها الذين يشقون الصخر ويفترشون النجوم ويجنون المحاصيل من جنى أيديهم، انطلق إلى العالم الواسع متزودًا بإرادة وعزيمة على خوض معترك الحياة بقوة بلوغًا إلى النجاح… هكذا كان.
أكثر من خمسين كتابًا، بين تأليف وترجمة، ومخطوطات لم تنشر من بينها “العائلة جنة”، تخريج أجيال من الأدباء تتلمذوا على يديه… قائمة الإنجازات تطول ولا تتوقف، تتخللها صداقات مع كبار الأدباء وأهل الفكر والثقافة في مقدمهم سعيد عقل الذي وضع مقدمة “براعم خريف” لأمين زيدان، وهو تأملات فلسفية تتمحور حول الحكمة واللاهوت والفكر…
أمين زيدان، تاريخ فكري وثقافي ومدرسة أدبية وضع أسسها انطلاقًا من عمق إيمانه بالله والوطن والإنسان، خص موقع “ألف- لام”، بحوار توقف فيه عند محطات من ذكرياته، وعلاقته بسعيد عقل، ومفهومه للإيمان…

إذا عدنا بالذاكرة إلى زمن بعيد عند أي محطة تتوقف؟
ذكرياتي تعود بي إلى أيام معهد عينطورة العريق جد المعاهد في الشرق. كنت في الصف الرابع ومعلمي في اللغة العربية، رحمه الله، كاهن زحلاوي الأب رياشي. كان يأتينا ببعض الأدباء الكبار، أذكر منهم هكتور خلاط وسعيد عقل والياس ابو شبكة، جار المدرسة، يلقون علينا محاضرات ويحاولون أن يذيقونا طعم جمال الشعر والنثر ومختلف الفنون، وبخاصة ما هم يبرعون به.
فمنا من أخذ بهذه الجمالات، لا أظن بفضل شخصي، إنما بنعمة من الله موزع المواهب (أستطيع اليوم بعد خبرة أن أقول لا لأننا كنا شعراء أو كتبة، إنما لننا ننعم بموهبة)، فلا الأدب والشعر والفن والمسرح وما إلى ذلك من فنون التعبير قد يكتشف بفضل المراس والمثابرة، فيكون بعض من يدعي الشعر نظامين وبعض من يدعون كتابة الأدب أو المسرح أو ما إلى ذلك متطفلين على الأدب، فأين هم من إبداع يضيفه أصحاب الملكات الخلاقة. هكذا بدانا نتذوق الأدب.

كيف شكلت تلك الفترة بداياتك في الكتابة؟
أنشأ الأب الرياشي، هذا المعلم، صاحب الفضل، مجلة سماها المجلة المعلقة، يعلق على لوحات خشبية ما يراه مناسباً من اعمال التلامذة في مماشي معهد عينطورة أو تحت قناطر معهد عينطورة، فكانت أولى المقالات لي في سن الرابعة عشرة في عنوان “مع التاريخ” كأنني منذ ذلك الحين وعيت دعوتي في الحياة.
وكان تشجيع كبير من معلمي وأكمل فضله الاستاذ جورج غريّب الذي ترجمت له في ما بعد مختارات من شعره، حددها بنفسه، جمعت في كتاب بعنوان fleuron
وتشاء الظروف أن أبدى لي الأباتي ساسين زيدان، نسيبي الحبيب، أن انهي دراستي الثانوية في معهد الرسل في جونيه، فلبيت رغبته، وهناك كانت الانطلاقة الكبرى. عن غير استحقاق انتخبت رئيساً لأكاديمية المعهد، فقمت بنشاطات فكرية وندوات دعيت عليها على ما أذكر د. فؤاد البستاني والشاعر سليم حيدر وسواهما.
ولأول مرة في تاريخ المدارس الكاثوليكية، شئت أن استبدل عطلة عيد القديس توما الأكويني بندوة حوله نظمتها مع استاذي جان ريمون، وشارك فيها المثلث الرحمة رولان أبو جودة والدكتور جورج صفير، يوم كانا رفيقيّ في صف الفلسفة، دعي إليها رؤساء مدارس المنطقة وتلامذتها.
والنشاط الثاني الذي قمت به كنت أسهم في تحرير نشرة تصدر عن معهد الرسل عنوانها “سيدة لبنان”، ويقينا مني بأن هذا الصرح والقيمين عليه “المرسلون اللبنانيون”، عليهم وباستطاعتهم أن ينشأوا مجلة تليق برسالتهم، فأبديت فكرة إنشاء مجلة أدبية تحاكي مجلتي “الحكمة” و”الأديب”، قيّمة شهدت لها الثقافة العربية في جميع الأقطار فكانت مجلة “الرسالة”. وإذ كنت أعلّم في المدرسة الرسمية وأتابع دروسي في المعهد لم يقبل تعييني مديراً لها في الوزارة، فاقترحت لهذا المنصب من كان أمين سر الأكاديمية الأديب جان كميد، واستدعيت للتعاون معنا الشاعر المرحوم نقولا قربان. وكان للرسالة أثر الرسالات.

بعد تلك المرحلة، خرجت إلى معترك الحياة، كيف وجهت مصيرك ومسارك؟
بعد خروجي إلى معترك الحياة رحت أعمل نهاراً في التعليم وأكمل دراستي الجامعية في آن، فانتسبت إلى جامعة القديس يوسف مكتتباً في معهد الحقوق ومعهد الآداب. أنهيت السنة الأولى في المادتين ووجدتني مشدوداً بكليتي إلى الأدب، فتخليت عن متابعة الحقوق وانصرفت كلياً إلى متابعة الأدب. وفي تلك الأثناء تعرفت إلى “حلقة الثريا” وربطتني صداقة مع الشاعر جورج غانم وغنطوس الرامي والأخطل الصغير، وكانت أمسيتي الإذاعية الأولى على الهواء، بدعوة الشاعر غنطوس الرامي، قدمني فيها الإذاعي شفيق جدايل.
مطلع الشباب، سافرت إلى فرنسا لاستكمال دراستي الجامعيّة، فنلت إجازة في الآداب الفرنسية وعلم النفس، وعند عودتي تعرفت إلى المسرحي منير ابو دبس الذي طلب مني أن اترجم له مسرحيات إلى العربية. لم يكن الأمر هذا صعباً علي لأنني نلت شهادة في الفن المسرحي من جامعة الآداب في مونبلييه، فأولى المسرحيات التي قدمها أبو دبس في تلفزيون لبنان هي مسرحية Hernani ترجمة أمين زيدان، وكرّت السبحة، فمثل أنطوان ملتقى ولطيفة زوجته مسرحية “عرس الدم” لغارسيا لوركا، كما مثل كاليغولا الشهيرة في قلعة جبيل.
أما الترجمات الكثيرة التي قمت بها، فيعود الفضل فيها لنعمة ايضًا من علٍ، هي التمتع بامتلاك عبقرية اللغتين الفرنسية والعربية.
وبفضل ترجمة “أوديب الملك” لمنير أبو دبس مجاناً، دعتني لجنة “مهرجانات بعلبك الدوليّة” لمرافقة “فرقة المسرح الحديث” في أوائل الستينات إلى المغرب حيث جرى “مهرجان المسرح العربي” في أطلال وليلي، وكرّت السبحة، لوضع ما يقارب الخمسين كتاباً بخط يدي لم ينشر منها سوى جزئين في مجلد واحد تحت عنوان “العائلة جنة”، وكتيّب بعنوان “براعم خريف” قدم فيه سعيد عقل مسبقاً أمين زيدان للعالم العربي بمقال تحت عنوان “في امين زيدان” (1996).

من بقي في ذاكرتك من الأدباء الذين التقيتهم في مرحلة الطفولة والصبا؟
خير من بقي في ذاكرتي ممن كانت لي بهم علاقة تشرّف بدون القاب: عبدالله العلايلي، بشر فارس، مخايل نعيمة، أنسي الحاج، جورج غانم، الأخطل الصغير، وأحبهم إلي سعيد عقل، شاعر العصر وأكاد أقول شاعر العصور بعد المتنبي تلميذ ابي تمام، فؤاد البستاني أستاذي ومن أكنّ له الفضل الأكبر، د. سعيد البستاني، د. جبور عبد النور، وآخرهم الأصدقاء جوزف أبي ضاهر وجان كميد وعصام خليفة أنطوان سيف ولا يحصى عددهم، ربما لم يبق أديب في عصري لم تقم بيني وبينه علاقة مودّة.

قلت إن سعيد عقل الأحب إلى قلبك، ما سر هذه العلاقة بينكما؟
تسألينني عن علاقتي بسعيد عقل هي علاقة عاشق نبوغ بنابغة العصر، ولا أدّعي صداقته الحميمة وإنما أجزم باحترام متبادل عميق، شهد لي فيه كلمته التي اعتبرها بطاقة تعريف بي تحت عنوان “في أمين زيدان” قدمها لي بتاريخ 5- 11- 1996 في منزل الست نبيهة الياس، شقيقة الخالد نوفل الياس، بحضور الشاعر جورج شكور الحبيب.
كثيراً ما كان يهتف لي ليقرأ لي آخر أعماله المسرحية التي كتبها بخطه المبتكر تحت عنوان “عشتريم” ويصرّ على بقائي لساعات مصغيًا لصوته الفريد الأخاذ، وأحيانًا يرغمني على البقاء قائلا: “قعود مش كل يوم بيصرلي امين زيدان يسمعلي ويناقرني”.
واذكر أنه مرة قادني إلى غرفة نومه بدل دعوتي إلى مكتبه بمنزله في عين الرمانة، فاستغربت فعلته وسألني: “أتعجبك غرفتي؟” فقلت: “هي خلية من سماء”، فأطرق وقال: “وغير ذلك”، فقلت: “تليق بحبيس زهداً وتواضعاً فكأنها موئل سماء”.
لم يشفه الجواب فقادني إلى جوار سريره وأشار إلى ما عليه، فوقع نظري على مجموعة قصص نشرها لي تلميذي المرحوم كامل عاصي تحت عنوان “كرمى لأعين النجباء”، ثم قال لي بلهجته الزحلية: “لمن بيطلع عابالي اتفكون بالأدب بجي اتمتع بهاو”.
وأعرض خشية اتهامي بالمغالاة عن أكثر.
وفي المناسبة عار ألا اذكر أن اللحمة بيني وبينه زادت وثوقاً بفضل رجل لم تعرف الخارجية رجلا بنبله وسمو أخلاقه وكفاءته فؤاد الترك (فؤاد الأفئدة).

أنت أديب ومربٍّ ومترجم مسرحيات كيف تجمع بين هذه الأنواع الأدبية؟
شمولية الثقافة تعود إلى التحصيل العلمي والنهم إلى المعرفة والقدرة على الاستيعاب، فما يبقى بعد نسيان كل مصدر واحات مما اكتنز تفيض بما تجمّع فيها من ازاهر المعرفة، فتغنى وتغني، وبها يقاس مقام صاحبها فتلعنه الحضارة بوقوف عند مستوى بلغته هذه الحضارة أو تباركه لأنه أضاف إليها شيئاً.
أما الشغف باللغة فيعود إلى شغفي بالموسيقى الكلاسيكية وعلم العروض. قال تلميذي الشاعر عصام العبدالله: كان الأستاذ زيدان يجلدنا بالعروض، لكنني كنت اكره في الحقيقة LA RIME وأعشق LE RYTME . مثال على ذلك قصيدة شرود التي ألقيتها في أمسيتي الإذاعية الأولى وعنوانها “شرود” جاء فيها :
قالت: إلى مكانٍ لم نزره سر بنا
قصدناه
في ظلمة سمحاء كانت دربنا
كم أغدق الليل علينا
سرنا كأننا لا نسير
لا الدرب طالت ولا قصر الزمن.
ما كان للزمن حساب في سرانا
هل من سعيد عدّ أيامَ
فقدنا للزمن حساب
ففقدنا من ضمير الزمن وشردنا
أما الصياغة فلها حكاية تعصى على التحديد أكتفي في تحديدها بما قاله سعيد عقل فيها: أمين زيدان أشبه بالمطلق، المطلق هو ما لا يعوزه شيء، إقرأ أمين زيدان” وحاول أن تقرأ وتحدد بنفسك ايها السامع أو القارئ.

ما المعايير التي تعتمدها في اختيار الكتب التي تترجمها؟
الترجمة خيانة، هكذا يقال وأضيف إساءة وتشويه. إذا لم يكن المترجم ممتلكاً لعبقرية اللغتين ملماً، ولو إلى حد بسيط، بعلم النفس وقدرة على نكران الذات، ومحاولة تلبس شخصية المترجَم، ليدرك أبعاد مرماه، فيحاول صياغة أثره بمدلوله الحقيقي لا بمدلول يفهمه هو وبتعبير يليق بتعبيره الخاص، حرام أن يترجم.
تسألين عن الثر الذي اترجمه، لِمَ أختاره، ليست الترجمة مهتني في الأصل، لذا لم أترجم أثراً لم تطلب إلي ترجمته، وكثيرا ما رفضت آثارًا لم ترق لي لأنني لا أرتضي عملا ليس منه فائدة لديني لوطني لقومي، للحضارة واللغة.
في تأملاتك روحانية وصوفية ترسم فيها علاقة خاصة مع الإيمان، كيف تحدد هذه العلاقة؟
علاقتي بالمسيح والقديسين علاقة منجذب إليهم من فوق أحس وأنا اتوجه إليهم بعقلي وعاطفتي بانخطاف كلي، أحاورهم وأصغي إليهم وعليهم تتلمذت، فأتقنت لغة الصمت وقلت في أحد براعم خريفي ما حرفيته:
يا أيها الصامت الأكبر
ليتك خلقت بنيك بكماً
يتكلمون بافعال تحاكي كلمتك “الفعل”
فينتفي وجود من يشكّ
بأن اولادك ليسوا
صورًا لك
(مطلع حزيران 2019)
وقد بلغت حد انتفاء الإيمان ليقيني بوجودهم وهل يؤمن إنسان بوجود من يخاطب؟