سجلوا عندكم

بين سنتين

Views: 50

إيمان ريدان

منكمشة على سريرها الأبيض. يلفّ رأسها وشاح حريريّ صغير، نسمّيه في قرى الشوف (المنديل) . تضعه المسنّات خاصّة، حتّى لو لم يكن لسبب  دينيّ، إنّما -كما يقولون- حفاظًا على الهيبة.

  تأخذها أحلام النوم إلى مكان لا يدري به المحيطون، علّه ملاعب طفولة وصبا، أو ذكريات خاصّة محفورة، تجلب معها الرّضى، وتستدعي خيالاتٍ ووجوهًا مؤنسة، وباقات خزام أزرق، مقطوفة من حقول الضّيعة…

    لم أشأ إيقاظها وقد أخذتني الرّأفة بها، وبأحلامها المسافرة السّعيدة، ولكنّني استعجلت المغادرة ، خاصّة وأنّ دار المسنين لا يستسيغ البقاء فيها إلّا العجزة، وملائكتهم ذوات الرّداء الأبيض ، فجاهدت لإيقاظها بهدوء، علّها تضع حدّاً لمعاناتي الصّامتة في المكان!

     هنيهات واستيقظت، فانفتحت عيونها تلقائيًّا على بحر دموع ، لا أدري كيف جارتها عيناي بالبكاء المفاجىء، وكيف تراءى لي تناقض دموعها مع بسمتها التي أضاءت وجهها المتغضِّن…قلت في نفسي هي دموع الفرح بعينها..بينما دموعي انسكبت على نسق آخر من الندم، وتأنيب الضمير والحنان معًا..بالنّسبة لها” ليس كلّ يوم يحمل إليّ وجه ابنة أخي” …و” ليس في كلّ يوم نتذكّر العمّة الطيّبة” كان لسان حالي!

   أخبرتني عن يوّمياتها بتفاصيل قليلة، لا شمس تطلّ فيها إلّا من نافذة عصيّة على تجاوز جدار مقابلٍ بالمرصاد، وحيوية لا تتخطى طاقتُها عتبةَ الغرفة التي أصبحت مسكنها الدّائم منذ سنين. كنت أريد أن أخبرها كم أنّ الشّمس مازالت على حالها مشرقة وغائبة، لا تخطىء مرّة، وأنّ الحياة دوران لا يستكين، فتتجاور الأفراح والمآسي، وأنّ الإنسان في لهاثه الدّائم خلف المواعيد والمحطّات، لا يلتقط أنفاسه ولا يستريح .

كنت أنوي أن أقول لها الكثير، وأخبرها ما فاتها من جديد، إلّا أنّني أشفقت على سكينتها من هذا الضّجيج الفاغر فاه، قاضيًا على كلّ الآمال المنبسطة. تركتها لحقولها وذكرياتها وماضيها الحيّ أبداً، بعيداً عن لوثة الحاضر المرّ. مشيت مبتعدة إلى مشاغلي، ومواعيدي التي لا تنتظر، تدقّ أبواباً مشرّعة على حاضر سيغدو ماضًيا، ومَن يدري، قد يكون هو أيضًا خصبًا بغلال الخزام الأزرق.

(https://vulcanpost.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *