العمل الإنسانيّ تحت مجهر الكورونا
أ.د. مشير باسيل عون
لا شكّ في أنّ الكورونا سوف يغيّر من نظرتنا إلى العمل الإنسانيّ برمّته، إذ إنّ الصدمة التي استحدثها أصابت تصوّراتنا الثقافيّة والأنتروبولوجيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. أجل، إنّ الكورونا سوف يبدّل تصوّراتنا في قضايا الزمان وعلاقتنا به، وفي مسائل النشاط والعمل والإنتاج، وفي مشاكل الاستثمار العدوانيّ، والتسريع الإنجازيّ، والاستهلاك الاستنفاديّ، والتنافسيّة الإقصائيّة الفتّاكة، وما إلى ذلك من رؤى وخطط وتدابير تُدرّسها كلّيّات علوم الاقتصاد وإدارة الأعمال. يبدو لي أنّ الضرورات والأساسيّات والأولويّات قد تتبدّل تبدّلًا كلّيًّا، إذ إنّ الناس طفقوا اليوم يدركون أنّه في إمكانهم أن يحيوا حياةً أخرى، وينشطوا نشاطًا مختلفًا، ويُنتجوا إنتاجًا جديدًا، ويُبدعوا إبداعًا فذًّا لا يهيمن عليه منطقُ السوق.
من الممكن أن يبدأ التحوّلُ من نظرة الإنسان الكورونيّ إلى الزمان. في عصر العولمة الذي هيمنت عليه هيمنة قاتلةً النيوليبراليّة المتوحّشة، المتفلّتة من قيم الأخوّة الإنسانيّة والتضامن الكونيّ والمساواة الحقّ والعدالة المنصفة، أضحى الزمان موضع الإنجازات المتحقّقة، لا من فسح الاحتمالات الحرّة. لشدّة الرغبة في السرعة، فقد الإنسان المعولم القدرة على التنعّم بجريان الزمان الحرّ. فكفَّ عن مصاحبة الزمان، وأكبّ يطلب ترويضه وتدجينه وتوقيته بحسب مواعيد طموحاته التكنولوجيّة. فإذا بالناس يعاكسون طبيعة الجريان الحرّ الهادئ، فيبتدعون زمانًا متسرِّعًا يختزلون فيه لحظاته ودقائقه وساعاته، ويختصرون به دفق الحياة كلّها. غير أنّ فعلتهم هذه أفضت بهم إلى اختبارات مريرة أفقدتهم الشعور بالزمان. فكم من تأوّهٍ ينثبق من صدور الناس، وهم يحترقون اشتياقًا إلى التنعّم بمنعتَقٍ من الوقت! والوقت ينسلُّ من بين أضلعهم من غير أن ينعموا به، حتّى أضحت العبارة الشهيرة التي تصاحب وجودنا المعولم: “لا وقت عندي”! فأين ومتى وكيف وبمَ ولمَ انقضى الوقت، ومضى الزمان، وتدحرجت الحياة؟
من الواضح أنّ أزمة الحجر ستضطرّ الناس إلى تناول الزمان في مجراه الصحيح، فيمنحون أنفسهم حرّيّة التفكّر في تناسل الوقائع، وتدافع الأحداث، وتعاقب الأفعال. من فضائل التباعد الجغرافي أنّه سيهب الإنسان الكورونيّ القدرة على الانفصال الحكيم عن الحدث، وسيجعله ينعتق من محنة الالتصاق الأعمى بالإنجازيّة المتسرّعة والفاعليّة القاهرة. ومن ثمّ، فإنّ التحوّل في اختبار جريان الزمان سيُفضي إلى تصّور ثقافيّ جديد يتناول العمل الإنسانيّ في أصل مقامه. يحضرني هنا ما قاله المفكّر الألمانيّ إرنست يونغِر (1895-1998) الذي شارك في الحربَين العالميّتَين الأولى والثانية، وتأمّل في الاضطرابات الكونيّة التي صاحبت الحرب الباردة، وعاين التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي طرأت على البشريّة في إثر سقوط حائط برلين، وتبدّل المشهد الجيوسياسيّ العالميّ، وانفجار الثورات العلميّة الرقميّة. في الطور الأوّل من أطوار فلسفته الاجتماعيّة، أنشأ كتاب العامل (Der Arbeiter)،واستودعه ضمّةً من التصوّرات التي تعاين في صفة العامل الهويّة الأنتروبولوجيّة الأساسيّة التي ينعقد عليها الواقعُ الإنسانيّ برمّته.
في صورة العامل لا يكتفي الإنسان بأن يكون هو الذات الفاعلة في الإنجاز التكنولوجيّ المعاصر، بل يصبح غرضَ التكنولوجيا ومادّتها وموضوعها وحقلها الاستثماريّ. ذلك بأنّ العمل هو كالنار يلتهم كلّ الإمكانات، ويُطبق على كلّ الموجودات، ويستبيح كلّ القطاعات. فإذا به يمنع عن الإنسان إمكان التفكير في اللاعمل الاختياريّ، أو في العطالة الطوعيّة، أو في البطالة الذاتيّة. في هذه القرائن يغدو العملُ الواقعَ كلّه، بحيث يكفّ عن أن يكون له ضدٌّ أو نقيضٌ أو مقابلٌ. فالوجود كلُّه إمّا وجودٌ عاملٌ، وإمّا عدمٌ غائرٌ. وما من حالٍ متوسّطة بين الطرفَين. ليس للموجود إلّا أن يكون ناشطًا في وجه من الوجوه. ولا حرّيّة للإنسان إلّا من داخل مقولة العمل. العامل هو إذًا الهويّة الإنسانيّةالثقافيّة المهيمنة في زمن العولمة، وهو البوتقة الصاهرة التي تستقطب الواقع الإنسانيّ في جميع جوانبه وأبعاده. من جرّاء ذلك كلّه، يصبح العملُ المبدأ الجوهريّ المِتافيزيائيّ الذي ينظّم الحياة ويضبطها ويقوّمها، ويهبها المعنى الأنسب والأفعل والأرقى. (https://duckysonline.com/)
في اعتقادي أنّ مثل هذا التصوّر الثقافيّ أفضى إلى الانفجار الإنتاجيّ الكونيّ الذي أباحته آليّات العولمة الكاسحة. لا ريب في أنّ العمل يحرّر الإنسان، ويمكّنه من تحقيق الكثير من الطاقات والإمكانات والقابليّات التي يزخر بها كيانُه. بيد أنّ العمل، وقد انضوى إلى مقولة الشمول المطلق، فاجتاح الوجود كلَّه اجتياحًا مهلكًا، إنّما يقلب الحرّيّة المزعومة إلى قيد احتياطيّ وأسر تجميليّ. فهل يجوز للإنسان ألّا يعمل؟ أو هل يحقّ له أن يعمل عملًا أساسيًّا زهيدًا يضمن به رزقه ومؤونته، منصرفًا في ما خلا ذلك إلى الاستمتاع بالوجود على وجوه أخرى، وفي سبُل مغايرة، وبكيفيّات جديدة؟
أعلم أنّ إرنست يونغِر في طوره الفكريّ الثاني أعاد النظر في هذا التعريف، وآثر التحوّل من مقولة العمل الانتهاكيّ الشموليّ إلى مقولة العمل السكينيّ الإنضاجيّ. ما كان يجرؤ في أوّل عهده على استجلاء صورة الإنسان اللاعامل، ولاسيّما في قرائن الإيديولوجيات القوميّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي كانت تتنازع القارّة الأُروبّيّة في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. ولكنّه ما لبث أن ارتدّ إلى تصوّر فلسفيّ سكونيّ جعله يُعرض عن الاهتمام بأفعال الناس، ويقف ذاته للتحرّي العلميّ عن مسالك الحشرات، مفضّلًا النمط الوجوديّ المزدان بالهجرة الوجدانيّة الذاتيّة، والانعزال الطوعيّ، والانفعاليّة السكونيّة، والاستبصار الباطنيّ السحيق.
إحساسيّ اليوم أنّ الكورونا بدفع بنا دفعًا إلى التحرّر من مثل هذا التصوّر الثقافيّ. فالعمل، بلا أدنى شكّ، سمةٌ أساسيّة في الوجود الإنسانيّ. ولكنّه يحتمل تأويلات شتّى. وليس التأويل الذي اقترحه يونغِر في ريعان شبابه الفكريّ هو الأنسب في قرائن التأزّم الكونيّ الحاصل. أرى أنّ العمل الإنسانيّ يجب أن يتحرّر من شموليّته ومن غائيّته الإنتاجيّة. فالإنسان الأوّل كان يحيا من دون عمل، ما خلا العمل الأساسيّ المحدود النطاق الذي كان يضمن له الاسترزاق اليوميّ. وما كان مهجوسًا بالادّخار والتموين والرصف التراكميّ الدهريّ. ومن ثمّ، فإنّ الإنسان ينبغي له اليوم أن يقاوم منطق العمل الاستثماريّ الإنتاجيّ العدوانيّ، ويؤثِر العمل الإثماريّ الإنضاجيّ السلميّ يصاحب تفتّحاتِ الكائنات، ويراعي إيقاعاتِ الجريان الكونيّ الحرّ. لستُ أتخيّل الكون الأعلى مضطربًا بالهيجان العامليّ الذي نعاينه في مجتمعات العولمة المستشرية. فحركة المجرّات والكواكب والمذنّبات تسير الهوينا، وتتراقص على وقع النبض الفضائيّ الحرّ.
آن الأوان إذًا لكي يدرك الإنسان أنّ العمل ليس للإنتاج المادّيّ، بل للإسعاد الكيانيّ. وإذا ما اضطرّ إلى التباعد الاجتماعيّ والعمل البُعديّ (télétravail)، فإنّ مثل هذا الاضطرار هو خلاصيٌّ تحرّريٌّ يستبق الخيرات الوجوديّة التي تنطوي عليها الوضعيّات النشاطيّة الجديدة. في ظنّي أنّ الإقبال على العمل البُعديّ الإلكترونيّ الرقميّ سيعيد إلينا بعضًا من اختبارات العمل القديمة التي تنعَّم بها الإنسانُ الأوّل، حتى ولو انسلكت في سياقات الأزمنة المعاصرة. مثل هذا العمل سوف يبدّل في أحكام العولمة الثقافيّة والاقتصاديّة لأنّه سيمنح الإنسان القدرة على استعادة اختبار الزمان الحرّ، والقدرة على استعادة اختبار القربى الإنسانيّة الرقيقة، والقدرة على استعادة اختبار الحسّ النقديّ الذي يفقده الإنسان حين يلتصق بمراكز الإنتاج ومبانيه وآليّاته وتدابيره الصارمة.
أشعر بأنّ العمل البُعديّ الإلكترونيّ الرقميّ، وقد انعطفت عليه وقاياتُ التباعد الاجتماعيّ الطوعيّ، سيتيح للإنسان أن يتفكّر في ما يفعله ويصنعه وينتجه، وسيهبه الاستطاعة الذهنيّة التي تؤهّله لكي ينتقد مسرى إنتاجه كلّه بفضل المسافة الشاشيّة التي تحفظ له حرّيّة الفعل وردّ الفعل. فالنظر من على الشاشة والإمساك بأرحب مدى من المسافة النقديّة الفاصلة يجعلان الإنسان قادرًا على المساءلة الآنيّة التي تصاحب كلّ فعل من أفعاله. ومن غريب المصادفات أن يكون العملُ البُعديّ الإلكترونيّ الرقميّ هو السبيل الذي سوف يضمن للإنسان أن يؤنسن عمله ويضخّ فيه طاقات الذهن المتبصّر، والعقل الراجح، والحدس الهادي، والإحساس المدرك، والشعور النافذ.
من مفارقات الكورونا أنّ الناس في زمن العولمة والضجيج الآليّ والصخب التسويقيّ كانوا في غمرة تلاصقهم الاجتماعيّ يعانون آلام الفردانيّات المنعزلة، المنطوية، المنكفئة، فيما الناس اليوم في صميم عزلتهم الحجريّة يعزّزون قيَم التواصل البُعديّ الشاشيّ، ويثمّنون فضائل البوح العفويّ المتلهّف، ويستثمرون طاقات التعاطف الرحيم. وقد يأتي ذلك كلّه من العزم على أنسنة العمل وضبطه على إيقاع الطبيعة البليغة بصمتها، والزمان النابض بسكونه، والكائنات الملهِمة بخفَرها.
مشكلة العولمة أنّها أخضعت العمل والعامل لمنطق الإنتاج المحض، وجعلت الإنتاج غاية الإنتاج، فشوّهت الليبراليّة العقلانيّة، وقيّدتها بمبدإ المعادلة الكونيّة الشاملة. تقضي هذه المعادلة بأن يكون لكلّ موجود، ولكلّ كائن، ولكلّ حال، ولكلّ شيء ما يعادله قيمةً وسلعةً وعملةً. إنّه، لَعمري، انحرافٌ خطيرٌ في الحضارة الإنسانيّة. فالأنظومة الليبراليّة العقلانيّة الاجتماعيّة المعتدلة لا تسمح بتسليع الموجودات الإنسانيّة، وتسخير الإمكانات الإبداعيّة الحرّة في خدمة العمل الإنتاجي البحت. فالحياة الإنسانيّة أرقى من مردودها، والذات الإنسانيّة أرفع من إنتاجيّتها، والوعي الداخليّ الباطنيّ الغوريّ أغنى من سطحيّاته المتحقّقة.
ومن ثمّ، يُصرّ أهل الاعتدال الليبراليّ على الجزم بأنّ الحياة لا تُباع ولا تُشترى. ثمّة أمورٌ في الوجود الإنسانيّ لا يمكن تصنيعها وتسليعها وبيعها، ولا ثمن لها على الإطلاق، ولا هي تخضع لأحكام المعادلة الكونيّة الشاملة هذه. يحلو للفليسوف الأمِريكيّ مايكِل ساندل (1953-….) أن يعاند منطق الأسواق المتوحّش، متخيّرًا بعضًا من حقول الاختبار الإنسانيّ لكي يعصمها من لوثة المقايضة الفتّاكة. فالحبّ والإنجاب والصحّة والتربية والمواطنة والبيئة حقولٌ اختباريّة في الوجود الإنسانيّ الفرديّ والجماعيّ لا يجوز على الإطلاق عرضها للبيع والشراء. إذا أرادت الجماعات الإنسانيّة أن تصون معنى الحياة في جمال أبعادها وبهاء قيَمها ورونق إحساساتها، فإنّه لا يجوز لها أن تساوم على ثمن القيمة، أي ثمن التضحية الحرّة، وثمن الخدمة المجّانيّة، وثمن العلاقة الطيّبة بين الناس. فلا يليق بنا أن نسعّر قرار الإنسان الطوعيّ في وهب عضوٍ من أعضائه أو مصلٍ من دمائه. ولا يصحّ أن نمنح المرأة المدمنة ألف دولار لكي تعقّر أحشاءها وتستعقم رَحِمَها. ولا يجوز أن نسمح لأمّ أن تنقش على جبينها نقشًا دامغًا عنوانًا ترويجيًّا لشركة تجاريّة من أجل أن تقبض ثمن تطبيب ابنها المريض.
لا يحقّ للناس في زمن العولمة أن يجعلوا العمل في خدمة الإنتاج والتسليع والرغبة الاقتنائيّة الشاملة. ثمّة أمورٌ في الحياة، وحقائقُ في الوعي، وقيَمٌ في الوجود، واختباراتٌ في الذات لا يجوز على الإطلاق أن تُشترى وتُباع، وأن يحدِّد لها السوق الأهوج ثمنًا مادّيًّا، ولو بلغ آلاف مليارات الدولارات وذهب الأرض كلّه. يعنيني في خاتمة قولي أن أستذكر قولة الفيلسوف الفرنسيّ جان-لُك نانسي (1940-….) في الجماعة المتعطّلة التي ترفض أن تكون مجرّد ثمرة من ثمار الإنتاج الكونيّ الجارف. يدلّ القول بتعطيل الجماعة الإنسانيّة على الرغبة في تحرير الذات الإنسانيّة من قيود خارجيّة تفرضها عليها مقولاتُ الانصهار في الإيديولوجيات القوميّة والدَّينيّة والاقتصاديّة التي تضمن في وجه من الوجوه ديمومة العمل الاستثماريّ العدوانيّ المنتج. لا بدّ، والحال هذه، من تفكيك مثل هذه الجماعات الاستبداديّة حتّى تصبح الجماعة الإنسانيّة غير قابلة الانغلاق والاكتمال. حينئذ تتمكّن الفرديّات المتميّزة أن تنبثق انبثاقًا حرًّا، وتحيا وتنشط وتتألّق وفاقًا لإيقاع نضجها الذاتيّ. ذلك بأنّ الجماعة الإنسانيّة الحقّ هي التي تتألّف من تفاعل الأفراد الأحرار المتنوّعين الذين يرفضون أن تنقلب الحياة بالعمل الاستفزازيّ سلعةً من سلع السوق. فهل يساعدنا الكورونا على إنقاذ العمل الإنسانيّ من غائيّاته الإنتاجيّة العدوانيّة التي تُطبق على صدورنا وتمنعنا من الاسترخاء الهنيّ في حدائق التفتّح الكونيّ السليم؟