“هو” و”هي”…لا عدالة إلّا في السماء!

Views: 204

د. جهاد نعمان

تتبنّى مختلف المجتمعات قيام تراتبيات في العالم، وهي من نسج الخيال الذي هو جزء من الواقع! العرق بالغ الأهميّة لدى أميركيي هذاالعصر، وتبيّن في زمن مسلمي القرون الوسطى غير ذي شأن نسبيًا. في الزمن عينه وما بعده، تجلّت الطبقات الاجتماعيّة المغلقة، في بلاد الهند، مسألة حياة او موت، في حين لا أثر لها عمليًا في أوروبا الحديثة.. ولكن، ثمة تراتبية بالغة الأهميّة قائمة لدى كل المجتمعات البشرية، وهي تراتبية الجنسين البشريين المتفاعلين بالضرورة. فلدى كل الشعوب، من حيث المبدأ، رجال ونساء. وقد حظيَّ الرجال في معظم أصقاع العالم، بأفضل الحقوق والامتيازات خصوصًا منذ الثورة الزراعيّة. 

أحدث الكتابات المنقوشة في الصين، على عظام العرّافات، ترقى الى عام 1200 قبل الميلاد. يقرأ علماء الآثار عليها ما يلي: “هل يكون انجاب الليدي هاو مجلبة لحسن الطالع؟”… والاجابة هي: «اذا أبصر الطفل النور في يوم «دينغ»، كان محظوظًا، اما اذا أبصر النور يوم «غينغ» تبيّن ذا يُمن وبركة » .. الليدي تجلّت خارج هاتين الحالتين فكانت سيئة الحظ هي ثم طفلتهاالمسكينة.. بعد ثلاثة آلاف سنة، يومَ سنّت الصين الشيوعية سياسة «الطفل الواحد» ظلّ عدد كبير من الصينيين يعتبرون ان ولادة فتاة ما مصيبة محقّقة. فيترتّب على الوالدين أحيانًا ان يتخلّيا عن الفتيات الحديثات الولادة او انهما يقتلانهنَّ ريثما يُرزقان صبيّا! 

 

ملك للرجال!

النساء،  في كثير من المجتمعات، مجرّد  ملك للرجال ومعظم هؤلاء الرجال في صفوف آبائهنّ وأزواجهنّ والأخوة. الاغتصاب في كثير من الأنظمة، يقع في خانة انتهاك الملكية، وبتعبير آخر، ليست الضحية في ذلك المرأة المغتصَبة بل الذكر الذي يملكها،  وهكذا يكون الحل القانوني نقل الملكية، ويترتب على هاتك العرض ان يدفع مهرَ العروس إلى والد المرأة او شقيقها، وعليه، تمسي العروس ملكًا للمغتصب. جاء في العهد القديم (سفر تثنية الاشتراع22 : 28-29) : «واذا صادف رجلٌ فتاة بكرًا لم تُخطب فامسكها فضاجعها فوجدا فليعط ذلك الرجل أبا الفتاة خمسين من الفضّة، وتكون له زوجةً في مقابل إذلاله لها وليس له ان يطلّقها كلّ ايامه…». لقد اعتبر قدامى العبرانيين هذا التدبير حكيمًا منصفًا. 

ان اغتصاب فتاة غير متزوجة لم يكن ليعتبر قط جريمة، تمامًا كما ان التقاط عملة مهملة في شارع مزدحم لا يعتبر سرقةً؟ وانّ اغتصب رجلً زوجته لا يرتكب جريمة. والواقع ان مجرّد اعتبار ان رجلًا ما في استطاعته ان يغتصب زوجته، ينطوي على سفسطة او كلام متناقض. ان تكون زوجًا يعني ان لديك سيطرة  تامة على نشاط زوجتك الجنسي. وهذا المنحى لم يكن حصرًا على الشرق الأوسط القديم. الى عام 2006 أبقت ثلاث وخمسون دولة على حق اغتصاب الرجل لزوجته. حتى في المانيا، لم تعدّل قوانين الاغتصاب قبل عام 1997، فابتدعت  فئة قانونية من الاغتصاب الزوجي. 

هل التمييز بين الرجال والنساء من نسج الخيال البشري، كما في نظام الطبقات المغلقة في الهند والنظام العنصري في أميركا، ام انه تميّز طبيعي ذو جذور بيولوجية؟ وفي الحالة الأخيرة، هل ثمة شروح بيولوجيّة ايضًا لمصلحة تقديم مكانة الرجال على النساء؟

ثمة بعض التباين الثقافي والاجتماعي والسياسي بين الرجال والنساء يعكس التباين البيولوجي الواضح بين الجنسين. الرجل لا ينجب كالمرأة نظرًا الى ان ليس له رحم مثلها، ولكن لا اعتبارات بيولوجية غير ذلك، مما يبرر أفكاراً وقوانين حول تباين الجنسين. فهناك نعوت تنسب الى الرجال ونعوت اخرى تنسب الى النساء من غير مسوّغ بيولوجي.

 

التأنيث الملتبس

 كلمة كرش مؤنثة في لغة الضاد. التأنيث الملتبس لألفاظ وصيغ وافرة لافت في لغتنا. وفي اثينا الديمقراطية اثناء القرن الخامس قبل الميلاد ان كل انسان فرد له كرش الوجاهة لا يتمتع بوضع قانوني مستقل ولا تسمح له المشاركة في التجمعات الشعبية او تسنم مركز قاض في المحكمة. ان انسانا كهذا قلما يفيد من تعليم جيد أو ينكّب على عمل او نقاش فلسفي. ما من زعيم سياسي في اثنيا او فيلسوف  كبير او خطيب او فنان او تاجر اكرش عظيم البطن. هل للكرش محاذير بيولوجية تحول دون القيام بهذه الأنشطة؟ هذا ما اعتقده اهل اثينا فيما مضى وهم باتوا اليوم يرفضونه، فنساؤهم يدلين باصواتهنَّ ويعيّن في الوظائف الرسمية ويلقين الخطب ويعدّدن العدّة لصوغ الجواهر وانشاء المباني وصولاً الى دخول الجامعات والمشاركة في ميدان الالكترونيات الحديثة. لا شكّ في انهنّ لا ينخرطن في عالميّ السياسة والأعمال كما الرجال وعددهنّ في مجلس النواب اليوناني نسبته نحو 12 في المئة ليس إلاّ، ولكن، ما من عائق قانوني دون مشاركتهنّ في السياسة. وان معظم اليونانيين اليوم يعتقدون انه من الطبيعي بمكان ان تقوم النساء بعمل ما في الوظائف الرسميّة. 

 

يرى  اليونانيون اليوم ان العلاقات الجنسية طبيعيّة بين  الفريقين… ولكن المسألة مسألة ثقافية لدى أجدادهم الإغريق. العلاقة بين المثليين تبيّنت ليس شرعية فحسب وانما ايضًا ذات أبعاد تثقيفية. حسبنا ان نعود للتحقق من ذلك، الى الالياذة، فالطبيعة الأم، بحسب هذه الملحمة الشهيرة، لا تبالي بأن ترى رجلًا يجذبه رجلًا آخر. 

أنّى لنا ان نميّز بين ما تحتّمة البيولوجيا وما يسعى الناس لتبريره عبر أساطير بيولوجية؟ هناك قاعدة بسيطة على أساس الخبرة والممارسة قائلة بأن البيولوجيا تتيح لنا القدرة والثقافة تحظر. تبتغي البيولوجيا التسامح ازاء مجموعة واسعة من الإمكانات. والثقافة تمكّن الناس من تحقيق بعض الامكانات في حين انها تحظر امكانات اخرى.

تمكّن البيولوجيا النساء من ان يلدنَ الأطفال، وبعض الثقافات ترغم النساء على وضع هذه الولادة موقع التنفيذ. تخوّل البيولوجيا الرجال ان يستمتعوا بالجنس فيما بينهم، في حين  ان بعض الثقافات تمنع عنهم هذا الامكان. 

 

كل ما هو ممكن هو طبيعي!

تتجه الثقافة الى حظر كل ما هو غير طبيعي. ولكن، ما من شيء غير طبيعي من منظور بيولوجي وكل ما هو ممكن هو بحكم تعريفه، طبيعي ايضًا. ان تصرفًا غير طبيعي حقًا ومخالفًا لقوانين الطبيعة، لا اثر له بتاتًا وثانيًا لا حاجة به الى حظر. ما من ثقافة حظّرت يومًا على الرجال القيام بعملية التركيب الضوئي أو حملت النساء على ان يسعين في نسبة اسرع من سرعة الضوء… 

الحقيقة ان مفهومي «طبيعي» و«غير طبيعي»، ينبثقان ليس من البيولوجيا وإنما من اللاهوت المسيحي على الخصوص. ان المعنى اللاهوتي للـ «طبيعي» هو: بموجب مشيئة الله الذي خلق الطبيعة. خلق الله الجسم البشري لكي يحاول كل طرف او عضو ان يسعى وراء هدف معيّن. فان نحن استخدمناه من اجل الهدف الذي يتوخاه الله، تجلّى نشاطًا طبيعيًا، أما نقيض ذلك فيعني اننا قمنا بعمل غير طبيعي. ولكن لا هدف للتطوّر. فأعضاؤنا لا تتطوّر تبعًا لهدف ما، وهي في تدفق مستمر.لا مرجعية لها وهي تنمو للقيام بوظيفة معيّنة. ولكنها ما ان  تتمظهر حتى تتكيّف مع استعمالات أخرى. الأفواه مثلًا ظهرت لأن أول الأجسام المتعددة الخلايا احتاجت الى وسيلة «محلية» لالتقاط الأغذية. ولا نزال نستخدم أفواهنا من أجل هذا الهدف. ولكننا نستعملها ايضًا لطبع قبلة أو للنطق او ان نحن تجلينا أمثال رامبو ننتزع الدبابيس من القنابل اليدوية. فهل يكون احد هذه الاستعمالات منافيًا للطبيعة لمجرّد ان أسلافنا الذين يشبهون الدود وعاشوا قبل ست مئة مليون سنة، لم يقوموا بهذه الأنشطة مستخدمين أفواههم؟ 

تطوّرت وظائف أعضائنا الجنسية من وظيفة الانجاب الى الحب الشبقي الى السعي وراء اللياقة البدنية وصولًا الى مصادفة رفيق ممكن. وثمة بشر يستخدمون، كما القردة، الجنس تعزيزًا لتحالفات اجتماعيّة وشخصيّة ونزعًا لحدة الصراعات. (www.sociobits.org) فهل كل هذا غير طبيعي؟ 

 

المخيلة البشرية

يبدو ان للمخيلة البشرية المساهمة الكبرى في التمييز بين الجنسين. فالرجال للالتزام السياسي مثلًا والحقوق كالانتخابات والواجبات كخدمة العلم، والنساء للانجاب والاستماتة في الحؤول دون اعمال العنف والواجبات ازاء ازواجهنّا واقربائهنّ. وقد اختلفت الأدوار والحقوق والواجبات، بين الجنسين، من مجتمع الى آخر. 

دفعًا لكل التباس، نميّز بين الجنس البيولوجي والفيزيولوجي الذي يتحدّث عن ذكور واناث وصفاته موضوعية ثابتة عبر التاريخ، والجنس الثقافي الاجتماعي الذي يتحدّث عن رجال ونساء. وهناك مجتمعات تتحدّث بفئات أخرى. في الجنس الثقافي الاجتماعي، هناك ميزات بيذاتية قابلة للتبدّل من مثل التباين في السلوك والرغبات والأزياء وحتى لغة الجسد. بين نساء أثينا القديمة مثلًا ونسائها في الأزمنة الحديثة. الجنس البيولوجي الفيزيولوجي سهل الادراك والمعالجة نسبيًا. أما ثقافيًا واجتماعيًا، فينبغي لكل جنس ان يثبت ذاته وانتماءه الجنسي حتى الرمق الأخير. 

منذ الثورة الزراعية، تجلّت معظم المجتمعات أبويةً تقدّم الرجل على المرأة. ومهما انطوى عليه كلٌّ من المصطلحين من معنى، حاولت هذه المجتمعات تعليم الرجال ما يغاير تعليم النساء، ومعاقبة كل من تسوله نفسه تجاوز الحدود بين الجنسين. للمرأة فرص عمل أقل عددًا وسلطة سياسية أدنى واقل قدر من الحرية وامكان التحرّك. 

جاءت بعض النساء، بمثابة استثناءات تؤيّد القاعدة ككليوباطرا في مصر والملكة اليزابيت الأولى في انكلترا. سحابة خمس واربعين سنة من الملك من قبل الملكة اليزابيت، اللافت ان كل اعضاء البرلمان هم رجال وكذلك ضبّاط البحرية واللاهوت والكهنة والأطباء، والجرّاحون والطلاب وأساتذة الجامعات والمعاهد والاداريون. وان معظم الكتّاب والمهندسين والشعراء والفلاسفة والرسّامون والموسيقيون والعلماء هم في صفوف الرجال! 

 

النظام الأبوي

النظام الأبوي هو القاعدة الذهبية في معظم المجتمعات الزراعيّة والصناعيّة، وقد صمدت هذه القاعدة في وجه الثورات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية. احتلت مصر غير مرّة إذ غزاها الاشوريون والفرس والمقدونيون والرومان والعرب والمماليك والأتراك والبريطانيون، وبقيت على نظامها الأبوي. انقادت للقانون الفرعوني والقانون الاغريقي والقانون الروماني والشريعة الاسلامية والقانون العثماني والقانون البريطاني، وهي كلها دانت الجماهير التي لم تتصرّف مثلما «الرجال الرجال». 

وما دام النظام الأبوي على هذه الشمولية، لا يعقل ان يأتي نتيجة للمصادفة. حتى قبل عام 1492، تبينت أكثرية المجتمعات الأميركية والأفرو-آسيوية، أبويّة حتى على الرغم من انقطاع اخبارها خلال آلاف السنين قبل ذاك. 

يذهب البعض الى ان سيطرة الرجال على النساء مردّها الى قوتهم البدنية، ما يجعلهم يحتكرون الأعمال اليدويّة الشاقّة كالحراثة والحصاد، وهذا ما أتاح لهم السيطرة على الانتاج الزراعي، التي استحالت بدورها نفوذًا سياسيًا.

بيد ان القوة البدنية لدى الرجل هي مجرّد معدّل وسطي وهي قوة من نوع محدّد. فالنساء اشدّ مقاومة للجوع والمرض والتعب. وكثيرًا ما يسابقن الرجال في الركض ويحملنَ أوزانًا  أثقل. وعبر التاريخ، أقصيت النساء خصوصًا عن أعمال تتطلّب القليل من الجهد البدني كالمحاماة والسياسة، في حين انهنّ انخرطن في الأعمال اليدوية الشاقّة في الحقول والأعمال المنزلية والحرف. 

لرجل ستيني عادة سلطة على شاب عشريني، على الرغم من تفوّق الشاب البدني على من يكبره سنًا، وللسيّد سلطة ايضًا على عبده على الرغم من تفوّق العبد في قوة عضالاته. ولم يخضع، في غابر الأزمنة، فراعنة مصر أو باباوات الفاتيكان لاختبار مهاراتهم البدنية. تجلّت المهارات الاجتماعيّة عمومًا أهم من نمو العضلات. وفي الجرائم المنظمة، نرى ان العقل المدبّر ليس ضرورة عقل أقوى الرجال من الوجهة البدنية. الرجل المتقدّم في السن هو صاحب العقل المدبّر ذاك. هو قلّما يستخدم قبضته بالذات تسييرًا لصنيعه. انه يحمل رجاله الأصغر منه سنًا والأكثر لياقة بدنية، على القيام بمهمّاتٍ وضيعة بالنيابة عنه.  

هل تكون العدوانية أساساً لهيمنة الرجل على المرأة؟ لا شكّ في ان الحروب عبر التاريخ قد شنها رجال بمبادرة من رجال، مما جعل سيطرة الرجال على القوات المسلحة منهم أسياد المجتمع المدني، ليخوض عدد متزايد منهم في المعارك التي تتزايد معها سيطرتهم على المجتمع. وهذا ما يفسر انتشار حالات الحروب وانتشار النظام الأبوي في الوقت عينه. 

 

الأنظمة الهرمونية والمعرفية

هناك دراسات حديثة العهد حول الأنظمة الهرمونية والمعرفية لدى الرجال والنساء، وهي تعزز فرضية ان لدى الرجال فعلًا ميولًا عدوانية عنيفة اشد مما لدى النساء، وأنهم تاليًا في معدلهم، اهل لكي يستخدموا كأفراد في الجيش. هل يعني ذلك ان من  يدير الحروب ويستمتع بثمارها هم بالضرورة في صفوف الرجال؟ هذا لا معنى له، فهذا المنطق يفترض انه، نظرًا الى ان كل العبيد اوالكادحين الذين يزرعون القطن في الحقول هم في صفوف الزنوج او ذوي البشرة السوداء، ان أصحاب المزارع هم أيضًا في صفوف أولئك العمال.

لم تتسنم النخب الاجتماعية قيادة الجيوش وتترك مهمات الأفراد للفقراء أو الأقليات؟ ولم تقصى القيادات عن النساء؟ لربّ قائل ان الضعف البدني او انخفاض نسبة هرمونات التستوسترون يحول دون ان تمسي النساء مجلّيات في حلبة السياسة او الجيوش. يحتاج المرء لادارة الحروب الى قدرة على التحمّل ولكن، ليس الى فيض قوة من الطاقة البدنية او العدوانية. فالحرب ليست مجرّد شجار يقع في حانة ما. انها مخطّط معقد يتطلب درجة كبيرة من التنظيم والتعاون وتهدئة الخواطر. والمدخل الى النصر المبين يقتضي القدرة على الحفاظ على السلم المحلي وتوفير حلفاء من الخارج وادراك مايخطر ببال الشعوب الأخرى، لا سيما الأعداء. لذلك  يتضح  ان العدوانية المفرطة هي اسوأ الخيارات لادارة الحروب. والأولى بالأمم ان تختار شخصًا متعاونًا  يُدرك كيف يتدبّر الأحوال ويناور ويرى الأشياء من أكثر من منظور واحد. هذا هو ديدن الآباء المؤسسين للامبراطوريات. ولقد افلح اغسطينوس المتروي في قراراته العسكرية، في اقامة نظام امبراطوري ثابت، فحقق بذلك ما فات كلًا من يوليوس قيصر والاسكندر الكبير السريعي البطش. وعزا معاصروه والمؤرخون الثقات عمله البطولي الى فضيلة حلمه واعتدال مواقفه. 

 

استراتيجيات مختلفة

يُعرف عن المرأة انها تناور وتهدئ الخواطر اكثر من الرجل، وانها ترى الأشياء من منظور الآخرين. فلم لا تضطلع في واقع الحال بأدوار سياسية وتدبيرية في منتهى الجودة، فتدع فحول الرجال ذوي الهرمونات الصلبة وانما ذوي العقول الساذجة، يقومون بتوافه الأعمال؟ بغض النظر عن الأساطير الشعبية، لم يشهد التاريخ قط ادوارًا نسائية بارزة في ارض الواقع! 

لجأ الرجال والنساء خلال حقبات طويلة من التطوّر الى استراتيجيات مختلفة في سبيل البقاء والتكاثر. عوّل الرجال على التنافس والغلبة. ومع مرور الزمان، اتجهت جيناتهم شطر مزيد من الطموح والعدوان. في المقابل، لم تلق المرأة حائلًا دون ايجاد من يميل اليها من الرجال بعكس هؤلاء. ولكنه ترتّب عليها حملًا يدوم تسعة اشهر شاقة، يليه الاحتضان التام. وهي، أقله خلال هذه المرحلة من حياتها التي قد تتكرّر، تحتاج الى رجل يعضد بقاءها وبقاء انجالها. انها حاضرة، في سبيل ذلك، لشتى التنازلات، ولتحويل قواها الذاتيّة، علىمرّ الزمان،الىالأجيال الصاعدة ( فعلًا). هكذا، خطّط الرجال لمزيد من الطموح والمنافسة وللاجادة في حلبة السياسة والأعمال، في حين ان النساء اتجهنَ شطر فسح المجال والتفاني في سبيل تربية الأطفال وتفويض ما تبقّى الى الله اولًا ثم الى رجالهنّ وخصوصًا ان اتفق ان الأطفال تبينوا ذوي حاجات خاصة! 

 

ولكن، يبدو ان هذه المقاربة تدحضها، هي ايضًا، الأدلة المستمدّة من التجربة، فثمة اشكالية اساسية في قولنا بتبعية المرأة وخضوعها تاليًا للرجل حصرًا، وبالتنافس الذكوري الذي يجعل الرجال طغاة مرهوبي الجانب. هناك عدد كبير من الحيوانات، كالفيلة والقردة، ينجم عن الدينامية القائمة بين انثاها المعالة وذكورها المتنافسة بلا هوادة، مجتمعٌ ذو نظام أموميّ. فما دامت أناث الحيوانات في حاجة الى مساعدة تأتي من الخارج، لزم عليها ان تنمّي مهاراتها الاجتماعية، وتتدرّب على كيفية التعاون والتروّي. هكذا تنشأ شبكات اتصال اجتماعية محض انثوية تخوّل كلًا منها تربية صغارها. وفي غضون ذلك، تقضي ذكور الحيوانات اوقاتها للتنافس والتصارع فتبقى مهاراتها وعلاقاتها الاجتماعية على تخلّفها وتقهقرها. تسيطر على الفيلة والقردة اذًا شبكة صلبة من اناث متعاونات في حين ان الجماعات الأنانية وغير المتعاونة لدى الذكور، تبقى مهمّشة. وعلى الرغم من  وهن اناث تلك الحيوانات النسبي في مقابل قوة فئة الذكور، تهجم الاناث على كل ذكر تسوّل له نفسه تجاوزَ حدوده، وتوسعه ضربًا. 

 

حيوان ناطق

لم لا ينطبق هذا الوضع على معشر النساء؟

الانسان حيوان ناطق وانما وهن يتميّز بقدرته على التعاون مع انداده ولو في عدد من الاحايين وبدرجات. فاذا كان الأمر كذلك، يجدر بنا ان نتوقّع انكباب النساء الخاضعات  لازواجهنّ، على مهاراتهنّ الاجتماعية المتنامية، لتخفيف سلطة ازواجهنّ العدوانيين المتسلطين الأنانيين بفضل مناوراتهن واستمالة الأزواج بلا استعطاف.

من الثابت ان ادوار الجنسين شهدت، في القرن الماضي، ثورة ذات شأن، فقد طفقت  مجتمعات متزايدة تولي الرجال والنساء، جانبًا من المساواة القانونية في الحقوق السياسية والفرص الاقتصادية المتاحة، وكذلك اخذت تعيد النظر في مفاهيم اساسية  حول الجنسين والحياة الجنسية. وعلى الرغم من الهوّة التي لا تزال  قائمة بين الفريقين، نرى ان التطورات ذات الصلة تسير في سرعة مذهلة. ان فكرة حق التصويت للنساء الأميركيات تبينت مع بدء القرن العشرين، عملاً  شنيعًا. اما اليوم، فهذا الحق امرٌ مسلّم به وكذلك..  زواج المثليين وتبنيهم الأولاد كما في فرنسا – ابنة الكنيسة البكر…!! 

هذه التغيّرات المثيرة هي بالضبط ما يجعل سيرورة تاريخ الجنسين مجلبة للحيرة والارباك. فاذا ما أقمنا الدليل اليوم بوضوح، على ان النظام  الأبوي  – الذي تطلق عليه خطأ تسمية «بطريركي»..! قد ارتكز على اساطير باطلة لا اساس لها، اكثر منه على واقع ما بيولوجي او فيزيولوجي، كيف ترانا نبرّر شمولية ذلك النظام وديمومته؟ 

***

(*) د. جهاد نعمان أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *