على الأصيل في “مع الأصيل”، ديوان الشاعر سليم أبي عبدالله
د. عماد يونس فغالي
يوم زرتُه في العناية الفائقة، فترةَ كان يغادر، أبلغني أنّه سيُصدر ديوانه الأخير، مطلقًا عليه عنوانَ “مع الأصيل”. ولمّا أخذني الصمتُ على رفض، أردف: لنكن واقعيّين صديقي، ألستُ على أصيل العمر؟!!!
وأضاف: في الديوان قصيدةٌ كتبتُها خصّيصًا لَكَ!!
واختلط على الأصيل الرحيلُ!
راح سليم أبي عبدالله وبقيت أوراقه مخطوطاتٍ تهتف: “مع الأصيل”. عرفتُ لاحقًا أنّه أوصى بصدور ديوانه متابعةَ ابنه وبعض الأحبّة.
عاينتُ صدورَ الكتاب، بأيّ حبٍّ صدر!! تواكبَ المهتمّون على أن يكونَ الكتابُ من قيمةِ الرحيل.
في هذا الديوان الذي أراد صدوره في تفاصيلَ اعتقدَ يتابعُها، أرادتْ عنايةٌ غَيْرَ ذلك! هل قصدُها ربّما يكون فعلَ وفاء؟ ربّما. سليم أبي عبدلله، مستحقٌّ سيّدي!!!
كتابُ قصائد في اللغة اللبنانيّة المحكيّة التي برع في نظمِها، كما برع في اللغة العربيّة الأصيلة. كتبَ الرثائيّات، لا لأجل بكاءاتِ راحلين، لكن ليوجّه إلى خصالٍ إنسانيّة وإبداعيّة تحلّى بها من تركوا فراغًا في غيابهم، لا يعوّض حسب اعتقاده…!!!
كتابٌ هتف في صفحاته شرارات المغيب… كم ناجى الداعي إلى الأفول، صحوةَ حقّ، بان للمطّلعِ سوادُ الصورة، لكنّ الشاعرَ مدركٌ واقعًا، واقعه في شكلٍ خاصّ، عبّر عنه منذ التوقيع، قال:
… وبلّش عليي يزحف الليل الطويل
… بيقول يلاّ قوم ولّف عالرحيل.
جمع الشاعرُ في كتابه هذا الأخير، كلّ قصيدةٍ في أحبّائه الشعراء والأدباء الذين نظر فيهم قيمةَ الكلمة تستمرّ. نظر فيهم قيمةَ أصالةٍ من إنسان، من لبنان، من “كلّ عطيّةٍ من فوق، من عند أبي الأنوار”.
يتبيّن من خلال القصائد تلك، كم الشاعر على علاقةٍ طيّبة مع أئمّةٍ في الكلمة والصحافة والإعلام، رغبوا هم في نسج الروابط معه، لأجل صدق تواصله واهتمامه للاطمئنان عليهم تباعًا وعدم قطع الوصال.

وضمّ ناشرو الكتاب فصلاً في نهايته حاكى المؤلّف في ارتحاله. يلفتُ في هذا النشر أسماء القائلين فيه رثاءً، هم شبه ذاتهم من وردتْ قصائدُ مهداةٌ إليهم في ما قبل على متن الديوان. ما يجعلُ اعتقادًا أنّ سليم أبي عبدالله عارفٌ بمن يكتب، هؤلاء الصادقينه محبّةً وتقديرًا، وكانوا أوفياء!!!
من اعتلوا المنبر يودّعونه في ارتحاله وذكرى الأربعين، ومن كتبوا الكلمات الحاكية نفسَه الراحلة إلى الله، في الصحف والمجلّات، أو على مواقع التواصل الاجتماعيّ، كلّهم وفوا محبّتهم للشاعر الغالي، فاحتواهم الكتاب في أصيل امتنانه…
سليم أبي عبدالله، دعْني في هذه العُجالة أشهدُ أنّي عرفتُكَ شاعرًا في مربض الفرسان، عابدًا في هيكلِ الكلمة، خادمًا في محراب اللغة… في هذه سيّدي، لم تعتلِ المنبر، لا. يشهدُ كتابكَ هذا الأخير، كم كان المنبر ينتصبُ إجلالاً لوقوفكَ فوقَه علَمًا تنصاعُ له بنتُ الأبجدِ ويخشعُ أمامه أمراءُ البيان. حسبُهم مرّوا من هنا، تلمّسوا عالياتكَ واغتنَوا!!
وأنا يكفيني كم نعمتُ في أصيلكَ بعطايا قلبكَ أوّلاً، وهدايا فكركَ خصوصًا. أشعرتَني بقيمتي الأدبيّة، لا مدحًا وتبجيلاً، ولكن دلاًّ على ما آتيه من صحيح، وبثَّ نصائح أبويّة حفاظًا عليّ واتّقاءَ سقوط.
أعذرْني يا كبيرُ أن جمحتُ قائلاً إنّ “مع الأصيل” سيبقى كتابَكَ الأغلى لديّ، لأنّه وُلد على معرفة منّي، منذ أبلغتَني بتكوّنه، حتى صدوره في ذكراكَ وتكريمك. أعذرُني أحبّه لأنّه يحتويني في قصيدتين، من فيضِ نظرتكَ الكبيرة إليّ… ولأنّه لن ينفكّ يُنبئني أنَّ الكبارَ مثلكَ لا يرحلون!!!