أبحثُ عن فكرةٍ
د. غادة السمروط
أُمسكُ بالقلم، أجلسُ أمام الطّاولةِ، ورقةٌ بيضاءُ تنتظرني، أخطّ عليها ما ينوءُ به فكري. لكنّني، اليومَ، أجدُني مشرّدةً في قحطٍ وجفاف. لا فكرةٌ تطرقُ بابَ الكتابة فيّ، لا كلمةٌ تتقدّم إلى الصّفحة. أمامي مقلمةٌ غصّت بالأقلام، وزجاجةٌ صغيرة فرغَتْ من مائها. رحتُ أتأمّلُ الاثنتين علّي أملأُ الزّجاجةَ بحبرِ الأقلامِ الّتي أمامي، فتفيضُ فيَّ الأفكار. لكن لم يحدثْ ذلك! راحتِ الأقلامُ تنهضُ إلى الورقة، كلُّ قلمٍ يسكبُ عليها حبرًا يختلفُ عن حبرِ أخيه، لونًا ووضوحًا. ويكتبُ ما يروق له. وراحتِ الكلماتُ تجري في تقاربٍ حينًا، وفي تباعدٍ أحيانًا. وأنا ألحقُ بها، غيرَ قادرةٍ على لجمِها إلى معنًى يحطُّ قويمًا على السّطور. وكان ما لم أحسبْه يكون!
كان نصٌّ ضاقَتْ به الصّفحةُ، ذابتْ كلماتُه في حرِّ معنى لا أفهمُه، سالَتْ حروفُه، وسقط على الأرض. راح الحبرُ يرسمُ دوائرَ ويتأوّه. الوقتُ يمرّ، والحبرُ ينازعُ في سيلِه. هو أضاع بريقَه في شحوبِ الذّبول. لكنّه ما زال يحلم بالكلمة وبالورقة. والكلمةُ تَبدَّلَ شكلُها وتغيَّرَ معناها. وراح رذاذُ ضوءٍ يهطلُ على الصّفحة. وضِعت أنا بين حبرٍ يسيلُ ويجفّ، وضوءٍ يردُّ للصّفحة بهاءَها. ضاق بيَ الحالُ، وأنا مازلتُ أحاولُ، والأسئلةُ تفتكُ بي:
لماذا لا أدَعُ القلمَ وشأنَه؟ لماذا أحاولُ الكتابة ؟ لماذا تغادرُني الأفكار؟
راح الانتظارُ ينهشُني، فأراني صحراءَ لا واحةَ فيها ولا هواء. تحرقُني شمسُها، فألوذُ بالخيال علّه يأتي بالمطر، فتنبتُ أزهارٌ وتعلو أشجارٌ، وتسيلُ أنهار. وتروحُ الأشياءُ تمتدُّ في خصبٍ بعد جفاف، وفي حياةٍ بعد موت. لعلّ البحرَ يتقدّمُ ليرويَ قصصَ بحّارةٍ عبروا أمواجَه وغرُبوا. ولعلّ بعضَ سحاباتٍ تجري على رقعةٍ من السّماء، فيغطّي ظلُّها رقعةً من البحر، يستظلّ فيها الموج. رَجَوْت أن يحدثَ ذلك كلّه، كي تأتيَ فكرةٌ تتبعها أفكارٌ، فأروي الورقةَ معنًى. لكنّي لم أرَ سوى صوتٍ بلونِ القلق، يسري في الأرجاء، ويحطّ في أذنيّ. ورأيتُني ما أزال في أرضٍ مُجدِبة. ولم أحظَ بخيطٍ أنسجُ به فكرة.
نظرتُ إلى إناءٍ في زاويةِ الغرفة، تسبحُ فيه سمكتان. رحتُ أتأمّلُهما في سعيهما الدّؤوب، الصّامت.
وخشيتُ أن تكونَ ذاكرتي أجدَبَتْ وصرتُ سمكةً، أسبحُ في فراغ !!