عقدان في خدمة أولويّات الشباب العربيّ
جودي الأسمر*
في القاهرة، وبتاريخ 12 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2008، وعلى طول جادّة الـ “سيتي ستارز”، كانت تستوقف الوافدين من المطار صفائح إعلانيّة مُتتالية، خُطَّت عليها عبارة: “ثقافة التنمية – فكر7″ تُعلن عن المؤتمر الذي سينعقد في اليوم التالي، حيث ينضمّ أكثر من 700 ضيف ومتحدّث من المحيط الى الخليج. من بين هؤلاء، نحو 100 من الشابّات والشبّان العرب خصّتهم مؤسّسةُ الفكر العربي بـ”مقهى الشباب” الذي شكّل خلال ثلاث سنوات (2008، 2009، 2012) ملتقىً للشباب العرب حول أهدافٍ مَعرفيّة وثقافيّة وتشبيكيّة ذات مستوى مرموق، قلّ نظيرها في المنطقة، لا بدّ أنّها شكّلت تجربةً ثريّةً لشبابٍ طموحين كانوا حينذاك في بداية المشوار، وهُم اليوم يحفرون علاماتٍ فارقة في النّتاجات الثقافيّة، والبحث العلميّ، ومَراكِز صنْع القرار، في بلدانهم كما في العديد من بلدان العالَم.
في تحقيق الأثر وديمومته يثبت النجاح، بدليل التمكُّن والرغبة في استعراض محطّات، منها “مقهى الشباب” ضمن مؤتمرَي “فكر7” في القاهرة ولاحقاً “فكر8” في بيروت، على خلفيّة تجربة شخصيّة. ولا شكّ أنّ الجائحة التي قَطعت أواصر التواصل الإنساني، وسطَّحته على الشاشات الافتراضيّة، تمنح هذه الفاعليّات جانباً نوستالجيّاً، لعلّه يؤكِّد للعاملين في مجال الثقافة، على الرّغم من تحدّياتها العظيمة وبسببها، على ضرورة عدم تهيُّب المُبادَرة على غرار ما تقوم به “مؤسّسة الفكر العربي” منذ 20 سنة؛ لأنّ الإنسان قد يستطيع اليوم، ولا يستطيع غداً، تحقيق الإنجازات في عالَمٍ مفاجآتُه غير مأمونة. درسٌ أوّل تستحضره تلك التجربة الرائدة في “زمن كورونا”، لكنّه الغيض من فيض.
أوّل تقرير عربيّ في التنمية الثقافيّة
شهد مؤتمر “فكر7” إطلاق “التقرير العربيّ الأوّل للتنمية الثقافيّة”. وكان الشباب شركاء في هذه اللّحظة النوعيّة والسبّاقة في سجلّ البحث العِلمي العربي. وإذ أكّد حضور الشّباب على أمرٍ، فهو الاعتراف والتحفيز على الدور الأصيل الذي يحملونه في قيادة المشروعات التنمويّة في العالَم العربي والائتمان على مقوّماته، بخلاف ما يواجهون من تهميشٍ وإقصاء يحاول اغتيال هذا الدور في سياق منظوماتهم السياسيّة المحليّة.
أيضاً، ثمّة أسبقيّة في إقران التنمية والثقافة من ضمن مفهوم واحد، قد يتشكّل عنه ترابط “تنمية الثقافة وثقافة التنمية”. في المضمون، رَدَمَ هذا التقرير الفجوةَ السائدة بين التنمية والثقافة، ما حفَّزَ وعي الشباب بأهميّة تعزيز ثقافتهم الشخصيّة ودعمها في المجتمع عموماً، إن أرادوا الدفع قدماً في عجلة التنمية، وأنّ أيّ مشروع تنموي سيقيمونه، إن لم يُبنَ على متنٍ ثقافيّ وفكريّ وعلميّ عابر للتخصّصات، سوف يصعب تمنيعه ضدّ الفشل، وفي تجارب “الربيع العربي” حقل واسع يصلح لهذه الإشكاليّة.
إلى جانب وفاء مؤسّسة “الفكر العربي” لوعدها بإصدار التقرير سنويّاً، وأمانة التقرير في رصْد وضع التعليم والثقافة في العالَم العربي، بات يُمكن اعتماد هذا التقرير مرجعاً لأدوات ومؤشّرات لتشكيل مشاريع ثقافيّة، والبناء عليها بناءً عِلميّاً وليس انطلاقاً من خطاباتٍ وشعارات.
وحيث إنّ هذا التقرير السنوي الضخم يُسهم في “بناء قاعدة معلومات غالباً ما يشكو الباحثون العرب والمُهتمّون من تشتُّتها وندرتها”، فإنّ أيّ شابّ/ة عربيّـ/ة تمثَّل له هذا الواقع منذ نحو 13 سنة في المؤتمر، يلمس أكثر فأكثر مغبّات هذا النّقص في البيانات العلميّة التي يحتاجها المهنيّون الشباب في كتابة المشروعات التنمويّة والرسائل الأكاديميّة، وحتّى التقارير الصحافيّة التي تُعالج واقع المُجتمعات العربيّة، وظلّت جدّيّتها تُقاس بأرقامٍ مُعتمَدة من منظّماتٍ دوليّة وتقارير الأُمم المتّحدة، لشحّ الموارد العربيّة الجديّة وعجزها عن مواكبة التطوّر السريع للعلم والأحداث.
أحدثت “مؤسّسة الفكر العربي” ولا تزال، كوّةً مضيئة وسط القتامة في فضاء البحث العلمي التي يتشكّى منها الباحثون العرب الشباب وغير الشباب، فتبني لهم المَوارد العلميّة العربيّة وتُجدِّد الثقة بها. وها هي التقارير السنويّة تُشكّل تراكُماً ثريّاً مُغايراً للسرديّة العامّة المُخجِلة، بعد أن كانت منظّمة اليونيسكو قد لحظَت في تقرير العام 2015، أنّ نصيب العالَم العربي من المنشورات العلميّة لم يتجاوز 2.45% عالَميّاً، وأنّ نسبة الإنفاق المحلّي الإجمالي للدول العربيّة كلّها على البحث العلمي في الجامعات العربيّة، لا تزال واهية جدّاً، إذ لم تبلغ نسبة 1% من الإنفاق المحلّي الإجمالي العربي، ولا تحمل الأحداث السياسيّة والعسكريّة المتلازمة منذ العام 2011 أيّ تقدُّم في مجال البحث العلمي في الوطن العربي.
إذًن، كان “مقهى الشباب” واحداً من المُلتقيات الشاهدة والمستفيدة من ولادة تقرير التنمية الثقافيّة الأوّل من نوعه عربيّاً، ولم يكُن الأخير، إذ التزمت المؤسّسة في نهاية كلّ سنة، بنشْر “التقرير العربي للتنمية الثقافيّة”، والذي جاء آخر إصداراته، والذي هو في الترتيب الحادي عشر، بعنوان “فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع”.
استشراف أولويّات الشباب
في أسلوب “المقهى الشبابي” الذي أَعدَّ “أغورا” فكريّة جمعت الشباب بخبراء على مُختلف الصعد، من خلال طريقة حديثة للحوار على نمط المقهى العالَمي، يمكن الاستئناس بقول الأصمعي “أوّل العِلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرّابع العمل، والخامس نشره”.
علاوةً على أنّ “مقهى الشباب” الذي كان يُفتتح عادةً قبل يوم من انعقاد المؤتمر العامّ، تناولَ في واحدة من ورشه مسألة “المدرسة منبر للتطوير العلمي”، من ضمن “مقهى التعليم”، وكأنّه بذلك جسَّد بُعد نظر المؤسّسة واستشرافها كأولويّةٍ لا تزال تشغل الشّباب العربي منذ ذلك الحين، وهو يزداد وعياً بالأهميّة الجوهريّة والمُتنامية للعِلم، مهما بلغت درجات الأزمات الصحيّة والأمنيّة التي تعصف في بلادهم.
فها هو “مركز الشباب العربي” يُصدر دراسةً في آب/ أغسطس 2020، تتضمّن استطلاع “أولويّات الشباب العربي”، غطّى آراء 7000 شابّة وشابّ من 21 دولة عربيّة، حيث مثّل التعليم وفق الشباب العربي المرتبة الثانية من الأولويّات التي تشكِّل أساس التنمية، متوسِّطاً الاستقرار والصحّة.
بالعودة إلى المقهى الشبابي، كان رئيس “مؤسّسة الفكر العربي” الأمير خالد الفيصل حريصاً بعد كلمته الافتتاحيّة على التجوال بين الطاولات، حيث تدور نقاشات الشّباب، يجلس على كرسّي بينهم ليصغي بتمعّن، فيُراقب النقاش، ثمّ يطرح الأسئلة وينتظر الإجابة من الشّباب الحاضرين. قد يبدو من الصّعب حفْظ الكلمات بحذافيرها، لكنّ الأسلوب الذي يُخاطب الشباب بيسر، لا يزال ماثلاً، والابتسامة، وكذلك سخاء سموّ الأمير في التشجيع النّابع من ثقته بطاقات الحضور، وفي مغزاه الأعمق أنّ الشّباب والتعليم صنوان، وهُما الأوفر قدرة على ثقافة التنمية ونشرها.
فُرص التشبيك والصداقات
وإذ تلوح الغايات الفكريّة القديرة وإعداد الشباب على اعتناقها في صلب “المقهى الشبابي”، ولاحقاً “سفراء الشباب”، إلّا أنّ واحدة من أهمّ النتائج وأطولها أمداً، تتظهّر اليوم في العلاقات الإيجابيّة التي حيكت بين المُلتقين الشباب. ليس جديداً القول إنّ المقهى فرصة للتشبيك بين الشباب والقيادات في المَمْلَكة والعالَم العربي والخبراء والأكاديميّين ذوي الخبرة والإنتاج المُتميّز، ولكنّه أيضاً وخصوصاً فرصة لتلاقي الشباب على امتداد الوطن العربي، تحوَّلت إلى صداقات بعضها لا يزال عامراً حتّى الساعة وقد ينسحب الحال على شبابٍ من بلدٍ واحد، ما كانوا تعارفوا لولا انعقاد المقهى.
في تلك الفترة الغابرة من مؤتمرات “فكر”، أخذت الصداقات بين الشباب في النموّ، وبعضها، إنصافاً للدقّة، توطّدت من ضمن مشروعات قطاع الشباب في جامعة الدول العربيّة. في أوقات الاستراحة، يقف الشباب بعفويّة، يتبادلون أطراف أحاديث قد لا تصبّ جميعها في برنامج المؤتمر، لكنّها غالباً ما تُمهِّد لنشوء علاقات إنسانيّة بنّاءة. وكم بدا مُمتعاً رصْد تلوُّن هذه الحلقات، من خلال أزياءٍ تقليديّة عَمَدَ الكثيرُ من الشباب إلى ارتدائها، وسماع لكناتٍ عربيّة مُختلفة، وتعلُّم بعض المُفردات، وتتردّد كلمتَيْ “أخي” أو “أختي” في الأرجاء، وقد شكَّلت “كوداً” اعتُمد بتلقائيّة، ليُنادي الشباب به بعضهم بعضاً، وهذا ليس تفصيلاً.
هل أَثبت “مقهى الشباب” أنّ الشباب العربي هُم أكثر قدرة على كسر الحواجز ومدّ الجسور المُنقطِعة؟
سؤال وضَعَتْه على المحكّ مُحاوَلةُ “مؤسّسة الفكر العربي” إمداد الشباب بمَنبرٍ مُشترك، ولربّما حقَّقت نجاحاً في رهانها على قدرات المُشارِكين، منهم، وليس حصراً، أحمد الهنداوي (الأردن) الذي عيَّنه بان كيمون في العام 2013 أوّل مبعوثٍ خاصّ للأُمم المُتّحدة لدى الشباب، وسمر مزغني (تونس)، وهي أصغر كاتبة في العالَم، والكاتبة الغزيرة الإنتاج الأصغر في العالَم بحسب غينيس، وغيرهم.. وغيرهم ممّن زادهم “المقهى الشبابي” اقتناعاً بأنّه بالتنوير يبدأ التغيير. هذا الأخير ينطلق بالحوار الجريء مع النَّفس والآخر، ولا يتحقّق سوى بالنّضال الثقافي والعِلمي، وكم تشتدّ ضرورته، لانتزاع فُرص النموّ والتنمية من قلب الفوضى القابضة على المشهد العربي راهناً.
***
(*) كاتبة وإعلاميّة من لبنان
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق