سجلوا عندكم

فلسفة الفن… رؤية جديدة لمظاهر الجمال الخالدة

Views: 1003

وفيق غريزي

 

لا شك أن تعلق الانسان بالجمال واستمتاعه به وافتتانه بمظاهر الطبيعة قديم قدم الانسانية، وما تركه لنا من آثار منذ العصر الحجري الاول حتى عصور الحضارات القديمة المعروفة يشهد على صحة هذا الرأي. فاذا اخذنا مثالا الحضارة اليونانية، نرَ أن اليونانيين، حتى قبل عصر الفلسفة، قد أقبلوا على تمجيد ربات الفنون وعبادتها وتقديم القرابين لها ورعايتها ايمانًا منهم بتقديس مظاهر الجمال الخالدة في الفن والطبيعة، ولكن الشيء الآخر المؤكد هو ان الشعور بالجمال كان سابقا على النشاط الفني، فلقد احس الانسان اولا بجمال الزهرة او غروب الشمس قبل ان تكون هناك لوحات جميلة او منحوتات رائعة، هناك اذن جمال طبيعي مستقل وسابق على الجمال الفني.

وعندما نتحدث عن الفن والاستمتاع به نستخدم ثلاثة الفاظ رئيسية هي: الفن، والاستطيقا، والجمال. الفن يشير إلى انتاج موضوعات او خلقها عن طريق نوع من الجهد البشري، والجمال يشير الى جاذبية الاشياء او قيمتها، أما الاستطيقا فهو اقل هذه الالفاظ شيوعا. وعندما يستخدم يحتفظ بمعنى اللفظ اليوناني، ويشير الى ادراك موضوعات طريفة والتطلع اليها. الدكتور حسين علي وعبر كتابه “فلسفة الفن” يقدم لنا رؤيته الجديدة لهذه الفلسفة.

 

الفن والعلم

الذهن الانساني يحركه احساس دائم بالاهتمام بكل الظواهر المحيطة به، ويحركه حب الاستطلاع لادراك كنهها. هذا الاحساس المسيطر حسب رأي الموًلف هو الذي أدى الى الاكتشافات العلمية العظيمة والاثار الفنية الرائعة. ومن ثم فالفنان والعالم يشتركان في اشياء كثيرة. انهما شديدا الاعتزاز باستقلالهما، ويشتركان في العقل الخلاق، والعلة الملحة الخالدة في الاستكشاف والمعرفة، ولأن العلم والفن فرعان من فروع النشاط الذهني للانسان، فهما متناظران كما هما متنافران.

كان الفن منذ اقدم العًصور تعبيرا عميقا عن الحياة الانسانية، وقد عبّرت كل الحضارات المعروفة عن افكارها مستخدمة مصطلحها الفني الخاص بها، و كما يقول الموًلف:

” قامت بتقويم تلك التعابير الابداعية تقويمًا واعيًا، اما العلم فانه يحاول أن يشرح العمليات الطبيعية التي تخضع للقوانين الاساسية”. إن كل عملية معينة توجهها قوانين محددة يحاول العلم تفحصها بوسائل تتماشى مع متطلبات ذلك الفرع المحدد من فروع العلم. لهذا فان العلم يسعى الى صياغة القوانين العامة التي يسير بمقتضاها هذا العالم الذي نسكنه.

ان الفرق الحاسم بين الفن والعلم من منظار الموًلف يستخدم على الدوام تصورات لكي يصف الجوانب المطردة في الطبيعة، على حين ان الفن لا يعتمد اساسًا على التصورات. صحيح أن التصورات تستخدم في الادب، ولكنها حتى في هذه الحال ليست هي الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الحقيقة، فالعمل الفني لا يصدر تأكيدا مثل “العالم خير في أساسه”، ولكن من الممكن أن يعبر الفنان عن ذلك بمعالجته لموضوع فردي وعيني. ويصل الموًلف الى نتيجة مفادها أن العالم ينتهي الى قًوانين أما الفنّان فينتهي الى قيم.

 

علاقة الحب والجمال والاخلاق عند افلاطون

ثمة صلة للحب الافلاطوني بمذهب افلاطون الفلسفي، وقد بذلت محاولات اولية لبيان مذهب افلاطون في الحب، إنما هو جزء متمم لمذهبه الفلسفي.”فايروس الحب” عند افلاطون هو مبدأ عام يشمل اوجه النشاط الانساني الراقي. والحب الافلاطوني هو بحث. وراء الحقيقة والجمال يقوم به شخصان من جنس واحد تلهمهما عاطفة متبادلة. وفي هذا الصدد يقول المؤلف

“وعند افلاطون ان ذلك المبدأ هو الدافع الذي يوحي بالحب لفردين على شريطة أن يطرحا جانبًا الرغبة الجنسية، وهو ايضا بحث الفيلسوف عن الحقيقة، او هو من قبيل بحث صوفي عن الله وحبه له”.

ان الحب الافلاطوني لا يرادف معنى الحب الذي نستعمله الآن وثمة اعتبارات تؤيد وجهة نظر افلاطون، فقد كشف علم النفس الحديث عن عمل الدوافع الجنسية في ميادين لم يكن أحد يفكر انها تصل اليها اذ تتسامى الرغبة الجنسية تدريجيا،ولذلك يجد الترقي الذي تحدثت عنه “ديوتيما”

(احدى شخصيات محاورة المادبة) قبولا عند القارىء الحديث.

الحب كما تقول ديوتيما هو جسر يربط العالم الحسي الفاني بالعالم العقلي الخالد، وتصور هذه الحقيقة باسطورة تقول ان الحب مخلوق ذو طبيعة وسط بين الآلهة والبشر. وجاءته هذه الطبيعة المشتركة من مولده، فأمه  “الفقر” فهو لذلك يحيا دومًا في عوز وحاجة، ولكنه ورث عن ابيه “الغنى” الجرأة والقدرة على البحث عن محبوبه، وهو فيلسوف او محب للحكمة لأن الحكمة جميلة، فهو يعشق كل جميل.

ويشير الموًلف الى أن الحب عند افلاطون على مثال الجمال الذي هو الحقيقة القصوى، وبذلك يستطيع الفنانون التعبير عن ذواتهم الفردية، ونزعاتهم الخاصة على فقرها بالحقايق، وتتخذ نظرية افلاطون في الفن طابعا اخلاقيا واضحا، ذلك لان الفن يتصف بنفس صفات الاشياء التي يحاكيها، فينبغي أن يخضع لنفس القيود التي يخضع لها الناس هذه الاشياء في حياتهم. الفعلية.

والواقع أن افلاطون كما يرى الموًلف لم يطلق حكمه الجائر على كل انواع الشعر، بل خص الشعر التمثيلي بهجومه واستثنى الشعر الغنائي والملحمي والتعليمي، لأن المحاكاة في هذه الانواع لا تتجه الى نقل المحسوسات المتغيرة، بل هي تعبير صادق عن قيم الحق والخير والجمال حين تتخذ موضوعاتها من مدح الآلهة والابطال، والتغني بصور المجد والبطولة والارشاد الى المثل العليا.

ارسطو ونظريته الواقعية

لم يهتم ارسطو بمشكلة الجمال، وانما ركّز على ماهية العمل الفني، ولهذا اتجه مباشرة الى الاعمال الفنية يستخلص منها قوانينها. ولقد كان ارسطو هو أول من خصص مؤلفا كاملا عن موضوع في صميم مشكلة الفن، وهو كتابه “فن الشعر”، ورغم ان موضوع البحث في هذا الكتاب، كما هو واضح من عنوانه، هو الأدب، بل الأدب المنظوم، فان الكتاب اول مولف نظري خصص كله لمناقشة المسائل الجمالية، فضلا عن انه تضمن اشارات موجزة الى مختلف الفنون، والى طبيعة التجربة الجمالية بوجه عام. وارسطو في الحقيقة يقول الموًلف:

“انما يقيم نظريته الجمالية على اساس رؤية ميتافيزيقية محددة هي علاقة الهيولى بالصورة والعلة المادية بالعلة الصورية او الغائية”.

ولقد كان الأسلوب الذي تناول به ارسطو موضوع الفلسفة الجمالية مختلفًا كل الاختلاف عن طريقة استاذه افلاطون في معالجة هذا الموضوع. فارسطو ينقلنا الى جو علمي جديد، خلا من تلك النزعة الشعرية الواضحة التي تميزت بها طريقة افلاطون في الكتابة. ومذهب ارسطو في الفن يختلف في روحه عن الروح التي تسود في الفلسفة الافلاطونية. ويوًكد الموًلف ان ارسطو لا يلجأ عند تفسيره للفنون الى الأساطير كما انه لا يستلهم المثال الجمالي المفارق، كما فعل افلاطون، بل يذهب الى عكس ما ذهب اليه افلاطون عندما قال: “ان الفن قد هبط على الانسان حين القى به الاله بروميثيوس من السماء. هذا، وقد اهتم ارسطو بالبحث في اصل نشأة الشعر عن الانسان فارجعه الى سببين وهما: النزعة الى المحاكاة التي يتميز بها الانسان عن سائر الحيوان، ويكسب معارفه الاولى. ثم اللذة التي يشعر بها الانسان في تأمل اعمال المحاكاة.

 

افلوطين ونظريته الصوفية

اتفق افلوطين مع افلاطون وارسطو في الاهتمام بالقيمة الاخلاقية للفن، ولكنه اختلف عنهما في أنه لم يجعل هذه القيمة مبنية على أساس سياسي وإنما على اساس ديني. ومن ثم فانه اذا كانت فلسفة الجمال عند افلوطين تمثل آخر مرحلة للتفكير الجمالي عند اليونانيين، ومن الممكن أن تعد قمة وتتويجًا لهذا التفكير، فانه في الوقت نفسه تنطوي في ذاتها على عنصر يقضي على الطابع العقلي المميز للفكر اليوناني، ويمهد الطريق لنمط التفكير الذي ساد العصور الوسطى. ذلك لأن افلوطين قد جمع أهم الافكار التي تضمنتها النظرية الجمالية عند افلاطون وارسطو، وكون منها مركبا اعلى، ولكنه في الوقت ذاته قد صبغ هذا المركب بصبغة صوفية كانت في واقع الأمر تمهيدًا لظهور النظرة اللاهوتية الى الحياة في العصور الوسطى، يقول الموًلف حسين علي:

“ان فهم الطابع الصوفي لفلسفة الفن عند افلوطين يقتضي الاحاطة بالبناء الميتافيزيقي عنده، اذ أن موقفه من الفن والجمال يرتبط ارتباطا وثيقا بمذهبه الفلسفي العام، وتتلخص الفكرة الرئيسية في مذهب افلوطين في أن هناك عالما مثاليًا لا يعد فقط النموذج الاصلي لعالم الحس، ولكنه ايضًا الحقيقة النهائية التي تعلو على ما عداها”.

وفي راي افلوطين، فان الفن إنما يعود الى قدرة الانسان على محاكاة المثل الأعلى. فالوحي يأتي من أعلى. ولا بد أن يكون التكوين المزاجي للفنان معينا له على إداء هذه الرسالة في الحياة. فلا بد ان يكون سريع الاستجابة للجمال الى ابعد حد.

وفي اعتقاد الموًلف أن فلسفة افلوطين في ميدان الجمال تمثل الجسر الذي انتقلت عبره الحضارة من طريق التفكير اليونانية الى طريقة التفكير اللاهوتية في العصور الوسطى، وتمثل نقطة النهاية بالنسبة الى منهج اليونانيين العقلي في حل مشكلات الفن والفكر والحياة …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *