مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان”/ الورقة 4: الأديبة مريم رعيدي الدويهي – أستراليا: “مقارنة بين الرابطة القلمية وأفكار اغترابية – نظرة عامة”
انطلق مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.
في ما يلي الورقة الرابعة: الأديبة مريم رعيدي الدويهي – أستراليا: “مقارنة بين الرابطة القلمية وأفكار اغترابية – نظرة عامة”
من الصعب أن يقتحم أحد موضوعاً كهذا، وقد يكون من الممنوعات أو “التابو”، وسيقول قائل: أين الثريّا من الثرى؟ والمقصود بالثريّا الرابطة القلمية، وبالثرى أفكار اغترابية. وما عناصر الشكّ والتردد والحذر التي تحيط بمسيرة أفكار اغترابية ودورها، سواء من مشتغلين في الأدب أو إعلاميين ومؤسسات، إلا وجه من وجوه الصدمة الإيجابية التي أحدثها المشروع، ومن الصعب الاعتراف بها تلقائياً. والإشادة بوقعها ومداها. (https://www.hotelogix.com/) بيد أن الحقائق تثبت بالمقارنة، وليس بالكلام العشوائي، والتسخيف المسبق لكل بارقة، أو أيّ محاولة اكتشاف جديدة…
نعم هناك فرق، فالرابطة القلمية تأسست في ظروف مختلفة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وفي أواسط الحرب العالمية الأولى، أي في عام 1916، وتفكّكت في عام 1931، بعد موت جبران خليل جبران، رئيسها وزعيم مدرستها الأدبية. وكان للرابطة مجلس إداري، جبران رئيساً، ميخائيل نعمة مستشاراً، وويليام كاتسفليس أميناً للصندوق… وكانت تضم أعضاء أيضاً، منهم نسيب عريضة، رشيد أيوب، عبد المسيح حداد، ندرة حداد، وإيليا أبو ماضي… وأفكار اغترابية تأسست عام 2014 (بعد مئة وسنتين)، مؤسسها واحد هو الأديب د. جميل الدويهي، وهي ليست مؤسسة، وليس فيها أعضاء ثابتون، بل هي فكرة طرحها الدويهي، وأصبحت إطاراً لعمله الثقافي، وتعاون معها عدد قليل من أدباء وشعراء في المهجر الأسترالي، وعدد أكثر في العالم الخارجي. وهذه الفكرة تختصر عالم الدويهي الإبداعي، القائم على تعدّد فريد في الأنواع، واللغة المهذبة السامية التي ترفض الابتذال والانحطاط. بل هي جاءت، كما يخبر بنفسه، بعد انفعاله وتأثّره الشديد في عام 2009، أمام قامة أكاديمية في لبنان، قرأت شعراً من أستراليا ضُربت به الأطناب، وسأل الأكاديميّ مستغرباً: هل هذا هو شعركم؟ كما هي ردّة فعل الدويهي على ضآلة النثر ونمطيّة النوع الواحد، وعلى تحَشّد النقد، بشكل غريب ومثير للريبة، وراء نصوص باهتة ليس فيها ما يميّزها، أو يضعها في مرتبة أعلى من مراتب الإبداع. وعلى الرغم من أن كاتبة هذه المقالة والأديبة كلود ناصيف حرب، تمثلان حيّزاً كبيراً ومهماً من المشروع، فهذا لا يعني أنه منفصل عن مبدعين آخرين، لهم مكانتهم وقد اهتمّ بهم الدويهي ونشر أعمالهم، واعتزّ بقاماتهم، وهم أصدقاء أوفياء له ولمسيرته، ويعتزّ بهم دائماً.
كانت الرابطة القلمية تبدع في عصر فقير تكنولوجياً، أما أفكار اغترابية فاستطاعت أن تبرز سماتها وتجلياتها الإبداعية بشكل أوسع من خلال الفايسبوك، وموقع “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، وهذا الأخير ليس منتدى مفتوحاً لكل من يريد، بل منصّة رفيعة، تنشر لمبدعين.
وكانت الرابطة القلمية تنشط في مجتمع عربي قليل العدد في أميركا الشمالية، أمّا أفكار اغترابية، فمجتمعها العربي واسع وعريض، وهذا يفسّر الحشود التي تشارك في مهرجانات الأدب الراقي التي أقامها الدويهي في سيدني وملبورن، كما نجح في تشكيل وفد اغترابي لزيارة لبنان في آب – أيلول 2019، حيث كُرّم الوفد في عدة مناطق، ووُصفت تلك الزيارة بالتاريخية، وغير المسبوقة في العلاقة الأدبية بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.
وقد يسأل سائل: لماذا لم يتحوّل “أفكار اغترابية” إلى فكرة جامعة في أستراليا؟ والجواب يتعلق بظروف ثقافية وإعلامية، من الصعب الكشف عنها، لكن المؤكد أن قطبة مخفيّة كان لها دور فاعل في جعل أفكار اغترابية ذات طبيعة مستقلّة، ولا تلقى التأييد العارم. وقد جاءت في فترة تميّزت بشيوع شعر الزجل، والقصيدة النثرية، والشعر العموديّ. أما باقي الأنواع الأدبية فقليلة جداً، والنثر يظهر بين الحين والآخر، قصصاً قصيرة أو روايات، بعيداً عن اهتمام الناس وذوقهم الأدبيّ.
الرابطة القلمية كانت أكثر تمثيلاً في مجتمعها المتعطش إلى الكلمة، وأفكار اغترابية أقل شعبيّة وخصوصيّة، بسبب شخصية صاحبها الذي يميل إلى العمل الفرديّ، وأيضاً بسبب مواقف منها، فالثورة وقلب المفاهيم وتجاوز الخطوط المرسومة، هي طعن للواقع وانقضاض عليه.
وفردية الدويهي تشبه فرادته، بل هما حالتان متكاملتان. وقد رأى صاحب “الأفكار” أن منزله واسع لكنه قليل الزوّار، فارتأى أن يكون هو صاحب البيت، والزائرين جميعاً، وجعل نفسه عدة رجال في وقت واحد، وكان مخيّراً بين أن يستسلم للضغوط الهائلة التي نزلت عليه، أو يتابع مع قلة من المؤمنين برسالته، فاختار الطريق الأصعب، البقاء في ساحة يطوّقها سياج شائك، متسلحاً بإيمانه، ومعرفته، وأصالته الأدبية.
فإذا كان جبران ونعيمة ورشيد أيوب وإيليا أبي ماضي أصحاب الشعر العمودي، وقلّما كتبوا غيره، فالدويهي صاحب لثمانية أنواع، هي الشعر العمودي، شعر التفعيلة، الشعر المدور، الشعر المنثور، الزجل، التفعيلة العامية، المدور العامي، والنص العامي الشعري. وللعدل والحقيقة نقول إن الشعر العمودي كان الشعر الوحيد المعروف في زمن الرابطة القلمية، أما في عصر الدويهي فالأنماط تعددت، وكانت ثورة في الشعر قد حدثت بعد انحلال الرابطة القلمية بسنوات قليلة، وابتكر مبدعون في لبنان والعراق ومصر وسوريا ودول عربيّة أخرى أنماطاً شعرية جديدة (في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي)، استفاد منها الدويهي، واستخدمها ليغْني تجربته ويثبت أنه عدّة شعراء في شاعر.
وإذا كان جبران ونعيمه قد كتبا القصّة القصيرة، فالدويهي كتب ثلاث مجموعات منها، “أهل الظلام”، “من أجل الوردة”، و”الحافلة والولد ممكن”. وطوّر الدويهي لغة القصّة، من واقعية إلى رمزية فسوريالية، وهو أبعد الناس عن رومنطيقيّة جبران وروحانية نعيمه الغارقة، فالدويهي يؤمن بتوازن المادّة والروح، الخير والشر والنور والظلام… ثم أضاف الأديب الدويهي إلى تجربته القصصية 4 رويات هي: “الذئب والبحيرة”، “طائر الهامة”، “الإبحار إلى حافّة الزمن”، و”حدث في أيام الجوع”. الأولى تتناول واقعاً في عالمنا العربي، والثانية تخوض في الواقع اللبناني، والثالثة أسترالية المنبت والجذور، والرابعة رمزيّة – واقعية، تعكس ما يحدث في لبنان اليوم من مأساة الفقر والجوع واستهتار الحكّام بالقيم.
وقد تعاطى جبران ونعيمة بالنقد الأدبي، غير أن كتاباتهما في هذا المجال لم تكن أكاديمية، بل انطباعية. وفي قارّة أخرى، كان الدويهي يكتب الدراسات النقدية المحكمة والأكاديمية، التي احتضنتها، على قلتها، كتب جامعية ومجلات متخصصة. نقول “على قلتها” لأن الدويهي ليس متفرغاً، فبين أسفاره الكثيرة، وعمله الإعلامي، وهموم الحياة، والنشر، من أين له أن يكتب عشرات المقالات ويضيفها إلى رصيده الثقافي والعلمي؟
وعندما نقارن بين مقالات الدويهي الأكاديمية، وما ينشره غيره من أساتذة كبار، يتبيّن لنا أنّه مقصّر في هذا المجال، عدديّاً على الأقلّ.
أما “فكر” الرابطة القلمية، فكان جسر الإبداع المشرقيّ وعموده الفقري في أميركا الشمالية، بل هو المحور الأساسيّ الذي بنيت عليه الرابطة، وأخذت شهرتها، واعترف الدارسون بدورها الكبير في إغناء التراث المهجريّ وقيمته، ومَن منا لا يعرف “النبيّ” و”المجنون” و”العواصف” و”السابق” و”التائه” لجبران، و”مرداد” نعيمة، وقصيدة “الطلاسم” لأبي ماضي؟ ومَن منّا في أسترليا لم يسمع بكتُب الدويهي: “في معبد الروح”، “تأمّلات من صفاء الروح”، “رجل يرتدي عشب الأرض”، “هكذا حدّثتني الروح”، “بلاد القصرين”، و”أفكار خارج العزلة”؟ وكما أسّس جبران مدرسة أورفليس، في موازاة لمدينة غولونغازا، مدينة الشاعر ويليام بلايك، “النبيّ” الآخر، وأنشأ ميخائيل نعيمة مدينة “مرداد” القيم الروحية، فإنّ الدويهي بنى في أستراليا مدينة القيم الخالدة، وقد وضعتُ بنفسي كتاباً عنها، بعنوان “فكر جميل الدويهي ومدينة القيم الخالدة”، وبرهنت بالنصّ أنّ الدويهي يسعى إليها، في سبق مهجريّ جديد، هو ببساطة “الفكر” الذي يرتقي الدويهي إلى عالمه، ويشحنه بطاقة من ثقافته ورؤاه الفلسفية القائمة، فالدويهي في كسيرته الإبداعية كتب الشعر والنثر، ورفع النثر إلى مرتبة الفكر السامي والمجيد، وهذا تفرّد غير مسبوق في الأدب المهجريّ في أستراليا.
نحن لا نقول إن هذه المنجزات تساوي تلك التي ظهرت في أميركا أيام الرابطة القلمية، فليس هناك ميزان دقيق للفصل بين عمل وآخر، وقد يقلّل كثيرون من أهمّيّة منجزات الدويهي، ويجدون في “معجم عربيّ” واسع، كلمات لا حصر لها للإيحاء غير الصحيح بأنّ أعماله باهتة، ومقلّدة، ولا ترقى إلى مستوى الزجل أو الشعر المنثور، وهما نوعان سائدان في المغترب الأسترالي، وكأنّهما القالب الذي كسره الله بعد أن أعدّه بعناية وإتقان.
لكن من الضروري الاعتراف بأن في أستراليا رجلاً يعمل ويتعب ويسهر، ويقدم أعماله في مختلف مجالات الأدب مجاناً، ويصرف من صحته وماله، من غير حساب، وكل همّه أن يؤسس نهضىة اغترابية ثانية (التسمية للدكتور كلوفيس كرم – أميركا والأستاذ محمد العمري – سيدني أطلقاها حصراً على مشروع أفكار اغترابية). ومن أوجه التشابه بين النهضة الأولى التي أطلقتها الرابطة القلمية، ومشروع أفكار اغترابية في سيدني، تُعتبر تسمية “النهضة الاغترابية الثانية” لباساً مناسباً لمشروع الدويهي، وخير توصيف له…
وعلى الرغم من أن الدويهي، كتب أيضاً التاريخ، والمقالات الصحفية التي تجاوزت الآلاف، وأعد برامج تلفزيونية، بحكم عمله الإعلامي المتعدد أيضاً، ووضع حتى الآن خمسة كتب بالانكليزية (جبران كتب حوالي 10 كتب بالانكليزية)، وترجم، وصنّف، وحبّر المقالات النقديّة والأدبية، فلا يزال يشعر بأنه ينحت الجبل بإبرة، ويلاحظ أنّ هناك غابة تطوقه، عليه اجتيازها كما في الحكايات، وعليه أن يزيل الخطوط المرسومة، لكي يتجاوز ويحلق إلى البعيد. ولعلّ كلمة “تجاوُز” هي العنوان الأبرز لأعماله، والسمة التي ميّزته، وجعلته يشعر أنّه يجاهد بصبر، ومعه نخبة من المبدعين والإعلاميين والمؤسسات التي تفهم الأدب، من أجل انتصاره في معركة الوجود.
ولعلّ تتويج مسيرة الدويهي الحافلة بكلّ أنواع الإبداع تقريباً، بجائزة مرموقة تحمل اسمه واسم مشروعه المشعّ، أقلّ ما يمكن أن تقدّمه الجالية العربيّة كمكافأة له، بل أقلّ ما يقدّمه هو لمبدعين أحبّهم وأخبّوه، ورأى كثيرون منهم في رحلته صوب نبتة الخلود وحْياً لهم، وقدوة لأعمالهم ومشاريعم، وربّما كتاباتهم الأدبيّة.
وليس مؤكداً أن أعمال الدويهي ستلقى الاهتمام الكافي من الدارسين الآن، لظروف واضحة للعيان، فمن الأجدى الانتظار مئة سنة أو أكثر، إلى أن تنضج العناقيد في كروم الأفكار الاغترابية، ويقتنع الناس بأنّ أستراليا، القارة البعيدة عن الاهتمام، حدثَ فيها ما لم يحدث في أيام الجوع، أي انتفاضة على السائد والنمطية، واختراق لجدران الخوف إلى برّيّة المعمدان، وكرامة الحضارة والإنسان.
***
* غداً 14-1-2022، ورقة د. كلوفيس كرم