الملاك الذي سَقط من السماء
المحامي كابي فؤاد دعبول
ناقشني أبٌ جليل ولاهوتي من العيار الثقيل علّم الكثير من الأجيال سلوك الدرب الصعب للوصول الى محبة الله ونيل رضاه حول عدالة الله ورحمته.
عظاته في الكنيسة عميقة ومنسّقة ومدوزنة على لحن الايمان وتسلك طريق العمل الحسن والاحسان الى الغير والاعتناء بالفقير. فهو يعتبر أن الالتزام بالصلاة في الكنيسة مع الجماعة والالتزام بالصوم لن يوصلا المؤمن الى قلب الله ما لم يقترنا بالصلاة الفردية التي تحيك لك علاقة خاصة مباشرة مع الله، وما لم يقترنا بفعل المحبة تجاه الغير والاحسان الى الفقير الذي جاء يسوع من أجله الى هذا العالم.
وعلى الرغم من أننا تتلمذنا على يديه وتعلّمنا منه الكثير، يفاجئك هو بأسئلة مستفسِرًا فتتعجب.
في آخر نقاش دار بينه وبيني حول عدالة السماء قال: أنا لا أحب أن يوصف الله بالعادل لأنه إله الرحمة. فالرحمة من وجهة نظره أوسع وأشمل من العدالة. (https://yukonhunting.ca/)
فكّرت بذلك مطوّلاً ورحت أبحث الموضوع من خلال ما كنت أعتقده وعبّرت عنه مرارًا في قصائدي التي تطرقت فيها الى عدالة السَماء. ولا سيّما أن ديواني الثاني “غَلطِة مَلاك” انطلق من فكرة آية إنجيلية عن لسان يسوع الذي قال: “رأيتُ الشيطان يهبط من السماء كالبرق” فصدرّت ديواني بلوحة فنيّة تظهر الملاك الذي أصبح شيطانًا مقذوفًا من السماء ويهبط باتجاه الأرض.
يومها عارض الأب الجليل الفكرة وعندما سمع شعر الديوان أعجبه، ولكنه قال لي إنني ابتعدت عن الرجاء، لأن الله رحيم قبل أن يكون عادلا في إصداره لأي حكم، فهو ينظر إلينا بعين الرحمة.
أجبته يومها بأن يسوع قال أيضًا: “إن رئيس هذا العالم (أي الشيطان) قد دِين” وبالتالي إن اعتقادي السائد أن الشيطان قد حُكم عليه ولن يُعاد النظر بشأنه في يوم الدينونة، وأن الله لم يغفر عصيان ذلك الملاك.
ومن هنا جاء في ديواني في قصيدَة “ما غَفَر”:
شِفْتَك مَلاك مَنوَّر/وْ سِرَّك حَلاك/ عْشِقت المَلاك/ وْ ما حَدا بْقَلبي تَلاك/ وِ غْدَرِت فِيّي/ وْ كيف بَدّي سَامْحَك/ وِاللي خَلَقْنا/ ما غَفَر غَلطِة مَلاك.
وفي قصيدة “نور الطريق” جاء:
بْجِبْلِك مَتَل صَارِخ عَنِ العِصيان/ في مَمْلَكِة أَلله السَماوِيِّه/ بْتَكِّه المَلاك بْيِنْقَلَبْ شَيطان/
لَولا عِصي القِدرَه الإلَهِيِّه.
وفي قصيدة “الإيدَين المَمدُودِه” كان الوصف يأخذ قارئ القصيدة الى تلك الوقفة الرهيبة في يوم الحساب:
… صْفَعني بَعِد بِكْفوف حِرْزانين/ رَح ضَلّ دِرلَك صَفْحِة خْدُودي/ وْ رَبّ السَما بُكرا بِيَوم الدِينْ/ وِ الأَنْبِيا بِتْكون مَوجودِه/ وْ كِلّ البَشَر بِاليَوم مَوعودين/ يِتْحَاكَموا بْأَفْعال مَشْهودِه/ مْنُوقَف سَوا وْ مِنْكون مِتْسَاوين/ مْنُوقَف إِيدَينا لْفَوق مَمْدُودِه/ وْ لا تْخَافْ إنّو نْكُون مَظلومين/ مَنّا العَدَالِه هَونْ مَحْدُودِه/ هَوني عَدَالِة صَانِع التِكوين/ مَا بْتِنْتِظِر جَلسات مَعدودِه/ بْجَلْسِه وَحيدِه نْكون مَحْكومين/ أَو عَنْ يَمين الرَبّ رَح مِنْكون/ أو عَنْ يَسارو بْيِنْتِهي وْجودي.
وهنا، وأنا أدرك أن الله رحيم ويغفر ذنوب التائبين، كنت أحاول تصوير العدالة الالهية من أجل مقاربتها مع العدالة الأرضية، بل لتسليط الضوء على العدالة الارضية التي تستغرق جلسات طويلة من المحاكمة، غير أن عدالة الله تستغرق جلسة واحدة لا تعروها أي مماطلة وربما في ذلك رحمة كبرى هي الرحمة التي تحدّث عنها الاب الجليل.
و في قصيدة “غَلطِة مَلاك”التي طَبعَتْ عنوانَ الديوان باسمها يُظهر المشَهد جليًا أن الشيطان لم يطلب الغفران من الله ولو لمرّة واحِدة بل جاء يقدّم دفعًا شكليًا بمرور الزَمَن على خطيئته فيُرفَض دفعه بالطبع كَون جريمته لا تزال متمادية في هذا الكون:
غَلْطِة مَلاك كانِتْ بِدايِة مَطْمَعَك/ وْ لا كان عَطْفي وْ لا حَناني يِرْدَعَك/ بْلَحْظَه انْتَهَيت بْتِهمِة العِصْيان/ وْ فِكرَكْ بَراءَه مْنِ الجَريمِه طَلِّعَك/ “مْرور الزَمَن أقْوى مِنِ الغِفْرانْ”؟/ حِجِّه هَزِيلِه بْهَالجُرِم ما بْتِنْفَعَك/ خْسِرت الحَلا وِ خْسِرت يَلّي كَانْ/ وِ خْسِرِتْ حَالَك مِنْ طَهارِة مَوقَعَك/ وِ اليَوم جَايي تِطْلُب النِسْيان/ وْ تِرْجَع مَلاكي؟ كِيف بَدّي رَجِّعَك؟ يا بْلِيسْ… شِغْلَك تِسْحُر الإِنْسان؟/ لْوَادي الخَطايَا تِنْدَهو تا يِتْبَعَك؟ خَلّيكْ وَحْدَك مِنْكِسِرْ هِربانْ/ جْهَنَّم إِلَك أَنْسَب مَكان لْمَوضَعَك…
وفي آخر الديوان تأتي قصيدة “وْ تِبْقَى ملاكي” (القصيدة الختامية) لتؤكد أن الملاك الذي تَشَيطنَ بتمرّده على الله أي أنه أصبح الشَيطان، لا يزال ابن تلك المملكة السماوية التي طُردَ مِنها وأنه كلّما زاد بُعده عَنها كلّما ازداد في تَشيطُنه ولن يستطيع أن يعود إليها ، ولن يكون له أي غفران:
سَافِر/ وْ حَلِّق بَعِد/ عَ جْوانِح الأَحلام…/ بَركي رَح تْلاقي السَعِد/ بِمَطارِح جْديدِه/ وِ تِبْقى السَمَا أَجمَل وَعِد/ تِتْكاتَر الأوهام…/ مِن كِفِرنا/ تِبْقى السَما/ عَنْ دَرِبْنا بْعيدِه/وْ تِبْقى مَلاكي/ وْ عَنْ بُعِد تِتْنَفَّذ الأحكام/ بْشَيطانْ مَمْلَكة الحَلا/ العَمَّرِتها بْإيدي…
***
*ديوان “غَلطِة مَلاك” (شعر بالمحكية) هو الديوان الثاني للمحامي كابي دعبول صدر في العام ٢٠١٦.