هاينريش هاينه… آخر الرومانسيين المفتونين بالشرق
وفيق غريزي
لم يختلف النقاد في العالم على شاعر كما اختلفوا حول الشاعر والثوري الرومانسي هاينريش هاينه ( 1797 – 1859 ) فاختلافاتهم حول اعمال هذا الشاعر الالماني وحياته فاقت كل التصورات، وبالغ البعض منهم في ادلجة روائعه حد تحويل كتاب “اغانيه” الى مزامير و”حلم ليلة صيف” الى بيان شيوعي، ورحلته في الهارتس، منطقة سياحية وسط شرق المانيا الى حلم بونابرتي مطلق.
رأى الفيلسوف نيتشه في هاينه ” مكرًا” أهله لأن يكون فنان اللغة الالمانية الاول، وقد وصف هاينه نفسه في كتابه “الاعترافات” على أنه آخر ملوك الشعراء الرومانسيين الذي تخلى عن تاجه وصولجانه عن وعي كي يعبد الطريق امام الأدب الحديث ويقول: “معي اغلقت ابواب المدرسة الشعرية الالمانية الكلاسيكية، وفتحت في اللحظة نفسها ابواب المدرسة الشعرية الالمانية الحديثة”. ووصفه الناقد جورج لوكاش بانه يمثل جسرا بين العوالم الشعرية المختلفة.
الرومانسي الشارد
يعرف الناقد والمفكر الهنغاري جورج لوكاش “الحديث” على أنه وعي الجديد، وكانت الحداثة بالنسبة اليه عملية وعي وليست مجرد عملية تقبل كل ما هو جديد واستخدامه، ومن هذا المنظار يرى النقاد والمؤرخون أن هاينه كان واعيا بكل ما هو جديد في القرن الذي شهد سطوع نوره، ويصف هاينه ولادته، ومن ثم موقعه التاريخي في الملاحظات النثرية، بالقول: “حول مهدي تراقصت آخر انوار قمر القرن الثامن عشر واول شفق القرن التاسع عشر، وهو تحليل توصّل اليه دارسو شعره بعد قرنين من الزمن حينما وصفوه بآخر الرومانسيين. فهاينه حسب رأي الكاتب ماجد الخطيب في كتابه ” هاينريش هاينه – روح الشعر الالماني “، انه آخر العنقود في دالية الرومانسيين الالمان، التي عاشت اكثر من 100 عام، وهو ملك الرومانسية الساخر، بمعنى اخر، انه ابرز شعراء اخر مراحل الرومانسية، وهو رايد المحدثين في الشعر الالماني.
ومؤرخو اليوم يتفقون على أن هاينه آخر الرومانسيين العظام، الرومانسي الشارد، مهّد طريق الحداثة، الرومانسي الهجاء، والشاعر السياسي الاول في المانيا. وصف هذا الشاعر في قصائده، العذاب النفسي والتمزق الداخلي للكاتب، وجسد من خلالها نهج الهروب الرومانسي الى عالم الذات والانفصام عن الواقع، وكرس هاينه نهج القطيعة الكاملة مع الاشكال اليونانية القديمة، واعلن الثورة على الهة الاولمب المغرورة، ووقف ضد تلاعبها بمصائر الافراد والالهة الصغيرة على حد سواء.
تاثر هاينه بسيد عصره غوته، ووجد في الشرق منبعا للوحي والفانتازيا والافكار، واذ يوكد بعض المؤرخين الطبيعة الشرقية للرومانسية، ويصفها البعض بنصف الشرقية، ويبرزون دور (الف ليلة وليلة) في ظهور اول اقمارها، فان هاينه ابن العشرين عاما، كتب مسرحية ” المنصور” التي كشف فيها لملاحي الادب في القرن العشرين صحة تكهناتهم حول الرومانسية، التي تشي بتحول موشر بوصلته باتجاه الشرق. وكان هاينه، مثل حال الرومانسيين الاوائل، يحمل مزيج من التامل الصوفي والثورية الرومانسية في قلبه، ويشير الموًلف ماجد الخطيب الى أن هاينه تاثر ايضا بفلسفة فيخته الذي غلب الذات على كل العناصر الاخرى، واعتبرها مفتاح الحل السحري في تفسير الحقايق كافة، وتعامل معها كعدسة لامة تجمع الحقيقة في ذاتها، وتفرق انوار حركة التنوير التي دمغت شعر الكلاسيكيين.
وطبيعي فقد وصف هاينه الطبيعة شعرا ونثرا، وعاد اليها مثل الطبيعيين الاخرين في عصره، ونجده قد استلهم الحكايات والاساطير القديمة يحولها الى اناشيد وقصايد كسبت شعبية واسعة. وكان يهتم كثيرا بالصداقة التي ارتبطت الى حد كبير بمنهج الرومانيسيين وحياتهم، وهذا دليل اخر على صحة الاستنتاج القائل بان الحركة الرومانسية نشات داخل اطر الصداقات التي ربطت بين اعضائها.
تمتع هاينه بنظرة شمولية استشراقية منذ قصايده الاولى، ونفس هذه العناصر الشمولية نواجهها في فترة نضوجه الشعري، ولكن بنضوج اكبر. كما تمتع هذا الشاعر بملكة شعرية من طراز خاص اهلته لمعالجة الموضوعات نفسها التي يعالجها غيره من الشعراء، ولكن بحس ارهف ووعي انضج، فطريقة طرح الموضوعات ومعالجتها فريدةلديه، وتتحدد وتزداد قيمة كلما مر الزمن، الا انها بقيت محافظة على القالب القديم متمثلا بالقافية والموسيقا والايقاع. يقول الموًلف: “ارتكز الشعرالكلاسيكي الالماني، من هولدرلن الى غوته، على القوة الرمزية للكلمة، وكان هدفه الاقناع والاثارة والتنوير. لكن الكلمة على يد هاينه، اصبحت اداة فنية، لا تهتم باثارة القارىء ونشر اجواء السحر، ولا الاكتفاء بعرض الجماليات الظاهرية والطبيعية والاقناع، بل كان هدفها تحرير الانسان”.
هاينريش هاينه والشرق
تاثر الشاعران هاينه وغوته بالشرق، واعتبراه منهلا للافكار والعوالم السحرية الجميلة، التي يمكن أن ترفع الشعر الالماني الكلاسيكي الى سماوات جديدة، زار الشاعر هاينه “مثله الاعلى” غوته في فايمار وركع لأول مرة في حضرة الشعر وهو ابن عشرين عاما، وترك اللقاء اثرا عظيما في نفسه لا يقل عن تأثير مشاهدته الاولى لنابليون بونابرت في دوسلدورف وفي حضرة الشعر تعمقت مشاعر هاينه الشرقية وتحوّلت الى غرام اولي، لم ينته الا بانطباق عينيه النهائي في قبر “المرتبة” (عنوان احد دواوينه).
كان الشرق بالنسبة الى غوته معينا لا ينضب من الصور الشعرية الجميلة، والمشاعر الجياشة، والعوالم الغريبة على عالم الغرب، والتي يمكن توظيفها جماليا في الشعر الاوروبي، لكنه كان اكثر من ذلك هاينه، ففي شبابه وجد في الشرق ملاذا للجمال والجنس والغرابة، واصبح الشرق لديه في مرحلة النضوج حيزا يستجيب لعواطفه ومشاعره، مكانا يمكن أن يعيش فيه وله، وينطلق منه الى سماء الشعر المرصع بقصائد حافظ و الفردوسي وسعدي، ادخل غوته الجلنار والبادية والقوافل في قصائده وادهشت قراءه ونقاده، وادخل هاينه حسب قول الموًلف: “كلمات مثل: البدر، وازهار شيراز، وابن الملوح، والنخيل في قصائده، واسبغ عليها حياة جديدة. وتعاطف مع الشرق الاسلامي بالذات، وتعاطف مع شعوب الشرق والثقافة، وكان يتمنى لو يعيش في هذا الشرق ويموت فيه “.
وجراء ذلك، فقد اولى الكتاب الالمان علاقة هاينه بالشرق اهتماما كبيرا، وتابعوا بتفصيل مصادر بحثه، الا انهم اغفلوا تماما متابعة التقصي خلال فترة حياته الطويلة في فرنسا، وتشير الدلائل كافة الى أن الشاعر كرس وقتا عظيما من حياته الباريسية للتعمق في الشعر العربي، وكان في اثناء مرضه يفك هاينه، رموز الشعر العربي القديم في المكتبة الملكية الفرنسية في باريس.
قرأ هاينه تاريخ الشرق الاسلامي بنهم باللغات التي يتقنها، وهي: الالمانية واللاتينية والفرنسية والانكليزية. ولكن بقي هاينه يعاني من ضعف فرنسيته رغم زواجه من ماتيلدا الفرنسية، واقامته لاكثر من عشرين سنة في باريس، بل انه رفض ترجمة قصائده الى الفرنسية بنفسه، وكان يتعاقد مع مترجمين متخصصين لتأدية هذه المهمة الثقيلة عنه، وظهرت اولى قصائده التي تحمل بصمات الاندلس وهو لم يكمل العشرين من عمره، ” فنشر قصيدة (“دون روميرو” عام 1817 و”دونا كلارا” في العام نفسه، ثم تكاملت في مسرحية “المنصور” عام 1821، وامتلك من الجرأة ما اهله لان يتصدى بمفرده للكتابات التي مجدت النصر الصليبي في الاندلس ضد العرب، وخلعت على التعميد القسري للمسلمين في الاندلس صفة الاندماج. ورسم في شخصياته واشعاره صور اضطهاد المسلمين من قبل الغرب المسيحي، وندد بالتعميد القسري للمسلمين. وهنا بالذات اعتبر بعض النقاد الكارهين لشعره وشرقيته ودفاعه عن المسلمين في الاندلس، قناعا ليهوديته (وكان قد تعمد مسيحيا)، وانتقاما لنفسه من تعميده القسري، خلاصا من لعنة الدولة البروسي التي كانت تضطهد اليهود. واذا كان الهروب الى الشرق متعذرا فلا بد لهاينه من تهريب الشرق الى حياته، وبدأ يترع من كاس الشرق والثقافة الشرقية منذ بواكير حياته حتى تشبع بها.
الشعر الشرقي في أدب هاينه
ورد تعبير “العقلية العربية” لأول مرة في الادب الالماني في رسالة وجهها هاينه الى صديقه موزريوم في الثلاثين من شهر ايار عام 1823 ولا شك من يتكلم عن عقلية عربية خاصة في ذلك الزمان، عرف الكثير عن العرب ولغتهم، وتقاليدهم وطريقة تفكيرهم، واضافة الى “مقامات الحريري”، و”الف ليلة وليلة”، والمعلقات، وقرأ هاينه كتاب “الانيس المطرب بروض القرطاس في اخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” من تاليف المغربي ابو الحسن بن ابي زرع الفاسي. كما كرس هاينه ثلاث سنوات لقراءة “القرآن”، والمعتقد أن ترجمة القرآن التي وصفها هاينه بالسيئة وهي ترجمة فريدريش ايبرهارت بويزن التي صدرت عام 1773 في مدينة هالة. كما درس الشاعر تاريخ الادب العربي الذي يتناول موضوع ليلى والمجنون، والعشق والموت في سبيل المعشوقة، باعتباره موضوعا رائدا في الشعر العربي القديم. وكان واضع الكتاب “ه. ا، ر.جيب” اول من فسر التوق الى الحبيبة والديار في شعر عرب الجاهلية، على انه توق البدوي الى الواحات والمدن، وكانت قصة ليلى والمجنون موضوعة هامة لدى الفارسي نظامي. (Valium) ونرى تأثر هاينه بالشاعر الفارسي جامي، من خلال استخدامه مفردات: الحمامة، الغزالة، الرمح، والانتقام، ناهيك عن استخدام عناصر الطبيعة في خلق الصور الشعرية، مثل: الاشجار والبدو والطيور والواحة.
الانثى الشؤم والانثى الهشة
عاش الشاعر هاينه في الفترة الوسطية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الذي يطلق المؤرخون الالمان عليها اسم ” العصر الكلاسيكي الحديث ” عصر سادت فيه الثقافات القديمة واساطيرها، وعوملت النساء فيه على اساس انثى الشوًم او المحتومة، او الشر الذي لا بد منه، أن شئنا، التي كانت رموزها الملكة الفرعونية كليوباترا وحبها القاتل لانطونيو الروماني، وهيرا وانتقامها الازلي من هرقل، وملكة الجليل سالومي التي رقصت عارية حول راس النبي يوحنا المعمداني المقطوع.
وكان شؤم هاينه يقول المؤلِّف ماجد الخطيب: “إن يتعرف على الباريسية الشابة اوغستينا كريسينيس ميرات (ماتيلد) التي كانت تصغره بنحو عشرين سنة، فالمرأة التي رافقته في حياته حتى سكون قلبه على “السرير القبر” كانت امرأة بسيطة ساذجة، لا علاقة لها بالثقافة والادب، من جهة، ومثال المراة المثيرة جنسيا، الواعية لانوثتها، وصاحبة السطوة، وحب الهيمنة، من جهة اخرى “، بمعنى آخر، كانت ماتيلدا صورة المرأة الشؤم التي يحاول الباريسيون تجنبها قدر الامكان، امرأة تحب الموتى والتماثيل حسب وصف هاينه، وتندرج بذلك في صف النساء المشوومات اللاتي من امثال سالومي، ولا تحظى بشيء من نعومة وثقافة وبشاشة نساء الصالونات الثقافية في باريس، اذ كانت ماتيلدا بالنسبة الى هانيه،مثل روزيتا زوجة بلوتو ملك الجحيم في الاساطير الرومانية.
لم يكن هاينه زير نساء، كما قد يتصور البعض ذلك، بسبب شهرته كشاعر رومانسي كتب الكثير عن النساء واليهن، بل شاعرا تقدميا دافع عن المراة واحترمها، وله علاقات صداقة حميمة مع العديد من المثقفات، ولهذا، نرى أن القدر الذي يربط هاينه بامرأة شؤم، مثل ماتيلدا ربطه ايضا بحرف الميم، هذا الحرف المشؤوم في ترتيبه، وسر الحياة واصل الموسيقى والشعر في معناه واهميته.
ويشير المؤلف الى أن بعد هزيمة هاينه في تجربة الحب الاول، وتجاهل ابنة عم اماليا له، هذا الحب الذي يقال انه انجب كتابه الاول “كتاب الاغاني” و”ماساة المنصور” وقال هاينه في احدى رسائله إنها: “هي لا تحبني، لا تنطق يا عزيزي، هذه الكلمة الاخيرة الا همسا، في الكلمة الاولى (هي) تكمن السماء المشرقة، ولكن في الكلمة الاخيرة تكمن جهنم. لو واتتك الفرصة لرؤية وجهي المصفر المتجهم، المنكسر، المجنون، فسيهدأ خاطرك في الحال، وتسامحني على انقطاعي الطويل عن الكتابة اليك”.
يبدو أن الم الحب الفاشل، المجبول بالفشل في العمل التجاري، والفشل طبقيا في اختراق قصر العم سام، ترك اثرا بعيدا في حياة هاينه، والندبة التي تركها حب اماليا في قلبه، لم يندمل رغم السنين الطويلة، ورغم الام المرض، وجرعات المورفين، التي كان يتلقاها في باريس. وفي المذكرات يكسر “الشاعر صمته ليدلي بما عاناه من النساء ومن الحب” ما افظع مرض حب النساء!
هنا لا ينفع تلقيح الحب، كما عاش ذلك مع الاسف. وزوجته ماتيلدا، التي عانى منها الكثير، تصنف في قاموس الطبقات الاجتماعية الباريسيةو قتذاك ضمن فئة “فتيات الغربسيت” اللواتي يتعامل معهن المجتمع باعتبارهن رخيصات او انصاف عاهرات. وكان هاينه قد تزوجها عام1841 وقد شبه صوتهاالمرتفع الحاد، عند احتدام غضبها مع اصدقائه، بصوت طائر الشؤم (البوم) الذي يحذر البيوت من المصائب …