“صيف الحب”1967… ثورة على التقاليد أم هروب من الواقع
المحامي معوض رياض الحجل
شهدَ مُنتصف ستينات القرن العشرين تحولات هائلة عالمياً في نوع الفنون والموسيقى والموضة، وآمن “الهيبيز” بإمكانية خلق مُجتمع جديد مُشرق يُشبههم، تسودهُ الألوان المُتدفقة للفنون التي يبتكرها المُبدعون في تواصلٍ دائم مع الطبيعة الام. في نظرهم، الحب هو الدواء الشافي والوحيد لجميع المُشكلات والتحديات من حولنا مهما بلغت صعوبتها، لكن يبدو أن كل هذا لم يكن كافياً لبقاء هذه الظاهرة الجديدة على قيد الحياة لفترة طويلة، إذ سرعان ما تحول “صيف الحب” الحار بعد فترة قصيرة إلى خريف قاس لم يبقَ منهُ الا بضع ذكريات وصور وأفلام قصيرة وأغانٍ…
في كانون الثاني 1967، دُهش سكان مدينة سان فرانسيسكو الأميركية بوصول حوالي 20 ألف شخص،غريبي الاطوار بنظرهم، على مُنتزه “البوابة الذهبية“، وأعقب ذلك حضور قرابة 100 ألف شخص من مدنأميركية أخرى، لتزدحم شوارع سان فرانسيسكو بشباب وشابات طويلي الشعر يرتدون أزياءً مُبتكرة وغير تقليدية. فما هي حكاية “صيف الحب”.
البدايات.. مُظاهرة من أجل المخدرات
جذبت تجمعات”البوابة الذهبية” نحوها تيارات شبابية عديدة تقاطعت أفكارها ورؤيتها للامور من حولها مع أفكار الهيبيز، مثل مجموعة “ملائكة الجحيم“، وهو ناد للدراجات النارية، وجماعة “الحفارين“، الحركة الأناركية التي ناهضت أستعمال العملة النقدية وكان لها دور محوري في برامج توزيع الغذاء المجاني على الفقراء والمعوزين، بالإضافة إلى مجموعات من المفكرين وغيرهم.
جاءت هذه الأعداد الوفيرة لاعلان رفضها التام لقانون الولاية المُتعلق بحظر تداول عقار «LSD» بعدما كان مُتاحاً سابقاً للجميع تناولهُ، في حدثٍ عُرف باسم “تجمع العشائر”، دعت إليه جماعة الهيبيز المحلية في سان فرانسيسكو، ولبَّا النداء الهيبيز المُنتشرين في مختلف أنحاء الولاية.
يُمكن تعريف “الهيبيز“على أنهم هم مجموعة شباب وشابات من الطبقة الاجتماعية المُتوسطة خلقوا ثقافة حياة مُضادة دعت إلى شيوع مبادئ السلام والحب وإطلاق الحريات الشخصية، في الوقت الذي كانت فيه الادارة الاميركية مُنهكة جراء تورطها الكبير في حرب فيتنام المُدمرة، فأحتج الهيبيز على طريقتهم ضد استمرار الحرب، واحتجوا كذلك على أسلوب آبائهم التقليدي ونظرتهم للحياة، فرفضوا العمل طوال النهار في الوظائف المكتبية الروتينية المُملة التي ميزت الجيل السابق، وحاولوا بكل الطرق كسر الهرمية الأُسَرية التقليدية الموروثة التي لا تتوافق مع تطلعاتهم الشبابية المُتحررة من كل قيود.
كانت سان فرانسيسكو تضم آنذاك حركة طلابية مُتطرفة، وحولت كل هذه العناصر من المدينة مكاناً ملائماً لاستقبال تجمعات”الهيبيز”.
جذبت الاحتجاجات كذلك عدد كبير من الفنانين الشباب الساعين خلف الحياة “البوهيمية”، فأصبح المُنتزه مقراًوملجأ لكل شخص مُهتم بنبذ الأعراف الثقافية الأميركية التقليدية السائدة والموروثة، وشجعوا البحث في المسالك الروحية المختلفة، وطالبوا بإطلاق الحرية الجنسية، والتسامح مع تعاطي المخدرات، ورفض الثقافة المادية.
المُخدرات ووسائل الإعلام الاميركية تُساهم في تضخيم ظاهرة “صيف الحب”
تحولت تجمعات الشابات والشباب من الرفض التام لقانون أصدرتهُ أدارة الولاية إلى مهرجان فني كبير غير مسبوق، تعزفُ فيه فرق موسيقى الروك المحلية، إذ عاش المُشاركون أياماً لا تُنسى من السعادة والمُغامرة والحرية التي يبحثون عنها منذ فترة طويلة.إذ من مراجعة الصور والافلام، نرى شباب وشابات في وسط الطبيعة يرقصون معاً دون توقف، أو يعزفون الموسيقى الصاخبة، أو يغنون…دون اكتراث لمظهرهم الخارجي ما دام يشعرون بالسلام الداخلي وبفرح بالتلاقي والعودة الى الطبيعة الام بعيداً عن ضجيج المدينة والاماكن المُعلبة…
إضافةً إلى النقد اللاذع الذي تلقاه هذا التجمع من الخارج، خصوصاً في الوسط السياسي المُحافظ، بدأ “صيف الحب” بعد فترة قصيرة من أنطلاق فعالياتهِ يُعاني أنقسامات داخلية حادة، فانتقدتهُ جماعة “الحفارين” التي شاركت فيه، واعتبرتهُ مُجرد وهم صنعتهُ وسائل الإعلام الاميركية لتشتيت أنظار الطامحين إلى بناء مُجتمع عادل جديد، واستنكرت كذلك خطاب أستاذ علم النفس وأيقونة الهيبيز”تيموثي ليري”، الذي كان يحُث المُراهقين علىترك مقاعد الدراسة وتناول المُخدرات، وأعتبرتهُ رأياً تدميريا ًوغير مسؤول تماماً.
بعد انتهاء الحرب الأميركية في فيتنام في العام 1975، تحللت تماماً الجبهة المُتماسكة التي ابتكرت ما يُسمى بـــــ”صيف الحب”.
مثل أي ظاهرة اجتماعية شبابية، لم يكن “صيف الحب“حدث بسيط، رغم تشديد المُشاركين فيه على مبادئ البساطة والعودة إلى أحضان الطبيعة الام، فساد توتر بين “الحفارين” الذين دعوا إلىأعتماد مبادئ الشيوعية البدائية، و”الهيبيز” الذين جهزوا سوقاً تجارياً لصناعة الحُلِيِّ وبيعها بين رواد التجمع، كل هذا بالإضافة إلى الخلافات المُتكررة بشأن تعاطي المُخدرات والموقف من التيارات اليسارية المُختلفة خارج الحركة.
اتفق الجميع في “صيف الحب” 1967 على شيء واحد، هو مُعارضتهم الشديدة لاستمرار الحرب الأميركية المُدمرة في دولة فيتنام الاسيوية،لذا، بمجرد وقف المعارك الشرسة في العام 1975، لم يعد هناك بين المُشاركين أي قضية مركزية تجمعهم أو خصم شرس يتحدون جميعاً لمواجهتهِ وقهرهِ، فأنهارت أعمدة الجبهة المُتماسكة التي شكلت ما سُمي ظاهرة”صيف الحب”.
بالإضافة إلى الانقسامات الحادة، واجهت البنية التحتية والخدمات العامة لسان فرانسيسكو أزمة حادة جرَّاء التجمع الشبابي الغير مسبوق، ولم تقوَ أدارة المدينة على تلبية كامل الاحتياجات الحياتية لهذا الكم الهائل من الناس، ولم تكن فلسفة “العودة إلى الطبيعة”ناجحة تماماً، إذ اكتظت أرجاء المدينة بأعداد كبيرةمن الشباب والشابات المراهقين التائهين المُفلسين الذين يتجولون كل الوقت في الشوارع والاحياءوالطبيعة دون هدف واضح.
بحلول شهر تموز من العام 1967، ارتفعت نسبة الجرائم وتكررت المُناوشات بين الهيبيز والشرطة المحلية، وأخيراً، عاد أغلب الشباب والشابات المُشاركين في التجمعات إلى منازلهم في خريف العام نفسهِ، لتنتهي بذلك أشهر “صيف الحب” الحالمة بعالم جديد خارج عن التقاليد الموروثة أكان في اللباس الخارجي أو النظرة إلى الحياة وعلاقة البشر بالطبيعة الام.
رغم انتهاء “صيف الحب” في ما بدا كخيبة أمل لاحلام المُشاركين، فإنهُ ترك أثراً كبيراًفي المُجتمع والثقافة والفنون على انواعها.على صعيد المظهر الخارجي ما زالت الأزياء الملونة الواسعة والشعر الطويل المُميز للهيبيز تلقى قبولاً واسعاً لدى الجيل الشاب، كذلك على صعيد الأفكار والاهتمامات يُمكن مُتابعة تأثير ظاهرة “الهيبيز” الواضح في الاهتمام الحالي الكبير بالحصول على الأغذية العضوية والمُحافظة على البيئة النظيفة وممارسة التأمل واليوغا، بالإضافة إلى زيادة التسامح مع التحرر الجنسي وتعاطي المُخدرات.
هذه الاتجاهات ما زالت مُستمرة حتى الآن في مناطق عديدة رُغم مرور أكثر من نصف قرن على “صيف الحب”، وتبنتها اتجاهات لها مرجعيات مختلفة، وظلال تعبير البريء عن الذات والبحث عن الحياة البسيطة والعودة إلى الطبيعة الام ظاهرة عامة في الفنون والموضة، وكان تأثير “صيف الحب” على ثقافة الاحتجاج نفسها والتعبير واسعاً كذلك. والدليل الابرز هو ما حصل من احتجاجات شبابية في أيار 1968 في فرنسا ضد نظام الحكم القامع للحريات ولابداء الرأي. (Modafinil)
أخفق “صيف الحب” 1967 إذاً أخفاقاً تاماً في تحقيق أهدافهِ المُعلَنة، لكنهُ ترك أثراً كبيراً لدى كافة المُجتمعات التقليدية ودفعها إلى أعادة التفكير جدياً في تطوير نفسها وعدم الاكتفاء بالامور الموروثة والتقليدية، ربما يكون خطوة على الطريق الطويل نحو العالم المثالي بنظرهم الذي تمنَّاه الهيبيز ولم يستطيعوا تحقيقهُ.
بالعودة إلى واقعنا الراهن وفي ظل أندلاع الحروب الشرسة بين الدول، المُسببة للدمار الشامل، الا يحتاج عالمنا الحاضرإلى فرصة للتلاقي على مبادىء “المحبة لا الحرب” والتواضع والتآخي بدلا لحقد بعيداً عن العصبية الطائفية والعرقية والاثنية… كم وكم من الحروب العبثية أندلعت تحت شعارات رنانة مُختلفة منذ ذاك الصيف الشهير: نكسة حزيران 1967، حرب لبنان، الحرب في أفغانستان، حرب العراق… الخاسر الاكبر هو المواطن المُسالم الذي يبحث عن حياة بسيطة مغمورة بالحب تشبه الى حد ما نادى به الشابات والشباب في ” صيف الحب” العام 1967.