راسبوتين رمز الغموض والغرابة
د. إيلي جرجي الياس
*الحلقة 26 من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!!
لقد كان تأثيره في العائلة القيصريّة مطلقاً، وحضوره في البلاط الروسيّ مقلقاً، وتدخّله خلال الحرب العالمية الأولى مرهقاً، كأن رغب في لحظة موته أن يبصر نور الثورة مشرقاً… أراد أن يبرز كرجل المواقف الخارقة، كصاحب النظرات العاشقة، والابتسامات الواثقة، كقائد كلماته قاطعة خارقة، أراد أن يكون العلامة الفارقة… الغامض الغريب كأنّه الآتي من الغيب، غريغوري راسبوتين.
نهاية غريغوري راسبوتين لا تختلف عن حياته، مزيج من المواقف الشهيرة والقرارات المثيرة واللحظات الخطيرة…
“أكثر من نبوءة وسرّ ومفاجأة في حياة صاحب الشخصيّات المترابطة والمتنافسة، المؤمن والكافر، الملاك والشيطان، الحاكم والخادم، الضاحك والحزين، الداهية والبسيط…
غريغوري راسبوتين، الذي أسر قلب القيصرة ألكساندرا وفكر زوجها القيصر نيكولا الثاني… كما وجمعاً من المعجبات والمعجبين والمؤيدين والمتعاطفين، حتّى بات الشغل الشاغل لروسيا وشعبها، في زمن السلم والحرب…
أوّلاً، لمّا توقّع لابن القيصر والقيصرة، وحيدهما بين الإناث، ألكسي أن يعيش بنعمةٍ من الله… لسنوات قليلة؟! أو ربّما لشخصيّة جديدة؟؟…
وثانياً، لمّا تنبّأ بنهاية زمن القياصرة وموت العائلة القيصرية، أو بعضها ربّما، إذا ما قتل هو ظلماً… وللعجب كلّ العجب تلازم المساران…
وثالثاً، لمّا رقص خلال الحرب العالمية الأولى، بحرفية الفلّاح الروسيّ وذكاء رجل البلاط، على حبل آمال الشعب كما على حبل خيبات الأمراء وكبار القوم، فانتهت القضيّة أن اندلعت الثورة الذهبية…
ورابعاً، لمّا ربط الرجل – اللغز رئيس الحكومة الانتقالية الثورية ألكساندر كيرنسكي غريغوري راسبوتين بفلاديمير لينين: “لولا راسبوتين لما كان هناك لينين”. فيا للغرابة!!
وخامساً، لمّا قتل في جريمة بشعة يسكنها الغموض ويفوح منها عطر الغضب… دبّرها أركان المؤامرة برعب شديد: النائب الملكيّ فلاديمير بوريشكفيتش، صاحب الرصاصات الأخيرة التي أطلقها على راسبوتين، والذي ترك لحاله لأنّه نائب وصاحب شعبية كبرى… والأمير فاليكس يوسوبوف الذي استدرج راسبوتين إلى قصره لمعالجة زوجته الفاتنة إيرينا، قريبة القيصر، ثمّ قتل راسبوتين نفسه… وابن عمّ القيصر ديميتري بافلوفيتش موجّهاً، والضابط سيرغاي سوخوتين والدكتور ستانيسلاس لازوفيرت مشاركين…
غادر سوخوتين ولازوفيرت روسيا على الفور، بينما كان عقاب يوسوبوف وبافلوفيتش عابراً ودون قيمة… وثمّة دور للاستخباريّ البريطانيّ الخطير أوزوالد راينر مواكباً، لأنّ التاج البريطانيّ أغضبته خطّة راسبوتين الذي تنقّل في مفاوضاته هادئاً، ولكن بدهاء شديد، بين بريطانيا والحلفاء من جهة، وألمانيا من جهة أخرى…
قاوم غريغوري راسبوتين الموت بشراسةٍ لا تجارى، ولعلّ كلّ شخصيّاته اتّحدت بوجه السمّ في المأكل والمشرب، والضرب والتعذيب وإطلاق الرصاص عليه…
وبعد، هل كان القيصر نيكولا الثاني شخصياً موافقاً، على ما ارتكبته تلك النخبة البورجوازية الروسية، وذلك بسبب غيرته الفائضة جرّاء محبّة ألكساندرا الصريحة وتقديرها الفائق لغريغوري راسبوتين؟؟
بعد مرور كلّ تلك السنين، يرجّح ذلك…
وفي نهاية المطاف، قتل راسبوتين، ومضى إلى العالم الآخر، وحلّت لعنته على العائلة القيصرية!!”
(من مقالتي العلمية: الكرملين: من القيصر وكيرنسكي وراسبوتين، إلى تروتسكي ولينين وستالين: سلسلة من الأسرار والأحداث والمفاجأت!!، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 91، تموز 2022، ص 98، 99).
***
* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.