ذكريات رئاسية
خليل الخوري
السابع عشر من آب 1970، كان يوماً مشهوداً في التاريخ اللبناني فيه انتُخِب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، وكان مجلس النواب مسرحاً لتطوّراتٍ بدأت منذ الليلة الماضية بحشودٍ شعبيةٍ ضخمة أحاطت مبنى ساحة النجمة من مناصري الزعيم الزغرتاوي، والأب سمعان الدويهي والكتائب اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار، كون فرنجية مُرشحاً من قبل الحلف الثلاثي (كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده) وتكّتل الوسط (كامل الأسعد وصائب سلام وفرنجية بذاته وحبيب كيروز وفضل الله تلحوق…).
ضاقت القاعة الكُبرى بالـ99 نائباً وهم جميع أعضاء المجلس. بدأت عملية الإنتخاب، فطلب الأب سمعان الدويهي من فرنجية أن يتوجّه إلى عمق المجلس حيث كان يجلس رينيه معوض، طالباً منه أن ينتخبه، إلا أنّ نائب زغرتا اعتذر «لأنني وعدت إلياس سركيس، وأنا مُلتزم وعدي».
شعر الرئيس رشيد كرامي، ومعه فريق النهج الشهابي، بأن المعركة قد تكون، على الأرجح خاسرة. جرت عملية الإنتخاب الأولى ولم يفز أحدٌ بأكثرية الثلثَين. في العملية الثانية، التي يفوز فيها من يأخذ الأكثرية المُطلقة، أي نصف أعضاء المجلس زائداً واحداً، عمد ريمون إده إلى تعطيلها بأن دسّ في صندوقة الاقتراع ورقتَين بدلاً من ورقة واحدة، لأنه عرف بأن أحد مؤيدي فرنجية قد يكون اقترع لمصلحة سركيس، فتعطّل الإنتخاب لأن عدد المقترعين كان أكثر من عدد النواب.
وفي الدورة الثالثة، وُضِع جميع نواب الحلف الثلاثي وتكتّل الوسط تحت المراقبة، فكان مُحظّراً على أيٍ منهم أن يُرمي بورقته في الصندوقة قبل أن يطّلع عليها المراقب منهم وفيهم. وكان سليمان فرنجية قد جلس، في مقاعد الوزراء، قرب نائب الكورة النهجي فؤاد غصن، الذي وعده بالاقتراع له. ولحظة إدلاء غصن بصوته، عرض الورقة على فرنجية ولكنّه لم يلتفت إليها.
لدى فرز الأصوات، أحاط ممثلو الطرفَين بالصندوق وجاءت النتيجة لمصلحة فرنجية (50 مقابل 49)، واحتدم الجدال وتحوّل إلى احتكاك أدّى إلى سقوط نائب الكورة الثاني باخوس حكيم أرضاً، وهو من مؤيدي فرنجية، فانتشله الأب سمعان الدويهي. وامتلأ المجلس بأفراد شرطته، حاملي البنادق، فتدخّل الدويهي، منترعاً بندقية أحدهم ورماه بها، وقال كلاماً كبيراً.
الرئيس صبري حماده، وهو من أركان النهج، انسحب من القاعة واعتصم في مكتبه، رافضاً إعلان النتيجة. ولمّا كان الرئيس كميل شمعون متوجّساً، سلفاً، مما قد يحدث، هيّأ إعلاناً لفوز فرنجية بالرئاسة، وكلّف ميشال ساسين، كونه نائباً لرئيس مجلس النواب، أن يتلوَهُ، علماً أن شمعون كان قد أحضر قنديل «لوكس» تحسّباً لإقدام حماده والنهج على إطفاء الكهرباء في مجلس النواب. وعلى الأثر، انتقل كرامي (رئيس الحكومة) ومعوّض إلى قاعةٍ جانبية تولّى حراستها أحد العسكريين من مؤيّدي معوض (العميد جوزف سعادة).
في الخارج، بدأت التجمّعات تتخذ منحىً تصعيدياً مع التهديد باقتحام مبنى المجلس وإعلان فرنجية رئيساً بالإرادة الشعبية.
استمرّ الهرج والمرج نحواً من ربع ساعة مرّت دقائق طويلةً وضاغطةً جداً، إلى أن رنّ الهاتف مرّتين في مكتب الرئيس صبري حماده، وتبيّن لاحقاً أن المرة الأولى كانت من مكتب الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة، والمتحدّث كان مدير مكتبه سامي شرف. وأما الثانية، فمن زوق مكايل، مقرّ إقامة الرئيس فؤاد شهاب. (https://urbanfeatconstruction.com) وعلى الأثر، دخل حماده القاعة وأعلن فوز فرنجية، بعد أن تبادل وإياه المصافحة والقبلات.
من مجلس النواب مباشرةً إلى القاهرة، حيث كانت تُعقد قمةٌ عربية، جرى خلالها حدثٌ ديموقراطيٌ مميّز لم تشهده الدول العربية في تاريخها القديم والحديث، بأن تسلّم الرئيس سليمان فرنجية رئاسة الوفد اللبناني من الرئيس شارل حلو، الذي عاد إلى بيته في بيروت.