صديقي الكتاب
نجاة بنونة
هو أوفى الأوفياء وأثر العظماء! إنه موضع إعجاب وعشق إلى حد الهيام والاقتداء! إنه صانع الكرماء وكفانا دليلا أول آية في القرآن تقول: “اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم…”
نعم إنه الكرم نفسه! ما الحياة إلا فراغ لو لم يملأها كتاب؟ وظلمة حالكة لو لم ينرها كتاب؟ وفقر لو لم يغنها كتاب؟!
إنه المؤنس في الوحشة والرفيق في الوحدة! هو الواقي من العلل والمنقذ من الملل!
إنه جواز سفر بدون قيود إلى رحلة بدون حدود!
هو فاتح الآفاق ومهذب الأذواق وملهم الأخلاق!
إنه حافظ التاريخ والحضارة من الضياع والنسيان
ومازج العقول والأرواح الى درجة الذوبان!
إنه المرشد في الهذيان والمعالج بالمجان!
إنه خير جليس في الزمان والمكان وباعث الفرح والاطمئنان!
أجل إنه العلم والمعرفة ولا أروع ولا أجمل من زاد وسلاح ورفعة وكرامة كل إنسان!
من هو يا ترى هذا الذي اجتمع فيه ما افترق في غيره؟!! من هو هذا الذى امتزجت فيه كل هذه المحاسن والفضائل؟!
أجل فأنتم على حق. إنه الكتاب! صغير في حجمه لكن عظيم في أثره!!! ومهما قيل عنه، ومهما قلت وسأقول، أراني عاجزة عن إيجاد كلمات تغطى مساحة حبى وإعجابي به وإحصاء نعمه!!!!!!
عالم كله جمال وخيال
ما أحوجنا إلى ساعات بين الكتب كلها متعة واستفادة تأخذنا إلى عالم كله جمال وخيال يشبع فضولنا المعرفي والعلمي ويستنهض همتنا ويحرك مشاعرنا الراقية ويخاطب وجداننا ويصحح أفكارنا ويحسن سلوكنا ويلطف مزاجنا؛ فنصبح بفضله صالحين، نافعين، متفائلين ومتحمسين للسير إلى الأمام بخطى ثابتة وواعدة!!!
نعم! إنه الكتاب المعلم الأول للبشرية!! أي فوائد؟! وما أغناها وأنفعها من فوائد!! وكم من مناقب!! وما أجملها وأروعها من مناقب!! إنها لا تعد ولا تحصى!! وكم من طرائف!! وما أحلاها وأعذبها من طرائف تروح عن النفس وتحقق لها الأمن والاسترخاء وتملؤها طاقة إيجابية ترفع المعنويات فتضاعف العطاء والإنتاج!! وكم من ذكريات!! وأي ذكريات!! ذكريات الأمجاد وتألق الرواد وصنع الأفداد تضرب للناس نماذج البطولة والشرف وتحفز للتقدم والتألق!!!
نعم! ولحكمة ما ولأمر ما، ذكر الله الكتاب في القرآن عدة مرات، فوردت كلمة كتاب معرفا مئتين وثلاثين مرة، بما فيها أهل الكتاب وبالتنكير كتاب اثنتي عشرة مرة، ومقرونا بضمائر كتابنا، كتابه، كتابي ثلاثة عشرة مرة، وبالجمع كتب ست مرات؛ كما كان أمره الأول يدعو للقراءة علما منه بقيمة الكتاب وفوائده المتعددة والمتنوعة.
عندما خلق الله الإنسان ميزه على سائر المخلوقات، فوهبه بعض النعم إكراما له وتشريفا له إن هو قدرها حق قدرها وأدرك معانيها حق الإدراك! ومنها القراءة، لا على سبيل الحصر والتي يجب أن تلازمه ملازمة ظله لأنها تثبت وجوده وتضمن سلامة عقله وصفاء روحه وسمو فكره ويقظة ضميره وبعد نظره وإحياء نبل مشاعره وصدق عواطفه ورقي ذوقه وسعة قلبه وانشراح صدره وقوة عزيمته واستقامة سلوكه ونظافة يده؛ كما تلهب طموحه، فيزداد حماسة وثقة بالنفس لمواجهة تحديات الحياة، بل وأكثر من ذلك، قد تقوده إلى أعلى المراتب بتبني شخصية تاريخية تغير مجرى حياته. ومن الإعجاب والهيام بالقراءة ما أعطى أكله، بدليل أن هناك أشخاصا قرأوا فوصلوا أسمى المنازل وكان لهم الفضل في تعليم وتوجيه وتثقيف الملايين من الناس لأنهم أصبحوا مصدر إلهام بامتياز، أحبتهم الجماهير دون معرفتهم عن قرب، غير عابئين لا بجنسيتهم ولا سنهم ولا عرقهم ولا لونهم؛ وانما العلم والمعرفة هما مصدر نبع هذه العواطف الصادقة والعميقة. وجميل أن يحتل الإنسان مكانة خاصة في قلوب الناس دون صلة قرابة أو صداقة أو مصلحة دون علمه…
إنها أكبر وأعظم نعمة ينعم الله بها على عباده المختارين…
وإذا كانت القراءة ترفع الإنسان إلى هذا المقام الرفيع ليصبح محبوب الجماهير عبر العالم دون حدود ولا قيود فلا استغناء له عن الكتاب لأنه ضرورة من ضروريات الحياة ومهم على قدر أهمية الأكل والنوم فالمطبخ والمكتبة لا بديل لهما بالبيت ومن حرم الكتاب كمن حرم الطعام. وكما نذهب الى السوق للتزود بالمواد الغذائية بصفة فطرية ومنتظمة وجب علينا التردد على المكتبة لاقتناء الكتب لتغذية العقل
والروح. وفي هذا السلوك توازن، وهو مقياس الرقي والجمال في كل شيء. ولعل التوازن هو أول مزية للقراءة، لأن الإنسان مركب من جسد وعقل وروح ومن الضروري الاعتناء بها مجتمعة. وهو بخير ما وازن بين جميع مكوناته.
إن التوازن جمال في خلق الله أولا وفي كل فن من الفنون الجميلة ومن منا لا يحب الجمال ولا يسعى جاهدا لكسبه؟!
الألفة بين العقل والروح والجسد
وإذا كانت للكتاب عدة حسنات فأولاها هو هذا التوازن الناتج عن التناغم والألفة بين العقل والروح والجسد؛ وهذا التوازن بالذات يفرز الاتزان الذي يساعد الإنسان على ضبط نفسه في أغلب الأوقات واصعب الحالات، والفضل كله يرجع إلى الكتاب الذي أكسبه هذه المناعة ضد الانفعال السريع والتأويلات الخاطئة أو النظرة القصيرة والضيفة بما ينطوي عليه من تراكم تجارب الحكماء وخبرة العلماء وعبر مستمدة من أبطال التاريخ البشري تغير مجرى حياتنا إلى الأحسن بكل ثقة وثبات.
وبعد التوازن والاتزان، يأتي التواضع بفوائده العديدة والمتنوعة تعود على الإنسان بالخير الوفير أذكر منها لا على سبيل الحصر الاستعداد للتعلم المستمر النابع من قناعة الانسان بحجم جهله مهما كان مستواه العلمي والمعرفي فيزداد حرصا على مواكبة العلم والمعرفة؛ ولا أدل على ذلك من مقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو من هو في علمه وسعة ثقافته وورعه
وإمامته: “كلما ازددت علما زادني علما بجهلي. “والعالم الأديب والفيلسوف ديكارت: كل ما أعلم هو أني لا أعلم شيئا. “
أجل إن القراءة المنتظمة هي التي تشعرنا بحجم جهلنا وتحمسنا إلى المزيد من التعلم بعيدا عن الغرور والرياء. وكل من يدعي العلم معرفة فإنه جاهل وأكثر لأنه يجهل جهله. ولقد صدق من قال :” فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً/حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ”.
ولحكمة ما قال النبي( ص): “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”، وعيًا منه بأنسنة الإنسان لأن العلم سر وجوده في الكون وتميزه عن سائر المخلوقات وهو الذى أمره ربه بالاستزادة في طلب العلم” وقل ربي زدني علم، ” ويقينا أن التواضع يتربع على عرش الخصال الحميدة التي يجنيها من القراءة المستمرة فتجعل منه مواطنا صالحا لنفسه ومجتمعه؛ ومعها وبها يصبح واثقا من نفسه متصالحا معها وبالتالي مع الآخرين فيتقاسم معهم خلاصة قراءاته ملهما بعضهم – من حيث لا يشعر- إلى الاغتراف والنهل من نفس المصادر.
لقد ساهمت القراءة وبشكل كبير وبطريقة غير مباشرة في إلى تعزيز الثقة بالنفس وتقدير الذات؛ آنذاك يصبح الإنسان بفضلها منتجا: يبدع ويمتع الى أن يحتل مكانة مرموقة ويكون مصدر اشعاع وتنوير وروح المجالس أينما حل وارتحل بسعة ثقافته ورقي اسلوبه وجودة أفكاره، كما قد يذهب الى أبعد من ذلك، فيفكر في الكتابة بفضل آلياتها التي أصبحت تطاوعه للتبادل الثقافي والمعرفي وقد يشرع في تعلّم اللغات الأجنبية لتوسيع آفاقه المعرفية والثقافية وتطوير ملكات البحث والتنقيب والتحليل، وبانخراطه في التعلّم المستمر تفتح له آفاقا عديدة يطل منها على العالم من خلال الكتب والمجلات المفيدة غير عابئ لا بقومية ولا جهوية ولا جنسية ولا عرقية؛ إنما يصبح شعاره الأول هو “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها” كما قال سيد الأنام عليه أزكى السلام.
و بما أن الكتاب يساهم وبشكل ملفت في تطوير ملكات النقد والاستنتاج وقراءة الأمور القراءة الموضوعية والتأويل الصحيح، فإن الإنسان يستفيد منها بالدرجة الأولى في التعاطي مع شؤون حياته اليومية باتخاذ القرارات الصائبة وتفادي العواقب الوخيمة فضلا عن مواجهة التحديات دونما تضخيم، الذي غالبا ما يضعف قوى الإنسان ويقوده إلى الاستسلام، ومن تم إلى الفشل. إن القراءة تعوّده على التريث لأن له من النضج ما يكفيه على فك الرموز وحل المشاكل بصفة منطقية وناجعة نظرا للمهارات التحليلية وعمق التفكير الذي أكسبه الكتاب إياها. ولهذا السبب نجد جل المفكرين والكتاب والمؤلفين قبلة للاستشارة والنصح على المستوى الوطني والدولي في اتخاذ القرارات الحساسة؛ كما نجدهم في أعلى السلطات سواء ببلدهم أم ببلدان أخرى. هذا من الناحية المعنوية أما من الناحية المادية فقد تدر عليهم ربحا ماليا مشرفا سواء عبر التأليف أو الترجمة أو النشر أو الاستشارة في أعلى مستوياتها والتي غالبا ما يستثمرونه في البحث العلمي أو مشاريع تربوية.
إن تسيير شؤون الدولة لا يستقيم إلا بخلية استشارية تكلف بدرس الملفات الكبرى واتخاذ القرارات الاستراتيجية. ومن الواضح أنها لجنة مكوّنة من مفكرين أكفاء لهم من الخبرة الواسعة والنظرة الثاقبة والتحليل الموضوعي والنقد الذاتي ما يؤهلهم للقيام بمهامهم أحسن قيام.
وبالطبع أن القراءة المنتظمة والواسعة فضلا عن تكوينهم الأكاديمي هي التي زودتهم بالآليات الضرورية للوصول الى هذه المراتب العليا.
التجارب الحية ومولانا الكتاب
وهناك أيضا مزية أخرى على قدر من الأهمية وهي مطاردة الملل باستغلال الوقت الاستغلال النافع والممتع ؛ ففي حضرة مولانا الكتاب لا نشعر بالملل على الإطلاق لأنهما عدوان لا يلتقيان.نعم إنه مشغل الوقت لا يترك للبطالة سبيلا ولا للرذيلة دليلا بل هو للوحدة بديلا. مع الكتاب نحلق بعيدا في الزمان والمكان ونسمو إلى أعلى مراتب الجمال والكمال فهو من عوامل الوجود الإنساني.
و الآن عزيزي القارئ اليك بعض التجارب الحية :
لقد سبق الروس الأمريكيين في إطلاق أول قمر اصطناعي إلى الفضاء، فتساءل الباحثون الأمريكيون عن السبب الكامن وراء هذا الإنجاز العظيم، وبعد البحث والتنقيب، اكتشفوا إخفاق المدرسة الأمريكية في تعليم أبنائهم القراءة الجيدة لتحصيل العلم والمعرفة فبادروا لإصلاح منظومتهم التعليمية بتعويد الطفل الأمريكي على القراءة الجيدة والمتنوعة بتهييء جميع الفرص لتعزيز حب القراءة.
أما اليونانيون، فلقد امتد فكرهم إلى كل حضارات العالم بفضل اهتمامهم بالقراءة، ونفس الشيء بالنسبة للعرب، فمنذ حملوا لواء “اقرأ” انطلقوا في جميع بقاع الأرض ليعلموا الناس ويمهدون دروب العلم والثقافة حتى أصبحت كتبهم مراجع فكرية وعلمية وجامعاتهم قبلة لنبلاء اوروبا في القرون الوسطى.
والآن لك بعض المقولات لكبار المفكرين حول القراءة. سئل أرسطو عن تقييم الإنسان فقال: “إن قيمة الإنسان تكمن في عدد الكتب التي يقرأها”، أما العقاد فقال: “أحب الكتاب لا لأني زاهد في الحياة بل لأن حياة واحدة لا تكفيني” ونجيب محفوظ: “إن أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف بصري”، أما العالم الفرنسي فيكتور ايكو فقال: “القراءة هي الأكل والشرب. إن العقل الذي لا يقرأ يضعف “أما مونتيسكيو فقال: “إن القراءة هي الطبيب الذي يحبب الإقبال على الحياة بامتياز”.
والآن ما رأيكم في التذكير ببعض النماذج التي قرأت فوصلت لعلها تلهمنا فنقبل على الكتاب بكل حيوية وابتهاج؟
يحضرني على رأس القائمة أستاذنا العظيم صاحب العبقريات الإسلامية عباس محمود العقاد والذي لم يحظ بتكوين أكاديمي وإنما الفضل كله في ما خلف لنا من روائع أدبية وعلمية وثقافية هي نتيجة جهده الشخصي عبر مصاحبته مولانا الكتاب أعزه االله وأبقاه ذخرا لنا إلى يوم الدين، ولولا الكتاب ما كان ليكون ضمن رموز أشهر المفكرين والمؤلفين الذين نفعوا الأمة بمنشوراتهم الشيقة والمفيدة. يليه الروائي السوري “حنا مينا “الذي كان حلاقا وبحارا وحمالا قبل أن يصبح كاتبا مرموقا وروائيا مشهورا؛ ولولا فضل الكتاب عليه ما تطورت ملكاته الأدبية والثقافية ليرتفع الى درجة الأكاديميين، ومن هنا يمكن القول إن الكتاب مدرسة من لا مدرسة له وجامعة من لم تطأ قدمه الجامعة. كما يحضرني شيكسبير شاعر الوطنية وعبقرية استبصاره؛ فمرونة أفكاره جعلت كتاباته رغم توغلها في القدم خالدة وقابلة للاهتمام حيث ترجمت إلى عدة لغات وأصبحت كتبا مدرسية تدرس بالجامعات للاستفادة منها؛ ولقد خلفت مؤلفاته انطباعا جميلا في نفوس الأجيال لتنوع مواضيعها وأهميتها. ولدور النشر دور فعال للتعريف بهؤلاء العظماء الذين قرأوا فوصلوا للسير على منوالهم. أجل لقد قرأوا فوصلوا فأغنوا الأدب العالمي وتصدّرت كتبهم جميع مكتبات العالم.
قرأوا فأبدعوا وتألقوا وعلموا الملايين. كما يحضرني الأديب الروسي “تيلستي” الذي حقق المعجزات بفضل القراءة لأنها هي البوابة للتطور والنماء والطريق الذي يضمن التقدم والبناء.
إن القراءة هي بلوغ الكمال النفسي والعقلي
وبالمواظبة على القراءة المتنوعة، تصبح ذلك المشعل المضيء لنفسك وللآخر؛ وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها فيطفئها ويمشي في الظلام. إن القراءة جهاد! فعلموا أبناءكم وأحفادكم القراءة لتصبح عادة يومية، بل ثقافة! وهكذا التطبع مع الوقت يصبح طبعا وما أجمله من طبع! وما أعظمه من إنجاز!! إنها أحد أعمدة الحياة الطيبة والناجحة!. إنها ركن من أركان العلم!!