سجلوا عندكم

من تجلّيات زمن التفاهة..الهَوَسُ بنشر  الصُوَر الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي!

Views: 474

د. مصطفى الحلوة

كَتبَ الصديق الناقد الاجتماعي المبدع د.دال أيّوب حتّي، في صفحته على الفايسبوك (21/ 10/ 2023) نصًّا، تناول فيه إحدى المهووسات بنشر صورها الشخصية، وقد جاء فيه: “نيل أرمسترونغ، رائد الفضاء التاريخي طلِعْ عالقمرْ، وبس دعس على أرض القمر أخَدْ صورة وحدِة! وحضرتِكْ بتنزّلي إجرِك من التخت وبتدعسي على أرض غرفتِك بتسفقينا 35 صورة! وبتبعَتي هالصُوَر على كل الغروبات ، حتى تأكّدي إنجازاتِك: وعِيْتْ، مشِيتْ، فِتْ عالحمّام (..)، أكَلْتْ، لبِستْ(..)، ورايحة إعمِلْ صبحيّة، رافقوني بمشواري الطويل!”

ويخلص د.حتّي إلى القول: “يعني للحقيقة، إنجازاتِكْ تاريخية!”

هذا النص، رُغم بساطته، يتقاطع، في العديد من دلالاته والمؤشّرات مع نص للناقد والأستاذ الجامعي جورح كعدي (7/ 9/ 2023)، جاء بعنوان:”إنسانيتنا المهدورة في الذات الافتراضية”  (موقع ضفة ثالثة الالكتروني/منبر ثقافي عربي).

أوّلُ النصّين سردي مبسّط وطريف، طرافةَ كاتبه، أما الثاني، فهو يغوص عميقًا على المسألة، ويضعنا بإزاء فئة من الناس وجدت، في عالَم الصُوَر، مُتنفّسًا للاحتقانات الداخلية وعُقدها النفسية، فراحت إلى تماهٍ بين عالَمها الحقيقي والعالَم الافتراضي!

في سبيل إثراء هذا النص، يعمد الناقد كعدي إلى توسعة دائرته، فيستنطق بعض المشتغلين بالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. فالفيلسوف الفرنسي الراحل Jean-François Lyotar، في تعمّقه العصر الرقمي، وقد كان هذا العصر في بداياته المتواضعة، يرى أنّ “الأمر يتعلّق بهمجيّة جديدة وأمّية جديدة، وخفض من شأن اللغة”، بما يعني، فيما يعني، أنّ الصورة باتت تنوب عن اللغة، ولنغدوَ أمام سطحية طاغية!

وفي تحديد وظيفة الصورة تاريخيًّا، يرى الفيلسوف الفرنسي Henri Haldiney أنّ “قوّة الصورة كانت، في المجتمعات البدائيّة، تُصنَّفُ ضمن الكينونة، أما في المجتمع المعاصر، فإنّ سلطتها تندرج في الاستملاك”، بمعنى أنً “أنانا” تلهو مع نفسها، وتنشر سيلًا من الصُوَر لنرسيس العصور الحديثة!

وتدعيمًا للإشكالية، التي يتوفّر عليها الناقد كعدي، فهو يُورد خبرًا مأساويًّا، بطلُهُ أحد الشبّان المهووسين بالسيلفي (Selfie). فقد أفضى البحث عن أفضل سيلفي إلى وفاة شاب بريطاني في التاسعة عشرة من عمره، عام 2014، إذْ كان داني بادمان يُمضي مهاراته كلّها في التقاط صُوَر ذاتية له، إلى حد انقطاعه عن الدراسة! وكان يلتقط نحو مائتي سيلفي يوميًّا. وقد فقد، في ستّة أشهر، إثني عشر كيلو غرامًا، من وزنه!

ويروي هذا الشاب بنفسه: “كنتُ أسعى دومًا إلى التقاط أجمل صورة ذاتية، وحين أدركتُ أنّ الأمر مستحيل، رغبتُ في الموت!”. وقد انتهى الأمر بهذا الشاب في مركز خاص بالعلاج من الادمان التكنولوجي، بسبب إضطرابات الهوس القهري، وبسبب ما يُدعى Dysmorphophobia أو “رُهاب الشكل”.

وفي رصد المُبتَلين بثقافة الصورة، من موقع السلب، حيث للأنا المَرَضيّة كبيرُ حضور، يرى الناقد كعدي أنّ إنسان اليوم “يسبحُ في بحر من الصُوَر التافهة: “الاختيار للحظة الزيّ، تناول الوجبات في المطاعم، الصور الذاتية للحزن أو للفرح..إنفعالات شتّى، يُعبَّر عنها بِ الموجي emoji (مصطلح ياباني دخيل على الفرنسية، يعني الصُوَر الرمزية أو الوجوه الضاحكة. والكلمة من مقطعين: moji تعني حرفًا أو رمزًا، وe  تعني صورة).

إنّها لغة ذات طبيعة إنفعالية بالصُور، لا بالكلام واللغة، مثلما كان يحصل ماضيًا(..) بتنا تحت سطوة إنفعالات ولم نبقَ أسياد أنفسنا”

هكذا، بتبسيط شعبوي، فإنّ المهووس بالصُوَر، يتوجّه إلينا، ولسان حاله يقول: “شوفوني ما أحلاني!” و “سُبحاني ما أعظمَ شاني” (بالأذن من أبي يزيد البسطامي)، و “أنا هون!”الخ.

وفي ارتقاءٍ بالتعبير (أنا هون)، ومقايسةً على الكوجيتو الديكارتي: “أنا أتصوّرُ، وأُغرقكم بسيل من الصُوَر ..إذًا أنا موجودٌ موجود!”

وفي تناول الموضوع، من زاوية رومانسية راقية، زاوية الطرب الأصيل، كان للمطربة وداد، اللبنانية اليهوديّة (إسمها الحقيقي بهية عوّاد) أن تُطْلِق أغنيتها المُشتهرة “تصوَّرْ وبعتلي صورة، أنا عندي صورة زغيّورة/وحدة بعلّقها بالدار، ووحدة بقلبي محفورة!”. فالصورة كانت آنذاك جزءًا من كينونة العاشقين، تحفر في القلب، وليست للعبث والتشاوف والتعبير عن حالة مَرضِيّة قاتلة!

في سياقٍ متّصل، وفي عودٍ على بدء، وجريًا على سرديّات د.دال حتّي، فقد روى لي أحد الأصدقاء، عن ناشطة إجتماعيّة، مهووسة، لا يهنأ لها عيش ولا تَقَرَّ لها نفس، ما لم تقم  بنشر صورها الذاتية في صفحتها على الفايسبوك، وما تيسّر من مواقع إلكترونيّة! فهي تعهد إلى البعض، كي يلتقطوا لها بعض الصُوَر، وهي في حالة ابتسام مُفتعل! ومما يُثير السخرية (يا رَبّي بلا جبر) أنّ الله  خصّها بِ “كشرة” في فمها، ورُغم هذه “الكشرة”، لا ترضى إلّا أن تتبسّم ابتسامة عريضة، فتُسفر عن كشرتها،و تنوس عيناها، حتى تغيبا!

ومن علامات نرجسيتها، أنها حين تتشارك ومجموعات التقاط صُوَر، تحتكر لنفسها غالبية الصُور، وتترك للآخرين الفُتات من الصُوَر!

***

*من بيادر الفسابكة/ قراءة نقديّة في قضيّة.

** ملاحظة: قد يقول قائل كيف نكتبُ حول هذه الموضوعات، و”الدنيا قائمة وقاعدة” و “الناس بالناس والقطة بالنفاس”!..ونردّ: كنّا ولا نزال مع القضية، قضية فلسطين، إلى يوم الدين، فلا يُزايدنّ علينا  مزايد! علمًا أن ما حوته هذه المقالة، يُطلُّ على واحدة من آفات مجتمعنا، التي تفعل فعلها في استدامة تقهقرنا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *