ناجي نعمان مُحتفِلاً بإلياس خليل: بِئسَ الثَّقافَةُ، الثَّقافةُ الحَقَّة

Views: 879

تمَّ في جامعة الرُّوح القُدُس – الكسليك تكريمُ الشَّاعر والأكاديمي إلياس خليل على بادرةٍ طيِّبةٍ مِن “لقاء”، شاركَ فيه كلٌّ من الدكتور عماد يونس فغالي (كلمة “لقاء”) والشُّعراء أنطوان سعادة وإيلي بو أنطون وسالم غانم، وكان الخِتامُ مع الياس خليل. كما عُرض شريطٌ في سيرة المُحتفى به من إعداد موسى المير، وقد قدَّمت الأُمسِيَة المحامية والإعلاميَّة رولا إيليَّا. هذا، وألقى ناجي نعمان للمُناسبة الكلمةَ الآتية:

 

أيُّها الأحبَّة، مساءَ أنسَنَةٍ وخَيْرٍ وثقافَةٍ، وبَعْدُ،

… ويُحَدِّثونَكَ عن حالِ المَعمورَةِ وصِفاتِ أهِليها في هذا العَصْر، أو قُلْ عَمَّا يُسْمَحُ لهم أنْ يَكونوا عليهِ مِن بَقِيَّةِ أخلاقٍ مُلْتَبَسَةِ الأهداف، وما يُجبَرونَ على انتِهاجِهِ مِن سُلوكٍ في يَوميَّاتِهم؛ وتَسألُ: أينَ غَدَا هؤلاءِ مِن صِفاتِ بَشَرِ الأَمسِ القريبِ، صِفاتِ الآباءِ لا الأجداد، وأينَها أخلاقُهم؟ تَسأَلُ، فلا تَسْمَعُ إجابَةً مِن حَكيمٍ عاقِلٍ غَيْرِيٍّ، وتَستَنتِجُ أنَّ البَشَريَّةَ إِنَّما في الشُّرورِ تَغوصُ، وفي جُذورِ شُرورِها تَنْمو الأَنَوِيَّةُ ويَرْتَعُ الجَشَع!

يتلمَّسُ الله

يُحَدِّثونَك ويُحَدِّثونَكَ، وتَلمُسُ في ما جَرَياتِ الأمورِ ما تَلمُس، وتَكادُ تَيْئَسُ، أو تَيْئَسُ بالفِعلِ، حتَّى تَفْطَنَ إلى أنَّ بينَ البَشَرِ، بَعْدُ، مَن يَسْلُكونَ دَرْبَ الانتِقالِ مِن مَرتَبَةِ البَشَريِّ الغَريزيِّ المُضْطَرِدِ التَّحَيْوُنِ إلى مَرتَبَةِ السَّائِرِ في تَأَنْسُنِه شَطْرَ الإِنسانِ الإِنسانِ مِن طَريق ِ المَحَبَّةِ والخَيْرِ والجَمالِ، والمُرتَفِعِ مِن ثَمَّ شَطْرَ الطَّريقِ والحقِّ والحياة، شَطْرَ تَلَمُّسِ الله!

وإِذ فَطِنْتُ لِلأمرِ بِدَوري، وتَلَفَّتُّ وفَتَّشْتُ، حَلَّ في مِرآتي طَيْفُ مَن سَكَنَ وِجداني برِقَّتِهِ ورَهافَتِهِ وتَواضُعِهِ، تَمامًا كَما فَتَنَني بِمَعرِفَتِهِ وثَقافَتِهِ ورؤيَوِيَّتِهِ وإلهامِه، عَنَيْتُ ضَيْفَ أُمسِيَتِنا السَّاعةَ المُرَبِّيَ والشَّاعِرَ والأخَ إلياس خَليل.

من أهمِّ مَن عرفتُ من مُتَثَقِّفين

أحِبَّتي، الثَّقافةُ، عِندي، تَشْمَلُ كلَّ المَعارِفِ البَشَريَّة؛ وعليهِ، دَرَجْتُ على التَّمييزِ بينَ كَلِمَتَي “مُثَقَّف” و”مُتَثَقِّف”، أو “مُسْتَثْقِف”؛ وغَدا بُلوغُ مَرتَبَةِ المُثَقَّفِ، في عُرْفي، بِمَثابَةِ بُلوغِ مَرتَبَةِ الاتِّحادِ بِالله. وإنِّي لأَجِدُ أنَّ المُحتَفى بِهِ اللَيلةَ، إلياس خليل، هو مِن أهمِّ مَن عَرَفتُ مِن مُتَثَقِّفينَ، كما أنَّ في إيمانِهِ القَويمِ روحيًّا، وانفِتاحِهِ على الآخَرِ، ما يُؤهِّلُهُ مُنذُ الآنَ، لِتَلَمُّسِ الله!

ثُمَّ إنَّ الفارِقَ بينَ الكَلِمِ، أي الكَلامِ، والكَلْمِ، أي الجُرْحِ، تَشكيلُ اللامِ ليسَ إلاَّ. وقد أوتِيَ الخَليلُ إلياسُ جَوامِعَ الكَلامِ في تَعابيرِهِ بِفِعْلِ جَمْعِ الكُلومِ في نَفْسِهِ الحَسَّاسَة، وهي كُلومٌ نَزَفَتْ مِن جَرى تَعاطيهِ مع الغَيْرِ، كما مِن جَرى تَعاطي الغَيْرِ، أيِّ غَيْرٍ، مع الغَيْرِ، كلِّ غَيْر، فحَبَكَتْ يَراعَتُهُ ما سَرى في شُعورِه مِن جِراحِهِ وجِراحِ بَني البَشَر.

لِمِثلِه التَّكريمُ والكُتُبُ

ويا عزيزي إلياس، لمِثلِكَ يُليقُ التَّكريمُ، بَل بِتَكريمِكَ يُكَرَّمُ المُكَرِّمُ. وما زِلْتُ أذكُرُ أُمسِيَةَ تكريمِكَ في “لقاءِ الأربَعاء” بتاريخِ الثَّامن والعِشرينَ مِن شهر نيسان 2010، وكَذا كيفَ كنتَ، على مَدى عَقدٍ كامِلٍ لاحِق ٍ، تُتابِعُ تَفاصيلَ جَلَساتِ ما يَجْري في صالوني الأدبيِّ الثَّقافيّ، حتَّى إذا ما انتَهَتْ وقائِعُ كُلِّ جَلسَةٍ، أَنَظُرُ إليكَ، ودونَما سؤالٍ منِّي، كُنتَ تَرُدُّ بالإيجابِ بِإيماءَةِ رأسٍ، وتَنْبَري في اللَحظَةِ لارتِجالِ أبياتِكَ، مُنْهِيًا اللِقاءَاتِ بحُلَلِ ثَناءٍ قَشيبَةٍ كاسِيًا المُنتَدينَ بِعَسَلِ الكلام.

ولِمِثلِ شِعرِكَ، أيُّها الصَّديقُ، وَجَبَ إصدارُ الكُتُبِ وتوزيعُها بالمَجَّان، و”براعمُ الأفكارِ”، أفكارِكَ، الَّذي نُشِرَ في آذار 2011، بعدما نِلْتَ عن مخطوطِهِ جائزةَ المِتروﭙوليت نقولاَّوُس نعمان للفَضائل الإنسانيَّة، قُلْتُ، “بَراعِمُ الأفكارِ” ذاكَ ما زالَ مِن أروَعِ الكُتُبِ الَّتي نُشِرَتْ مِن ضِمن سلسلةِ “الثَّقافة بالمَجَّان”، والَّتي قارَبَ عددُها اليومَ، وبعدَ أكثَرَ مِن ثلاثةِ عُقودٍ، الأربَعمِئَة.

بِئسَ الثَّقافةُ الحَقَّةُ

كانَ ذلكَ بالأمسِ يا إلياسُ، أمَّا السَّاعةَ فأَجِدُكَ تُرَدِّدُ معي: بِئَسَ مَصيرُ بَلَدٍ أُفْلِسَ شَعبُهُ الطَّيِّبُ لِصالِحِ مجموعةِ أشرارٍ عَفَّ عنهُمُ المَوْتُ؛ أجَل، عَفَّتْ عنهُمُ العدالةُ الأكيدةُ الوحيدةُ في هذه الدُّنيا.

وأيضًا، بِئسَ الثَّقافةُ، الثَّقافةُ الحَقَّةُ، تلك الَّتي غَدَتْ حَبيسَةَ فَقْرِ مادَّةٍ و/أو فَقرِ عَقْل، وسَبِيَّةَ ألقابٍ و/أو دَرَجاتٍ أكاديميَّةٍ وَهمِيَّة، وضَحِيَّةَ نَرجِسِيَّةٍ إلغائِيَّةٍ و/أو عَبَثِيَّةٍ لِمُعظَمِ مَن يَخوضونَ غِمارَها، ورَهينَةَ سَخافَةٍ مُعَلَّبَةٍ في احتِفالاتٍ لِصُوَرٍ وصُوَرٍ لِـ “لَيْكات”، فيما ما مِن مَسؤولَ يَرْعاها، الثَّقافَةَ الحقَّةَ، و/أو يَأخُذُ بنُصْحِ عُقَّالِها. ولكنْ، أَنَيْئَسُ يا خَدينَ الكَلِمَةِ والهَمِّ الإنسانيّ؟ بالطَّبعِ لا، فنحنُ أبناءُ الرَّجاء، والثَّقافَةُ تَعْلو ولا يُعْلى عليها!

وتَذَكَّرْ، يا سَيِّدَ الزَّجَلِ المُرتَجَلِ، وأميرَه، يا مَن جَمَعَ من صِفاتِ الأنسَنَةِ ما أَمكَنَهُ، وصَقَلَها بِالتَّربيةِ والعِلمِ والإرادة، ووصَلَ إلى ما هو فيه شِعرًا ورِقَّةً وكِياسَة؛ تَذَكَّرْ أنَّ أمَلَ مُحبِّيكَ ومُحبِّي فَنِّ الزَّجَلِ الرَّاقي، هو في أن تَتفرَّغَ لقُصاصاتِكَ، ولِمَخزونِ ذاكرتِك، كَيما تَجمَعَ شِعرَكَ، وتَزيدَهُ، وتُتْحِفَنا برائِعِ حِبْرِكَ، وتُغَنِّيهِ للأجيالِ يا دائِمَ الطُّفولَةِ والتَّجدُّد؛ وأنتَ القائِلُ:

الإنسانْ حتَّى يْكَمِّلِ المِشْوار

وما يْضَيِّعِ الإيِّـام مِن جَهْلو

يا رَيْتْ ألله بْيـِخْلَقو خِتْيار

وبيعودْ طِفلْ زْغيرْ عا مَهْلو

تحيَّةُ الاستِحقاق: أكسِيوس ثلاثًا

أحبَّتي، في الخِتامِ، لا بُدَّ من تَحيَّةٍ تُطلَقُ مِن هذا الصَّرحِ التَّربَوِيِّ العَريقِ الَّذي لَطالَما قَبَّلْتُ فيه “ذا الجِدارَ” و”ذا الجِدارا”؛ أجَل، لا بُدَّ مِن تَحيَّةٍ يُطلِقُها أصدقاءُ إلياس خليل القلائِل، وأبناءُ أُسْرةِ آلِ خَليل الكِرام، وبَناتُها الكَريمات، وكَذا يُطلِقُها طَلَبَةُ هذا المُرَبِّي، ويُعَدُّونَ، على مَرِّ العُقودِ، بِالآلاف، ومُحِبُّو شِعرِه وفِكرِه مِمَّن لا يُعَدُّون؛

هي تَحيَّةٌ من الجَميعِ إلى مَن يَجْرؤُ على الاعتِذارِ عن مَسألَةٍ عَرَضِيَّةٍ في زَمَنِ عَدَمِ مُحاسَبَةِ الإجرامِ عن سَبْقِ إصْرار، وإلى الوطنيِّ الَّذي لا لُبنانَ فوقَ لُبنانِهِ، والإِنسانِ الَّذي عاشَ ويَعيشُ خِيانةً مَشروعَةً بِتَساكُنِهِ مع الإِحساسِ المُرهَف؛ وهي تَحيَّةٌ تُطلَقُ، بِخاصَّةٍ، إلى هذا المُحِبِّ المُحِبِّ المُحِبّ، نَقولُ له فيها بِصَوتٍ جَهْوَرِيٍّ واحِد: أَكْسِيوس، أكْسِيوس، أكْسِيوس، وأكثَر؛ أي: مُستَحِقٌّ، مُستَحِقٌّ، مُستَحِقٌّ، وأكثَر!

ودُمْتُم، 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *