نجاة الشالوحي… امرأة في كتاب

Views: 331

 د. سحر حيدر

يقول الأديب جورج غريّب:”الشِعر كلمةٌ تكاد أن تضاهي كلمةَ اللاهوت، والموهبةُ فيه عطيّةٌ من سماءٍ قبل أن تكونَ اكتسابًا من أرض. والشاعِر الحقّ هو الذي لا تنتهي معهُ دراسة مهما وقف خُبراء الحسنِ على شاطئه يستطلعون.

البحر لا يُعبّأ في قُمقم، والغناءُ لا يُحشرُ في وتر، وبساتينُ الوردِ لا تُسجن في مزهرية”.

من المُستحيل أن تعطي مقالةً حول الكتاب “سُلاف حبره” أو تفي الكاتب حق قدره، لذا سأكتفي ببعض النقاط لأخبرُكم عمّا استوقفني عند قراءة ديوان الشاعرة نجاة الشالوحي”ملامح الياسمين”. نعم، الشاعرة وإن كان ذا نتاجها الأول. فالشِعر حِرفةٌ في غاية الغُموض، هو صِناعةٌ وابداعٌ وتسليةٌ وامتاعٌ وحاجةٌ ولغزٌ، وهيامٌ وعِشقٌ، هو باختصار “إنسانٌ في كلمات”. يقول الشاعر جميل الزهاوي (وهو من أعلام الشِعر العربي الحديث- بغداد 1863-1936) “أرفع ما في الإنسان هو العقل، وأرفعُ ما في العقل هو الفكر، وأرفعُ ما في الفِكر هو الشِعر”.

د. سحر حيدر والشاعرة نجاة الشالوحي

 

كم جميلٌ أن يضع الانسانُ هدفًا في حياته، والأجمل أن يُثمرَ هذا الهدفُ طموحًا يساوي طموحكِ أيتها الناجيةُ من براثن التحضّرِ الزائف والتزلُّف الممهور بالعفّة.

أحبتي، أحمل بين أصابعي ووسط تقلّّب أفكاري، صورة امرأة شفيف، سكبت ذاتَها فوق الورق، فكان هذا الوليدُ الذي اختارت له عنوانًا، ما إن يصِلكَ، حتى تهُبّ عليك ريح الوفاء وتتسلّل تحت مسام جلدك ذرّات البرّ والإنسانيّة والوطنيّة، فتبدأ روحك بالدوران في فلكٍ ثلاثي الابعاد، من أول كلمةٍ حتى آخر حرف. أبعادٌ  قوامها الوطن والإنسان والنفس البشرية. شغفٌ محبوكٌ بلغةِ قلبٍ مُفعمٍ بالوطنيّة، ونفسٍ مُشبعةٍ بالأُمومة، وعقلٍ يحكُمه الحُبّ وتأسُره العيون العاشقة.

الشِعر عند نجاة الشالوحي، حسٌ نابعٌ من أعماق روحها الوطنيّة الإنسانيّة، نقطة البداية، إحساسٌ توسّعت فيه، فكان في آونةٍ خيالًا ومرّة وصفًا.

صورُها إبداعٌ شِعري يُترجم مخزونًا مشهديًا تراكمت أجزاؤه عبر فترات نفسية وزمنيّة في ذهنها، حتى أتت اللحظة الحاسمة التي تحرّرت فيها من ذاتها وانفجرت فخلّفت وراءها لوحةً زاهيةً بألوان اللغة البسيطة، المتأصلة في عمق أعماقها، لغةٌ وصوتٌ لا يدرك روعتهما إلا الحسّ المرهف، فتثير في المُتلقي/ القارئ/ مشاعرَ الإعجاب والدهشة.

كتاباتها رسالة عمرٍ، معروكةٌ بالحبّ مجبولةٌ بالصدق وعَرَقِ الانوثة الرافضة لكلِّ ظلمٍ وانكسارٍ ورضوخ.

 

تلملم قضايا مجتمعها، تُشيرُ إلى مكامن الخلل والوجع والنزف، تجسّد إنسانيتها من دون خوفٍ حين تبدأ بقراءة ذاتها على غرار ما قاله جلال الدين الرومي:” لا يزال المرء أميًا حتى يقرأ ذاته، ولن يقرأ المرء ذاته حتى يقال لقلبه “اقرأ”… نجاة الشالوحي، تكتب ذاتها وترقى بنا إلى قِيم الحُبّ الوطني النقيّ وتجسد لنا وطنًا كادت معالمه تتلاشى، لولا شهامة أولئك الذين تسلّقوا سلالم الخُلود ورسموا خريطة الوطن، بين عناق خنجر ونزف القدر. وطنٌ مجروح، ترابه دموعٌ مقدّسة، جروحه تنزف الأماني. تقلّب صفحاتِ حياتِها بين محطةٍ وأخرى، ترتشفُ القهوة المرة وتستجمع طرفيّ الزمن في كفيها، وتسأل عن أُمومةٍ ذابت في مُحيط عينيها. ترى الوجود من خلال ملامحها وتشتمّ عطرها وتلملم الشوقَ من دمعِ زنبقةٍ فاح أريجها الخالد.تبحث عن رجلٍ يتماهى وصورة الياسمينة التي فقدتها، يحضّر لها الفُطور والشاي ويمشّط ضفائرها. تناجي ذاك الرجل، تحبّه تارة وترفضه أخرى. نعم تتقلب الكاتبة بين قَبولٍ ورفضٍ.

رجلٌ يحنو عليها ويحيا معها أنوثتها، فنسمعها تخاطبه قائلةً:” يا حُبي، قلبي هائمٌ بعشقك وأنوثتي ملك يديك (ص.43) من ثمَّ تثور على ذلك المُغامر المنتقل من واحدةٍ إلى أخرى، ترفض عواطفه.

الأديبة ميراي شحاده والشاعرة نجاة الشالوحي

 

نعم، نجاة العاشقة، تُخبرنا عن مملكة عشقها، عن حبٍ قبل التكوين. عشقها دينها تسمعها تناجيه بقولةٍ صريحة:” إنك تحتلّ كلَّ أجزائي، فغرامُك ديني وعشقك مملكتي”… غير أنها تتمرّد وتعود لتهدده وتقول: “سأمحوك من عالمي وأمحو معك كلّ أصناف الرجال”.

“ملامح الياسمين” ثورة امرأةٍ عاشقةٍ، يجتاحها الحنين، ترفُض تلك الطقوس البالية وتحملُ شُعلة الانتفاضة، تُناشد العقول النيّرة في قصيدة “قيودٌ همجيّة” حين تفصح عن تحررها من سجنها إذ تقول:

اليوم هو انتصاري على تقاليد همجية                       اليوم ولدتُ من رحم الحرية

فزغردتِ النجوم واحتفلتِ الكواكب                           بانتفاضة امرأةٍ عانت دهرًا من طغيان الذكورية

فويلٌ لأمةٍ تُقدِّس العبودية                                              وتطعن بخبثٍ الحرية

وتجلدُ نساءها بسياطِ التقاليد البالية.

أحبتي، لكلّ مبدع إنجاز، ولكلّ إنجاز تحايا، ولكلّ مقام مقال ولكلّ نجاح شكر وتقدير،

لذا أسمحوا لي باسمكم جميعًا أن أتوجه بالشُكر إلى التي حاربت وساهمت الكثير مِن أجل نشر ثقافة الكلمة ومُساندة من يُحبّرون الأوراق بنتاجهم وفكرهم، إلى ابنة الكورة، سليلة الادب، البارّة الوفية، المُهندسة الراقية الصديقة ميراي عبد الله شحاده التي رعت واحتضنت هذا الديوان حتى كانت ولادتُه المُشرّفة.

 

وكما أن للنجاح أناسًا يقدّرون معناه، وللإبداع أناسًا يحصُدونه، لذا أتوجه إليكم جميعًا

أستاذة نجاة الشالوحي، د. شربل جرمانوس، الشاعر نعمان الترس، أيها الحضور الكرام وأقول:

 طوبى لمن بذر البذور ورواها حُبًا وحُنوًا ورعاية وفرحًا

طوبى للتي حملت ريشتَها ودواتها وحفرت فوق أديم السماء كلمة حقّ تُثلج القلوب حملتنا إلى العلاء

طوبى لكم أيا دُعاة الكلمة وحاضنيها وداعميها على ما سكبتموه من قوتٍ مقدّس لعقولنا وافئدتنا

طوبى لكُم أنتم يا محبي الثقافة والفِكر على حضوركم الذي غلّف المكان بالمحبة الصادقة والوفاء النادر…

الشاعرة نجاة الشالوحي

 

مع موسم الحصاد وتزامُنًا مع صاحبة العيد المكرّمة “سيدة الحصاد ” التي باركت وما زالت تُبارك نتاجنا وزرعنا، أناشدك أيتها الرافلة بثوب البياض العابق بريح الياسمين ألا تفلتي القلم، بل اسكبي ما شاء الله لك أن تكتبي، شعرًا وزهرًا وصدقًا يعبَق في روابينا،

بكم وبأمثالكم يفخر لبنان وبفضلكم يستعيد أنفاسه ومجده وسحره.

 ***

*ألقيت   في حفل توقيع ديوان “ملامح الياسمين ” للشاعرة نجاة الشالوحي ( منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي) – أصنون- زغرتا 18/ 5/ 2024.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *