قِراءَةٌ في كِتابِ «يَسكُنُونَ أَعالِي الحَنِين» لـ شَوقِي ساسِين
مُورِيس وَدِيع النَجَّار
شَوقِي… يَراعُكَ مِن شَوقٍ عُصارَتُهُ،
يَنمُو الأَقاحُ نَدِيًّا حَيثُما سَكَنا
ومِنهُ، في الصُّحُفِ الغَرَّاءِ، طابَ لِمَن
يَهوَى الحُرُوفَ، شَذا نَوْرِ الرُّبَى وجَنَى
نَلقاكَ هَنَّا، وفي «عالِي الحَنِينِ»، فَإِذ
إِعجازُ فَنٍّ، وبَدْعٌ بِالسَّنا عُجِنا
اللهُ… كَم رَصْفُكَ العالِي يَطِيرُ بِمَن
سِحْرُ الكِتابَةِ في أَوصالِهِ كَمَنا
لا جَفَّ، عِندَكَ، في تَسطِيرِهِ، قَلَمٌ
ما كَلَّ يَومًا، على عُمْرٍ طَوَى، وعَنا!
***
شَوقِي ساسِين…
وَفَدَ على لُغَتِنا فَحَرَّكَ الكَثِيرَ مِن آسِنِها، وأَسبَغَ عَلَيها مَطارِفَ أُلْبِسَتْها مع كِبارٍ تَوالَوْا عَلَيها، ثُمَّ غَزاها الشُّحُّ فَراحَت تَحِنُّ إِلى أَقلامٍ جَعَلَتها عَرُوسًا «يَشتَهِي المَلِكُ حُسنَها».
فِيهِ مَلَكَةُ الأَداءِ المُعجِزِ على الصَّفَحاتِ والمَنابِر. يَشُدُّ القارِئَ والسَّامِعَ، فَلا تَثاؤُبَ في حَضرَتِهِ، ولا ضِيقٌ أَو سَأَمٌ، بَل تَحَرُّقٌ إِلى مَزِيدٍ مِن سَهْلِهِ المُمْتَنِعِ، وثَقافَتِهِ الَّتِي تَندَرِئُ كَساقِيَةٍ على حَصْباءَ ناصِعَةٍ في مُنبَسَطٍ أَخضَر.
هو حالَةٌ أَدَبِيَّةٌ نادِرَةٌ تُعَطِّرُ رُبُوعَنا الثَّقافِيَّةَ بِعَبِيرِ لُغَةٍ مِن أَجمَلِ ما أَبدَعَ الإِنسانُ في تارِيخِهِ الطَّوِيل!
***
جاوَرَ عُمرِي، في طُولِهِ، ما جاوَرَ، وما فَرَّطتُ فِيهِ بِيَومٍ واحِدٍ لَم أَقرَأْ، خِلالَهُ، لِأَقلامٍ تَفاوَتَت أَحجامُها، تَناوَلَتِ الأَدَبَ والشِّعرَ على وُجُوهِهِما المُختَلِفَة. وكانَت أَجمَلُ ساعاتِي تِلكَ الَّتِي أَحظَى فِيها بِكِتابِ أَدَبٍ يَرْقَى أُسلُوبُهُ إِلى مَنافٍ عالٍ، وتَصلُبُ عارِضَتُهُ، وتَرِقُّ صُوَرُهُ وتَشِفُّ، فَأَنا، بِصُحبَتِهِ، في عَرِينِ النَّشوَةِ، وخُمارِ الإِبداع. وأَنا، بِحَقٍّ، مِن مَذْهَبِ الشَّاعِرِ أَبِي الفَتْح البَستِي القائِل:
إذَا مَرَّ بِي يَومٌ وَلَم أَتَّخِذْ يَدًا وَلَم أَستَفِدْ عِلمًا فَما ذَاكَ مِن عُمرِي!
وفِي مَسِيرَتِي المَدِيدَةِ هذهِ، مع الرِّقاعِ الوِضاءِ، والأَرياشِ الخَلَّاقَةِ، تَحَقَّقَ لِي – ولا مُجامَلَةَ في الأَمرِ – أَنَّ أُسلُوبَ صاحِبِي يَتَرَبَّعُ في القِمَّةِ مع أَمثالِهِ مِن كِبارٍ سَدَنَةِ العَرَبِيَّة.
ثُمَّ إِنَّ في سَمْتِي أَنْ أَقرَأَ وقَد أَشرَعْتُ مَصارِعَ الحَنايا، وأَقفَلتُ على النَّواجِذِ، فَلِلجَمالِ الحَقُّ أَنْ يُقَرَّ بِهِ ويُنشَرَ، فَيَروِي العُيُونَ العِطاشَ إِلى الحُسْنِ، ويُبهِجَ القُلُوبَ الَّتِي تَتَحَسَّسُ الرِّقَّةَ، ويُحَرِّكُها الوِجدانُ، وتَأسُرُها الكَلِمَةُ الدَّافِئَة. أَقُولُ هذا، وقد عَفَفْتُ عَن كُلِّ مُحاباةٍ، وهل كانَ التَّملِيقُ والمُوالَسَةُ إِلَّا تَجَنِّيًا على الحَقِيقَةِ، ومُناصَرَةً لِلدَّجَلِ والرِّياء؟!
***
مع هذا الأَلمَعِيِّ تَتَشَوَّقُ لِلقِراءَةِ، وتَتَشَوَّفُ إِلى مُرَقَّشاتِهِ في مَظانِّها، وهذا الشُّعُورُ، حَيثُ يَتَوَفَّرُ، تَكُونُ القِبْلَةُ ضِياءً، وأَمَلُ اللُّقُياتِ مُحَقَّقًا.
كِتابَتُهُ مُنَزَّهَةٌ عَن الابتِذالِ، مُجانِبَةٌ لِلسَّفسافِ، تُصِيبُ الهَدَفَ بِأَقصَرِ الطُّرُقِ وأَشَعِّها، وأَطيَبِها نَسائِمَ، وذلكَ بِأَدَقِّ التَّعابِيرِ، وآنَقِ الكَلِمِ، وأَشَفِّ الخَيال.
تَقرَأُهُ، فَلا مَلالَةَ، بَل شَجْوٌ يَعتَرِيكَ إِمَّا خَتَمتَ الرِّحلَةَ مَعَهُ في مُشرِقِ البَيانِ، وعَبِيرِ المِداد.
مِن مِيزاتِ أَدَبِهِ، في كُلِّ مُناسَبَةٍ، عَفَوِيَّتُهُ الصُّراحُ، الَّتِي لا تَنقُصُها البَلاغَةُ الضَّافِيَة. أَمَّا حِينَ يُرَصِّعُ حُقُولَهُ بِالشِّعْرِ فَقُلْ قِيثارَةٌ تَطِيرُ بِاللَّحْنِ، وعِباراتٌ تُنسِيكَ طَعْمَ الشَّهْدِ وعَرْفَ المُرُوجِ. إِنَّهُ، بِحَقٍّ، كَبِيرٌ في مَحْفِلِ الأَقلامِ، تُرفَعُ لَهُ القُبَّعاتُ، وتُتَمَزَّزُ الأَنخابُ، وتَلتَهِبُ الأَكُفُّ بِالتَّصفِيق.
فَهَنِيئًا لَكِ، يا كُورَتِي الحَبِيبَةَ، بِابنِكِ البارِّ هذا، ورَدِّدِي ما شِئْتِ: «هذا هو ابنِي الحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْت».
***
وإِذْ نَحنُ في تَعاطٍ مُباشَرٍ مع مُحامٍ لا يَزِيحُ عَنِ الحَقِّ فَتِيلًا، فَإِنَّنا سَنَتَوَكَّلُ بِأَمْرِ مَن دَيدَنُهُمُ الهَمْزُ واللَّمْزُ، ونَطرَحُ شَكواهُمُ ومَفادُها: وَرَدَت أَلفاظٌ تَمُجُّها الذَّائِقَةُ الجَمْعِيَّةُ، كَــ «بَلْهَ» (ص 116)، وَ «رَضْراض»، وَ «أَهَريقُ» (ص 180)، وَ «سَتَعصَوْصِبُ»، وَ «فاغِيَة» (ص 153)، وَ «قُلّ وَلَحّ وَمَحّ» (ص 188)، وَ «أَنضاء» (ص 197)، وَ «بَراح» (ص 208)، وَ «تَتَرَدَّن» (ص 252). وتَخَلَّلَ السَّردِيَّةَ تَراكِيبُ تَفُوتُ الكَثِيرِينَ، كَــ «فَأَزوِي نَفسِي عن نَفسِي» (ص 180)، مِثالًا لا حَصْرًا. فَما عُذْرُ مُؤَلِّفِنا في هذا؟!
وهُنا، نَنضُو عَنَّا لِباسَ «مُحامِي الشَّيطانِ»، ونُجِيبُ بِلِسانِنا كَمُتَذَوِّقِي أَدَب: قد يَكُونُ في دَعواهُمُ بَعضَ حَقٍّ، وتَكُونُ هذه الــ «بَلْهَ» – كَما أَخَواتُها – في الدِّيباجَةِ المُونِقَةِ، حَصاةً سَنِينَةً على شاطِئِ رَمْلٍ ذَهَبٍ يُظَلِّلُهُ نَخِيلٌ وَرِيف…
ولكِنَّ هذا الطَّارِئَ يَجُبُّهُ نَسِيجٌ شاسِعٌ مِن بَدِيعِ لُغَةٍ رَشِيقَةٍ عَذْبَةٍ آسِرَةٍ، مَحبُوكَةٍ حَبْكَ الزَّرَدِ في دِرْعٍ داوُودِيَّةٍ مُحكَمَةِ الصَّنعَة.
وظَنُّنا أَنَّ مَنْ يَجِدُ ضَعْفًا في هذه الأَلفاظِ والتَّعابِيرِ، لَيسَتِ العَرَبِيَّةُ مِن زادِ أَيَّامِهِ، ولا تَرُجُّ جَمالاتُها جَوارِحَهُ المُتَبَلِّدَةَ، حِينَ هي مِن صُلْبِ الأَدَبِ لِلَّذِينَ تَعِيشُ اللُّغَةُ في حَناياهُم، وتَنبُضُ في شَرايِينِهِم. وهي دَمٌ جَدِيدٌ يَرفِدُ ما استَهلَكَتهُ الصَّحائِفُ وعَرَّتهُ مِن دَهشَتِهِ البِكْرِ بِالاستِعمالِ المُتَكَرِّر. ونُذَكِّرُ بِقَولِ المُتَنَبِّي:
وَلَكِنَّ الغُيُوثَ إِذا تَوالَت بِأَرضِ مُسافِرٍ كَرِهَ الغَماما!
***
نَحنُ قُرَّاءَهُ، مِن رَفِيعِهِ نَتَلَقَّف:
«الدَّمعُ أَوَّلُ شَيءٍ فِينا وآخِرُ شَيءٍ لَدَينا. إِنَّهُ هَفِيفُ الضَّوءِ على أَقمِطَةِ الفَجرِ، ونَزِيفُ الذِّاكِرَةِ إِذا جَرَّحَها الشَّوقُ إِلى الماضِيات» (ص 32).
وهل آنَقُ، وأَرقَى صِياغَةً، مِن قَولِه:
«وتَرَكتُ القَلَمَ على سَجِيَّةِ حِبْرِه. فَأَخَذَ بِأَنامِلِي الثَّلاثِ إِلى صَفحَةٍ مِن عَتِيقِ الذَّاكِرَةِ عَبِثَت بِمَتنِها السَّنَواتُ وعَفَّى هَوامِشَها مَشِيبُ اللِّمَّتَيْن» (ص 199).
ونَستَزِيد:
«وُجُوهٌ تَنَزَّلَت غُضُونُها على القَلَمِ فَآبَت مِنَ السَّفَرِ البَعِيدِ، وانساحَت مع الحِبْرِ نَضْرَةً نَقِيَّةً، حَتَّى كِدْتُ عِندَ لِقائِها، على جَهلِي بِها، آخُذُها بِالذِّراعَينِ ضَمًّا، وبِالشَّفَتَينِ تَقبِيلًا، وأَلمَحُ فِيها سَحْنَةَ جَدِّي وقامَةَ جارِهِ، وَوَعْثاءَ فَلَّاحٍ ارتاحَت إِلَيهِ الأَرضُ حَتَّى استَراحَ فِيها، وحِجارَةً تَقَوَّسَت على سَواعِدَ تَرفَعُها وتَنهَدِمُ، ودُرُوبًا لَزِجَت تُربَتُها وتَشَقَّقَت فَوقَها الأَقدام» (ص 33).
ومِن بَدِيعِهِ نَقرَأُ بَيتَينِ قالَهُما ذاتَ سانِحَةٍ، وتَفَوَّقَ بِشِعرِيَّتِهِما على الشِّعْرِ، وأَثبَتَ أَنَّهُ حِينَ يَنتَضِي القَلَمَ فَالعَبقَرِيَّةُ ظَهِيرَتُهُ، والجَمالُ مِدادُه. يَقُول:
نَزَحُوا ولَم يَتَوَسَّدُوا أَسماءَها
فَتَتَبَّعَتهُم في المَنافِي الدَّارُ
وغدوا لها وطنا ففي أضلاعهم
تبنى البيوت وتورق الأشجار (ص 137).
أَدِيبُنا عاشِقُ جَمالٍ مُتَيَّمٌ، ناذِرٌ لَهُ تِبْرَ الوَقتِ، ساجِدٌ في مِحرابِهِ أَبَدًا، مُنْحَنٍ لَهُ أَنَّى وُجِدَ، مُنتَشٍ بِلُقياهُ انتِشاءَ الحَبِيبِ بِالحَبِيبِ، مُحْتَفٍ بِهِ إِنْ كانَت مُرُوجُهُ زَواهِرَ عَبِيقَةَ النَّشْر. وهذا يُلمَسُ مَدَى سِفْرِه. فَفِي دِراسَتِهِ عَن الشَّاعِرِ الياس خَلِيل زَكَريَّا (ص 36)، أَتحَفَنا مِنهُ بِثُنائِيَّاتٍ جَمِيلَةٍ مَعْنًى وتَركِيبًا وجَرْسَ وَزْن. مِنها، تَمثِيلًا:
عَتَّقتُ عُمرِي في الزَّمانِ فَلَم يَطْبْ
عُمرِي ولا صَفَّى الزَّمانُ خُمُورِي
وسَكَبتُ أَشرَبُ والزَّمانُ عُلالَتِي
ولَهَوتُ أَكتُبُ والزَّمانُ سُطُورِي
فَلَم يَعْبْ ثُنائِيَّتَهُ تَكرارُ «الزَّمانِ»، لِما فِيهِ مِن حَنِينٍ وأَبعادٍ وكَآبَةٍ رَقِيقَةٍ، ولِما حَمَلَت مِن تَجرِبَةٍ وُجُودِيَّةٍ تُلامِسُ كُلَّ مَن اتَّخَذَ القَلَمَ خَدِينًا ونَجِيًّا.
وتَمجِيدًا لِلحَرفِ، وتَروِيجَ انتِصارِهِ في مَعرَكَةِ الحَياةِ، يُخاطِبُ أَبا تَمَّام:
قُلْ لِي: أَسَيفُكَ أَم كِتابُكَ أَصدَقُ
هَوَتِ السُّيُوفُ وأَنتَ فَوقُ مُحَلِّقُ
بَلِيَ الحَدِيدُ على الحَدِيدِ ولَم يَدُمْ
إِلَّا جَناحُكَ والبَيانُ المُشرِقُ
ويَتَغَزَّلُ بِشَعْرِ امرَأَة:
جَدِّلِيهِ بِالياسَمِينِ وبِالوَردِ
وهُلِّي مُلتَفَّهُ المَعقُودا
خُصْلَةً خَصْلَةً كَأَنَّ الدَّوالِي
نَسِيَت حَولَ خَصْرِكِ العُنقُودا!
***
ونُراوِدُ صَدِيقَنا في تَصدِيرِهِ لِمَقطُوعَةٍ نَثرِيَّةٍ لِلشَّاعِرِ الياس زَخَريَّا (ص 63)، لا تَمُتُّ إِلى المُوسِيقَى والإِيقاعِ بِصِلَةٍ، قائِلًا: «لَم يَكُفَّ عَن كِتابَةِ نُصُوصٍ مِنَ الشِّعْرِ المَنثُور»، فَنَسأَلُهُ بِإِخلاص: هَل هو على قَناعَةٍ بِأَنَّ هذا مِنَ الشِّعْرِ، أَم إِنَّها مَوجَةٌ عَمَّت وطَغَت، وباتَ مِنَ البَدِيهِيِّ الاعتِرافُ بِها، والتَّعامُلُ مَعَها؟!
وهو مَن هو في كِتابَةِ الشِّعرِ العَمُودِيِّ، حَيثُ إِبداعُهُ خالِصٌ، وانتِقاءُ بُحُورِهِ وأَوزانِهِ مُوائِمٌ لِلفِكرَةِ المَطرُوحَةِ، وأَلفاظُهُ تَحمِلُ في جَسَدِها الرَّخْصِ عُمْقَ الدَّلالَةِ، ورَخامَةَ النَّغَمِ، وهو عَنِ النَّظمِ البَلِيدِ بَعِيدٌ كُلَّ البُعْدِ، ومع الصِّناعَةِ على ذَكاءٍ مُتَوَقِّد.
وهو، آنَ يَرُودُ شِعْرَ التَّفعِيلَةِ، فَمُوسِيقَى الإِيقاعِ في رَأْسِ اهتِمامِهِ، تَتَراقَصُ عَلَيها الحُرُوفُ، وتَغْنَى بِها نَشْوَةُ المُتَلَقِّي. وهو في بَثِّ الصُّوَرِ سَخِيٌّ مُعَلِّمٌ حُنُك.
وإِذ تَقَدَّمتُ في قِراءَتِي الكِتابَ وَقَعتُ، على رَأْيٍ صَرِيحٍ لِشاعِرِنا يَقُضُّ عَتْبِي عَلَيهِ، وتَساؤُلِي الاستِنكارِيَّ، في ما يَخُصُّ «الشِّعْرَ المَنثُور». يَقُول: «فَأَنا لا أُحِبُّ أَن يُسَمَّى ما لَيسَ بِمَوزُونٍ شِعْرًا […] ولا أَجِدُ غَضاضَةً في أَن نُسَمِّي النَّثْرَ بِاسمِهِ، والشِّعْرَ بِاسمِه» (ص 147).
ويُثَنِّي بِالآتِي: «هذا النَّوعُ مِنَ الكِتابَةِ المُرسَلَةِ، الَّذِي سَمَّاهُ أَلبِير أَدِيب فِيما مَضَى “الشِّعْرَ الطَّلْقَ”، أُحِسُّ بِأَنَّهُ لَدَى قَوْمٍ تَعوِيضٌ عن قُصُورٍ تُراثِيٍّ، لُغَوِيٍّ أَو عَرُوضِيٍّ أَو مَعرِفِيٍّ، وأَنَّهُ انتِماءٌ شَكْلِيٌّ إِلى ثَقافاتٍ سائِدَةٍ وافِدَة» (ص 145).
على أَنَّنِي لَن أَحذِفَ ما سَبَقَ وأَدلَيتُ بِهِ، فَمُعالَجَتِي لِكِتابِ صَدِيقِنا هي خَواطِرُ أُسَجِّلُها تَوازِيًا مع قِراءَتِي، ولا بَأْسَ في الاحتِفاظِ بِما ذَكَرتُ، إِذ نِيَّتِي إِبلاغُ القارِئِ رَأْيِي الشَّخصِيَّ في هذه المَسأَلَةِ الَّتِي استَنفَدَت حِبْرًا مَدَدًا، وأَوقَدَت مُساجَلاتٍ نارِيَّةً، ما زالَت مُستَعِرَةً مُنذُ أَربَعِينِيَّاتِ القَرنِ العِشرِينَ، وقد تَخَلَّلَها شَتائِمُ وعَذْلٌ وإِلغاء…
وأَخالُ صَدِيقِي يَحدِجُنِي بِنَظرَةِ العاتِبِ ويَقُول: وَيْحَكَ… أَتَشُكُّ بِصِدقِيَّتِي، وتَظُنُّنِي نَكَصْتُ على ما عَهِدتَ عَنِّي؟!
***
يَقُولُ صاحِبُنا المُحامِيُّ (ص 143): «بَيْدَ أَنِّي خِلافًا لِهذا الاعتِقادِ تَصَدَّيتُ، أَنا ذاتِي، مَرَّاتٍ عَدِيدَةً لِما يَخرُجُ عَن اختِصاصِي [المُحاماة] فَأُقحِمْتُ أَو أَقحَمْتُ نَفسِي في دِراسَةِ كِتابٍ أَو في نَقْدِ أَثَرٍ أَدَبِيٍّ، مِن غَيرِ أَن تَكُونَ لِي مَعرِفَةٌ بِالمَذاهِبِ النَّقدِيَّةِ وأُصُولِها وتَفَرُّعاتِها، فَأَنا لا أَملِكُ مِن عُدَّةِ هذه الصَّنْعَةِ شَيئًا، ولَيسَ لِي ذائِقَةٌ تُسَجِّلُ انطِباعاتٍ شَخصِيَّةً قد تُصِيبُ وقد تُخطِئ».
صَدِيقِي…
أَنا أُخالِفُكَ الرَّأْيَ، فَمَتَى كانَتِ المَدارِسُ النَّقدِيَّةُ المِعيارَ الصَّحِيحَ الأَوحَدَ لِتَقوِيمِ عَمَلٍ أَدَبِيّ؟! وهل الاختِصاصُ شَرْطٌ لازِبٌ لِهذِهِ المَهَمَّة؟!
أَما كانَ مارُون عَبُّود ناقِدًا يُحسَبُ لِقَلَمِهِ أَلفُ حِسابٍ، مِن دُونِ أَن تَكُونَ عُدَّتُهُ البِنيَوِيَّةُ أَو الانطِباعِيَّةَ أَو الأُسلُوبِيَّةَ؟!
ومِيخائِيل نُعَيْمَة أَثارَ، وما يَزالُ، بِكِتابِهِ النَّقدِيِّ «الغِرْبال»، بُحَيرَةَ الأَدَبِ، وما تَوَكَّأَ قَطُّ على السِّيميُوطِيقا، أَو التَّفكِيكِيَّةِ أَو المَوضُوعاتِيَّة.
وهَل كانَ الشَّيخُ ابراهِيم اليازِجِيّ باحِثًا مُتَخَصِّصًا في المَنهَجِ النَّفسِيِّ أَو الاجتِماعِيِّ أَو التَّكامُلِيِّ؟!
والمُحامُونَ الأُدباءُ الأَفذاذُ أَمِين نَخلَة والشَّيخُ ابراهِيم المُنْذِر وعَبدَالله لَحُّود وغَيرُهُم كَثِيرُونَ – وأَنتَ رَصِيفُهُم في الإِبداعِ -، هل حُرِّمَت عَلَيهِم ساحَةُ النَّقدِ، أَو أُقصُوا عَن حِياضِها المَصُون؟!
ثُمَّ، أَلَيسَ النَّقْدُ »أَن نَشعُرَ ونُخبِرَ عن شُعُورِنا»، كَما رَأَى النَّاقِدُ سانت بوف (Sainte-Beuve)؟!
لا يا صَدِيقِي…
أَنتَ المُحامِيُّ اللَّامِعُ، ما أَخفَتَتِ المُحاماةُ بَرِيقَكَ في مَيدانِ الأَدَبِ والشِّعْرِ والنَّقْدِ، بَل كَتَبَ القَومُ اسمَكَ مع الكِبارِ وأَساطِينِ الكَلِمَةِ، وظَنِّي أَنَّكَ تَعرِفُ قَدْرَكَ جَيِّدًا، ولكِنَّكَ تَسُوقُ هذا التَّساؤُلَ تَواضُعًا، ولَفْتًا لانتِباهِ قارِئِكَ، وسامِعِكَ حِينَ أَنت على مِنْبَرٍ تَهتَزُّ خَشَباتُهُ طَرَبًا بِوُجُودِكَ، وكِبْرًا بِكَ وقد شَدَدتَ الأَسماعَ والأَبصارَ إِذ رُحْتَ تَتلُو مَزامِيرَكَ مِن على سَنامِهِ العالِي…
وفي هذا المَعرَضِ نَذكُرُ ما قالَهُ الدّكتُور جُبرائِيل جَبُّور: «لا! لَيسَ هُناكَ مَنهَجٌ في النَّقدِ إِنَّما المَنهَجُ هو النَّاقِدُ وباطِلَةٌ هي المَناهِجُ كُلُّها وَالأُصُول»!
***
مِن نافِلٍ الإِشارَةُ إِلى ثَقافَةِ أَدِيبِنا الواسِعَةِ، الَّتِي يُوَظِّفُها في المَكانِ المُناسِبِ مِن نَصِّهِ، وهي تَشمُلُ تُراثَ الفِكرِ عامَّةً، والقُرآنَ الكَرِيمَ بِما في آياتِهِ مِن رَوعَةِ اللُّغَةِ وأَبعادِ العِظَة خاصَّةً. وأَمَّا سَلامَةُ لُغَتِهِ فَحَدِّثْ ولا حَرَجَ، فهو أُستاذٌ يُحتَذَى بِهِ، وكاشِفٌ عَمَّا في ضادِنا مِن إِمكاناتِ الخَلْقِ والاشتِقاقِ والتَّولِيفِ، وهي العَصِيَّةُ الَّتِي لا تُسلِسُ قِيادَها إِلَّا لِفُرسانِها الأَصائِل.
كَما تَشُدُّنا طَرافَتُهُ وظَرفُهُ، ولَمْحُهُ الرَّقِيقُ النَّافِذ. حَتَّى في انتِقادِهِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَنَسِيمِ البَرارِي، ناعِمٌ كَكَمائِمِ الوَرْدِ، مُحَبَّبٌ، لا يُجَرِّحُ ولا يَشمَتُ، بل تَنضَحُ مَلامَتُهُ بِالصَّداقَةِ والمَوَدَّةِ والإِخلاصِ، فَتُتَقَّبَلُ بِالصَّدْرِ الرَّحْبِ، وافتِرارِ الشِّفاه!
***
صَدِيقِي
عَرَفتُكَ شاعِرًا مُبدِعًا مَثَلًا لِكُلِّ طالِبِ إِبداعٍ، وأَدِيبًا فَذًّا لا يُشَقُّ لَهُ غُبارٌ، جَذَّابًا في كَلِمَتِهِ، آسِرًا في بَلاغِه.
واليَومَ، في رِحلَتِي مَعَكَ، وأَنتَ تُعالِجُ أَعمالَ الآخَرِينَ، وتَتَناوَلُهُم بِالتَّشرِيحِ، أَدرَكتُ، بِاليَقِينِ الأَبلَجِ، أَنَّكَ مُهَندِسُ حُرُوفٍ، ذَوَّاقَةٌ مِنَ الطِّرازِ الأَوَّلِ، وناقِدٌ لا تَفُوتُهُ إِشارَةٌ في ما يَقرَأُ، ولا يَغِيبُ عَنهُ رَمْزٌ مَهما استَبهَمَ، ولا إِحالَةٌ مَهما استَغلَقَت.
عِندَما يَتَرَجَّحُ اليَراعُ بَينَ مِقْبَضٍ ومَنْبِضٍ، تَتَداعَى الحُرُوفُ في صُفُوفٍ رَصْفُها جَمالٌ، ونَبْضُها وِجدانٌ دافِقٌ، وفِتنَتُها آسِرة، وهذهِ حالُ صاحِبِي.
ويَومَ يُنفَخُ في البُوقِ، وتُنصَبُ المَيازِينُ، في مَحكَمَةِ الأَدَبِ الرَّاقِي، تَفْرُزُ الغَثَّ عن الثَّمِينِ، يَبرُزُ بَدْعُهُ وَضَّاحَ الطَّلَّةِ عالِيَها بَينَ أَقرانِهِ في مُجتَلَى الخُلُود.
رافَقتُكَ في سِياقَتِكَ الطَّرِيَّةِ، فَانتَعَشتُ كَأَنْ في صُبْحٍ رَبِيعِيٍّ، فَعَلَى مِنبَرِكَ يَعذُبُ المِقْوَلُ، وعلى رِقاعِكَ يَطِيبُ المَقُول. ونَعِمْتُ في رِياضِكَ، في نَداك المُنعِشِ، وخُضرَتِك الزَّهراءِ، وعُدْتُ وسِلالي حَبالَى بِكُلِّ لَوْنٍ وطَعْمٍ وأَرِيج.
نَعَم صَدِيقِي
مَدَى يَراعِكَ يَختالُ الخَيالُ على
بِساطِهِ، ورَفِيفُ البَدْعِ يَنهَمِرُ
بِساطُها الرِّيحُ وَلَّى عَن ذَواكِرِنا،
لكِنْ بِساطُكَ باقٍ لَيسَ يَندَثِرُ
سَلِمْت!