سجلوا عندكم

الصراخ في زمن تفكك الجمهوريات

Views: 171

د. جان نعوم طنوس

صرخة في واد، ونفحة من رماد 

لا يمكن تغيير الخارج ما لم يتغيّر الداخل اولا، خذ مثلا الثورات التي اجرت الدماء انهارا، وماذا كانت النتيجة؟ حل استبداد جديد أكثر عتوا وإجراما من الاستبداد القديم. كما حدث مع الثورة البلشفية (الشيوعية) وكانت أكثر بطشا بخصومها وحتى شعوبها من الطغيان القيصري.

وفي هذا الإطار من رابع المستحيلات أن يتغيّر الوضع في “الجمهوريات اللبنانية”، الملتصقة على بعضها بعضا التصاقا، إلا إذا تبدلت عقلية الشعوب اللبنانية، فكفت عن عبادة البشر، وتوجّهت الى عبادة الله الحقيقي، وهو الاله الذي يهيب بها الى اكتشاف الحقيقة حقيقة الظلام في نفوسنا وعند الاطراف الأخرى، وبدلا من السب والشتم والنكايات وتشويه صورة الآخر المختلف، علينا معرفة نفوسنا بنفسنا، والا وصلنا المعرفة جاهزة من خلال الوسائل الإعلامية كلها، فأصبحنا، وليعذرني القارئ على هذا التعبير، كمن يعيش في قن دجاج، دأبنا الفخر الأجوف، من دون أن نفعل شيئا ذا جلال، اضافة إلى أخلاقية الرقيق، وعندئذ يصح قول ابي العتاهية :

كدوا من “الولادة” للموت، وابنوا للخراب، فكلكم يصير قباب. 

وهذا صديقي الشاعر وفيق غريزي يصر على طباعة مؤلفات من اللحم الحي، كما يقولون، وفي خضم هذه الأزمات المتلاحقة كـ “زخ المطر”، كما يصر على الصراخ في متاهة ندري بدايتها ولا ندري نهاياتها. 

ولقد أصدر وفيق غريزي ديوانا شعريا، واكرر من اللحم الحي، ولكن هذا الديوان للشعوب اللبنانية المتشاتمة المتناهشة في زمن السلم، والمتذابحة بعنف غير مسبوق في زمن الحرب. أما عنوان هذا الديوان فهو “الوقوف في مقام كن”، وكأنه يستوحي ما قيل من عملية خلق الأكوان التي تمت في لحظة واحدة، مع أن هذه العملية استغرقت مليارات السنين، هذا بقطع النظر عن مغزى “كن” العميق والعميق جدا. 

لا يمكن حصر الجوانب في هذا الديوان، ولكن يجوز القول إنه صرخة في واد، ونفحة من رماد. لماذا؟ لأن الشاعر والعبقري والمصلح كلهم غرباء عن مجتمعاتهم، يسيرون عكس التيار، مع أن السفينة تغوص في العباب المتلاطم غوصا مستمرا منذ عقود.

خذ مثلا النقطة الجوهرية عن الشعوب المتخلفة وهي عبادة البشر “الزعيم”، وما احلى عبادة الحجر الذي لا ينفع ولا يضر، قياسا إلى ارباب البشر الذين لا يشبعون، لا من سرقة الأموال، ولا من القتل والسلب، يقول الشاعر وفيق غريزي :

“قال لي رفيقي العتيق 

الزعيم وقت الضيق

وبعدما بُحّت حناجرنا من الهتاف (…)

رفيقي العتيق

اسمه الجهل والغباء ” 

أتدري يا صديقي أن من أجمل القصائد التي قرأتها “هوامش على دفتر النكسة ” لنزار قباني؟ علينا أن نعاين الواقع بكل مراراته، كما هو، بدلا من التغني بأمجاد لم نصنعها، وعبادة البشر، لعل البقر افضل منهم، كما تدل قصيدة الشاعر القروي “بين البقر والبشر”. 

 

عملية الصلب مستمرة 

أنت يا صديقي وفيق تريد الإصلاح، ونعم الإصلاح في بلد عدوه الأساسي هو الإصلاح نفسه، بالإضافة إلى العقل الناقد والمصلحة المشتركة، تقول:

” افدي المصلوب سنين عمري 

اآه، يا فقري 

أنت بلا وجه، ولا انتماء 

وأنت يا قدري 

وجهك يسكن في مرآة

تحت اقدام الزناة “

نعم أن عملية الصلب مستمرة، وحتى نهاية الزمان، ولعل الاسوأ عندما تهتف الشعوب، والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها كما قال ابن خلدون مناديا بتفضيل باراباس على المسيح سيد التسامح والتعددية، أنا اتفهم يا صديقي وفيق كلامك الصادم :

” في الزمن المزروع بالفتن والجريمة 

سأغمض عيني كي لا أرى بشاعة الجاني “

نعم، ان شخصا رفيع المستوى يفتح عينا ليرى المستوى الذي أدركناه، اًي قعر الفقر، لكنه يغمض عينا اخرى ليهرب من هذه المسوخ البشرية التي لم تخرج إلا لماما من قفص الدجاج، واذكر اني قرأت هذه العبارة لأحد الباحثين، لو عاش مارون عبود في زمن الحروب الأهلية لقتل على حاجزي : الأول لأنه سمّى ابنه محمدا، والثاني لأن اسمه مارون. يقول الشاعر غريزي صادقا : 

” بدمي رويت ارضي الحبيبة

حملتها كما حمل المسيح إلى الجلجلة 

صليبه 

انظر الى الدمى المتحركة 

من فوق الصليب “.

او تظن يا صديقي وفيق أن الانبياء جميعا: موسى، عيسى، ومحمد، لو عادوا إلى هذه الأوطان الممزقة، فماذا يكون مصيرهم؟ للمسيح الف يهوذا، ولموسى الف عجل ذهبي، 

وللنبي الف ابو جهل، فماذا نحن فاعلون؟

لا شيء بتاتا. لن نفعل شيئا اللهم إلا الكتابة، مع انها لا تجدي وسط هذا الخراب، وقديما قيل:

” إذا انت لم تميّز بين الخير والشر، فأنت إذا تعيش لبطنك وجيبك، ولا تنسى عبادة البشر، وأفضل منهم البقر، كما يقول الشاعر القروي”. 

لماذا الكتابة في زمن الطاغوت الأسود؟ لمجرد تكرار افعال اعتدنا عليها، وبعد ذلك ماذا سيحصل؟ 

سأخون وطني يقول محمد الماغوط، لا بمعنى الخيانة المألوفة، بل بمعنى مخالفة السائد 

الأسود.، وتنظيف النفس من قذارة التاريخ. 

والسلام على من اتبع صدى العقل، فلا شيء اعظم من هذا النور السماوي…..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *