سجلوا عندكم

“أبو ملحم” والوطنُ في الحقيقة

Views: 136

 الدكتور جورج شبلي

” ابو ملحم ” أو أديب حدّاد، حركةٌ واعية نقلَت مشهديّةَ المجتمع، بكلِّ تفاصيلِه، بواقعيّةٍ تتقاطعُ مع قدرةِ الرَّجُلِ الإنطباعيّة، فَ ” أبو ملحم ” يُحسُّ، ثمّ ينقلُ بالتَّعبيرِ ما انطبعَ في إحساسِه، بمصداقيّةٍ مُطلَقة، وبدون تَوَغُّلٍ في التّنميقِ أو الخيال. فالمجتمع هو المادةُ الخامُ عندَه، يقاربُهُ برصانة، وأحياناً، بكلمةٍ لَذّاعة تفتحُ خزائنَ الحقيقة، وإِنْ موجِعَة.

ميزةُ ” أبو ملحم ” أنّه لم يكن، مرّةً، يُسَفِّهُ، أو يهجو، لكنّ ما كان يقولُهُ، أَوجَعُ من الهَجو، وإِنْ كان أَلطَفَ صُنعاً، وأَرَقَّ نَسجاً. لقد عايشَ معضلاتٍ، ومشكلاتٍ، لم يكنْ غريباً عنها، في مجتمعٍ قبَّحَت وجهَه الشّرور، وساقَته الى المقدورِ قَهراً. فالخُبثُ دِينُ أكثرِ النّاس، بالرَّغمِ من عَوَزِهم وفَقرِهم، والخِزيُ سلوكُ حكّامِه، والفسادُ مَرْقَتُهم المُستطابة، وكأنّ المجتمعَ افترشَته إبليسةٌ، ووزَّعَت فيه نسلَها حَبلَ أبالسةٍ وشياطين شلّوا الخَيرَ، واغتالوا القِيَم، وتركوا النّاسَ في غربةٍ عن الأملِ.

كانت حَلَقاتُ ” أبو ملحم ” في التلفزيون، مقاماتٍ في زمنٍ مُرّ، تنسجُ الواقعةَ وتُرفقُها بحكمةٍ هي علاجٌ لمجتمعٍ جائعٍ ضالَّتُهُ رغيف. إنّ مقاماتِه التي تنضحُ منها أَماراتُ الرويّةِ، والفِكر، لم يَحملْها الأديبُ ” أديب “، الى سُفرةِ النّاس، ليفتنَ العيون، بل ليمتّعَ العقل، والقلبَ، وليلفتَ، بجرأةٍ، الى معاناةِ مجتمعِه القاسية، من البَغضاءِ، والشّرورِ، والانتهاكاتِ السّافرةِ للأخلاقِ والقوانين، فالنّاسُ والحُكّامُ خلعوا ملابسَ التَخَلُّقِ لتَبدوَ الذِّئابُ أكثرَ رحمةً. وهكذا، وفي واقعٍ عَجِفٍ، آثرَ ” ابو ملحم ” المواجهة، ولم يخزِنْ لسانَه، ولم يتحفّظ على العُيوب، مُقتَنِعاً بأنّ المبادرةَ واجبةٌ قبلَ الغصَّة.

لقد عاينَ ” ابو ملحم ” أُناساً أنساهم بلاءُ الدّنيا بلاءَ الآخرة، فلا يهتزّون ولَو وقعَ يتيمٌ بين أنيابِ الضِّباع. ومع ذلك، لم يُصَبْ بخيبةِ أملٍ من الطبيعةِ البشريّة، ومن علائقِ النّاس، (على عكسِ بعضِ الروائيّين، من مِثل ” تشارلز ديكنز “)، فاليأسُ لم يتسرَّب الى برنامجه، بالرَّغمِ من الآفاتِ المريرةِ التي يغصُّ بها مجتمعُه، والتي لم تُخلقْ عَفواً، بقَدر ما نشَّأَها النّاسُ فتطوّرَت على مدى الأيام، وتَخاوى سلوكُها مع جُبلتِهم.

ليس صحيحاً ما نُعِتَ به ” ابو ملحم “، بأنّه أفلاطونيُّ في مقاربة قضايا عصرِه، وبأنّ محاكاتَها، معه، ضَربٌ من العَبَث، لِبُعدِها عن الحقيقة، ولتوغُّلِها في المثالية. فقد كانت حلقاتُهُ انعكاساً صادقاً وأميناً للحياة، لا تَحريفاً لها، ولا استدارةً عمّا فيها، خصوصاً إذا كان الذي فيها فاسداً، ومُلتَوياً، وزُوراً، وقَهراً، وأنانيةً، وتَفَوّقاً للمصلحة الشخصية، وانحطاطاً أخلاقياً، وتقاعُساً عن واجبات، واستغلالاً لحقِّ الناس، ودهاءً مُبَطَّناً بابتسامةٍ صفراء، وتراجيديا وطنٍ اغتالته سكاكينُ حُكّامه… ( فما أَشبهَ اليومَ بالبارحة ). 

لقد واجهَ ” أبو ملحم ” الذين نكبوا الوطنَ، والناس، ولم يَيبَسِ الكلامُ فوقَ شِفاهِه، بل كان عفويّاً كإيمانِه بأنّ الكلمةَ هي الفِعلُ المحرِّرُ من العِلَل، وهي تمتلكُ القدرةَ على كتابةِ فصلٍ جديدٍ في زمنِ البشر. لقد آمنَ بأنّ الكلمةَ المسؤولةَ، وحدَها، وفي الأيامِ الموبوءة، ترتدي هالةً وِقاريّة، وتؤدّي دَوراً احترافيّاً في تكوينِ رأيٍ عامٍ حرٍّ، واعٍ، ومُواجِه. من هنا، مارسَ ” أبو ملحم ” مهمّةَ الإضاءةِ على أمورٍ مُعاشَةٍ، وذات مردودٍ خطير، تفسيراً، وتعليقاً، وتحليلاً، ونقداً مُبَرَّراً، وإرشاداً… وكذلك، اتّخاذاً لموقف، وتَبَنِيّاً لوجهةِ نظرٍ ذات مصداقيّة، كلُّ ذلك ضمنَ معاييرِ الواقعيّة، والعقلانيّة، والمنطق، فلم يكن ” أبو ملحم ” بَصّاراً، بقَدرِ ما كان ذكيّاً، فَطِناً، واجهَ زمانَه بمقارباتٍ لم تسقطْ بمرورِ الزّمن.     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *