سجلوا عندكم

السردُ الاسترجاعيُّ في روايةِ “سَمعتُ كلّ شيء” للأديبة سارة الصرّاف

Views: 232

إبراهيم رسول

تشتغلُ رواية سمعت كل شيء للكاتبة سارة الصراف والصادرة عن دار الحكمة لندن بطبعتها الثانية ف سنة 2023 على تدوين الحكايات والذكريات التي عاشتها الشخصية في سنوات الحرب منذ عام 1980 صعودًا. 

الاسترجاعُ من تقنيات السرد التي تعتمد على الرّجوع إلى ماضي الذاكرة وما تختزنه من ذكريات، ولمّا كان الماضي مليئًا بالقصصِ والحكايات مع ذاكرة قادرة على الاستدعاءِ بصورة جيّدة، فهذا يُشكّل رواية قادرة على أنْ تجمعَ الحكايات وترتبها في عالمٍ روائيٍّ مجنّس! 

هذا النوّعُ من السردِ، يُستعمل بكثرة ويرد كثيرًا في كتاباتهم، كون الحدث حينما يكون ماضٍ فالذاكرة حينما تشرّع بإعادةِ التكوين والتشكيل فهي تعطي للخيال وظيفة وأهمية إضافة إلى واقعيّة الأحداث، فالسردُ الاسترجاعيّ في كثير من الأحيان يكون جذّابًا كون الذاكرة الشخصية للمبدع قدْ تأمّلته كثيرًا وحينما أخرجته إلى الورقِ خرجَ طازجًا! 

 

في هذه الرِّوايةِ تسردُ لنا الكاتبة حكايات عراقية بغدادية عبر ضمير المرأة البغدادية، والمتأمّل في حديثها يجد أنَّ لهجةَ الشخصية في زمان ومكان الحدث صحيحة سليمة وهذا يعطي صورة عن حقبة الحدث ويعطي تصوّرًا عن الأحداث الماضية، فتمثلُ الرِّواية في هكذا نمط من السردِ قيمة تاريخية لكنها مُضافة إلى التاريخ الأدبيّ الإبداعي الذي هو مقياس على تطوّر عقلية الأمة ومقدار وعيها المعرّفي والثقافي، هذه الحكاياتُ التي تدور على لسان الشخصيّة والنسوة التي تروي عنهنَّ حولَ الواقع الحقيقي للمرأة في تلكَ الفترة، فهذه اللّغة التي تدور على ألسنة هؤلاء النساء هي ذات اللّغة البغدادية في السنوات التي أرّختها الكاتبة، هذه اليوميات التي تنقلها لنا نقلًا إبداعيًّا هي سردٌ لأحداث وتاريخ بلد في ظرفٍ عصيبٍ مرَّ على العراقِ في حِقبةٍ واقعيةٍ حدثتْ بقسوة وألم.

لعلَّ الأجملَ في العملِ الفنّي هو الهّويّة، الهُويّة التي يتميّز الشيء من خلالها، منها هُويّة الكاتبة، العمل، الحدث، المكان، الشخصيات وغيرها، هذه الهُويّة تبرز للقارئ في أحيان عديدة، فمثل هذه الرِّواية تجد أنَّ الهّويّة واضحة على كافةِ التفاصيل، فهذا السردُ واضح الصوت والشخصيّة وهُويّته واضحة.

اللّغةُ واضحةٌ بيِّنةٌ أنَّها لّغةٌ امرأة، وهذه اللّغة لها أهميّة بالغة في إيصال الفكرة والتعبّير عنها، نحن نقرأ سردية مكتوبة بصوت الأنثى، التي تقرأ الواقع بمنظورها الذاتيّ، وبالأخص أنّها واكبت الحدث.

التلقيّ الإيجابي للعمل الفنّي

الحربُ العراقيةُ الإيرانية ثيمة تنوّعت الجوانب التي تناولها المبدع/المبدعة، تسردُ الكاتبة يوميات الحياة إبان الحرب المستعرّة، فأنت تلحظ أنَّ المبدعة تشتغلُ على فكرةِ الهّويّة بعمومها وخصوصيتها، الاستعمالاتُ المحلّية التي أحسنت توظيفها فنيًّا في الرِّوايةِ. سردٌ هادئٌ للغايةِ إلّا أنَّ هذا الهدوء لا يبعث إلى المللِ، فهو هدوءُ اليوميات التي تنقلها لنا، اليوّمياتُ التي تنقلها بأزمانها هي دِلالة على أرخنة ما تكتبه لتجعل من المتلقي يشترك معها في التلقيّ الإيجابي للعمل الفنّي، فهذه الرِّوايةُ مكتوبةٌ بتقنيتيْ الواقع والخيال، وهما رافدانِ مهمانِ في السردِ. 

 

في الذكريات وإعادتها بصورةٍ جديدة، هذه الآلية تريد ذاكرة متميزة قادرة على الاسترجاع الذي يحفظ الأشياء بتفاصيلها، وفي هذه الرِّواية استعادت المبدعة حياة كاملة بكافة التفاصيل اليومية التي كانت سائدة في تلك الفترة الزمنية، فالكاتبةُ على وعيٍّ كبيرٍ في عنصري الزمان والمكان، لأنَّ الثنائي الزمكاني لا بُدَّ أنْ يُرعى في بناء الحكايةِ، والخللُ في توظيفهما يعد من الأخطاء التي تؤثر على عالم الرواية فيصيبه بالخللِ، هذا العالم المتكامل يكمل بعضه البعض أي أنَّ الخللَ الذي يصيب بعضه يؤثر في كُلّهِ وهكذا يُرعى المُبدع/ المُبدعة العوامل والجوانب كلّها، للحفاظِ على العالم من أيِّ خللٍ يصيبه فيؤثر عليه فنّيًا ! يُقسّم الاسترجاع إلى ثلاث أنواع وهي:

أولّاً: الاسترجاع القطعي: الذي يكون الزمن فيع بعيدًا عن لحظة التدوين.

ثانيًا: الاسترجاع الوصلي: الذي يقترب فيه الزمن السردي للأحداث عن لحظة التدوين.

ثالثًا: الاسترجاع المزجي: الذي يكون مزجًا بين الاسترجاعين.

السردُ في هذه الرواية اعتمد على تقنية الاسترجاع المزجي، الذي أراه أنّها مزجت بين زمنين ( إذا أخذنا أن أربعة عقود من الزمن بعيدة )، أما إذا اعتبرنا أنَّ أربعة عقودٍ من الزمن ليست مسافة بعيدة، فهذا يعني أن السرد يكون النوع الثاني،

فالكاتبةُ تسرد اليوميات بعد أن تحوّلت الحياة تحوّلات عديدة على كافة الصعد منها (السياسي، الاجتماعي، الديني وغيرها) فالتحوّلاتُ التي حدثت بين زمن السرد وزمن التدوّين تجعل من السرد أن يكون مزجًا بين استرجاعين!

 

تُكثر الساردة كثيرًا من استعمال الفعل الماضي “كان”، وهذا الكان إحالة إلى ماضٍ، أي إلى رجوعٍ إلى زمن غابرٍ، فالزمنُ السرديُّ غير الزمن التدوّيني، وهذا ما نسجّله على الرواية من أنّها راعت عنصر الزمن وفرّقت بينهما. 

الكتابةُ عن الحياة وليس عن الحرب فقط، هذه صفةٌ تميزت بها الكاتبة مع نخبة من المبدعين والمبدعات الذين كتبوا في الثيمةِ ذاتها، هذه الكاتبة تنقلُ لنا الوجه الآخر من الحياة، وهو ليس الموت المجاني العبثي الذي فرضته السلطة وجعلت من البشرية وقودًا لشطحاتها، الكاتبة تسرد لنا اليوميات الحياتية إبان تلك الحقبة، وهي تصرّ في بدايةِ كلّ فصلٍ أنْ تضع تاريخًا إشارة إلى زمن السرد، وحسنًا قدْ فعلت بهذا، فهي تجعل لعالمها السردي بداية ونهاية، والقارئ يتابع الحياة ويأخذ التصوّرات عن مكان الأحداث التي تسردها له. الحياةُ من وجهِ نظرٍ أخرى

في الحياة جوانب متعددة وأنماط عيش كثيرة، فأغلب من كتبَ في زمن الثمانيات من القرن العشرين في العراق، تناولُ ثيمة الحرب وقصص الموت والرعب التي عاشتها الشخصية التي يكتب عنها، إلّا انَّ في هذه الرِّواية تبدو أنَّ الكاتب قدْ كسرت النمطية التي كنا نقرأها كثيرًا، هي تسردُ لنا سرديات المدينة المفعمة بالحُبِّ والحياة النابضة كأن لمْ يكنْ هناك حرب قاسية مدّمرة، وفي هذه السردية تكتشف حقيقة الحياة من وجهٍ آخر، تسترجع الكاتبة هذه الذكريات التي مرّت من خلالها بتحوّلات وهذه التحوّلات هي النضج والوعي المعرفي والثقافي، فهي تستعيد تلك الذكريات بصورة تجعل منها حياة جديدة وكأنَّ الحنينَ إلى الماضي على الرغمِ من قساوته يبدو أفضل من تعاسة الحاضر!

 

تقنية السرد الاسترجاعي تُحيلك إلى ماضٍ طويل، قدْ لا تعرف عنه إلّا القليل، هذه الإحالة والرّجوع تعتبر حالة من أرخنة الحوادث، فالرِّوايةُ تؤرخ الأحداث بطريقتها الأدبية التي تجعلها عالقة في المخيلة، وتتميز عن الرِّواية التاريخية بأنّها تنقل الهوامش كما تنقل المتن، فالأرخنة الأدبية غير الأرخنة التاريخية البحتة، هذه الرِّواية تسردُ لنا هوامش ويوّميات الحياة في زمنٍ معيّنٍ، وبأسلوبٍ أدبيٍّ يجعل من العملِ يكتسب صورته الفنّية على الدوام، لهذا فأنت حين تعيد قراءة الرواية تجدَ المتعةِ إضافة إلى المعلومةِ وهذه الصفة في الأدب الرِّوائي كثيرة، تلتقط الكاتبة بعض الأشياء وتصوّرها في الورق كأنّها تعيد إنتاج الحدث المُعاش في تلك الحِقبة، فالصياغةُ حينَ تُعاد بهذا النمطِ هي آية التميّز الإبداعيّ الذي أبدعته الكاتبة سارة الصرّاف، فالكاتبةُ ساهمت بتدوّين مرّحلة من حياة العراقيين في فترة الحرب.

فالميزةُ الأبرز في هذه الرِّواية أنَّها نقلت الحياة والحرب معًا ووظفت معرفتها في خلقِ عالمٍ موازٍ للحرب، فالأصلُ في تلك الفترة يكون للحدث الأبرز وهو الحرب، أي أنَّها أخذت من تفكير الناس كثيرًا، أما الحياة فتعتبّر هامشًا من حيث الأهمية والتفكير والحديث ( من حيث الأهمية في مخيلة وتفكير الجميع)، هذه الحياة هي صورة حقيقية للواقع ِ نقلتها وأبدعت في نقلها عبر تقنية الاسترجاع المكاني والزماني، فجاء السردية بهذه الفنّية البديعة. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *