غريغوار حداد… مطران العلمانية
المحامي معوض رياض الحجل
حلّت هذا العام (2024)، الذكرى المئوية الأولى لولادة المطران غريغوار أمين حداد، وبقدر ما نستعيدُ بهاء الصورة وأهمية الدور والمواقف الجريئة، بقدر ما ينتابنا الشعور الأكيد بأنهُ من المستحيل أن تعيدُ البشرية إنتاج ظاهرة فكرية وفلسفية واجتماعية بحجم المطران حداد ودوره الطليعي.
نالَ المطران حداد، عن حق وجدارة، العديد من الألقاب منها المطران المُثقف والفيلسوف أو “المطران الأحمر” أو “مطران الفقراء”، وقد كرّسَ حياته لبناء وطن للإنسان يحضن جميع أبناءه من دون استثناء أو تمييز.
ولدَ نخلة أمين حداد (1924-2015) في بلدة سوق الغرب، لأب بروتستانتي وأمّ كاثوليكية. درسَ في مدرسة القرية ثم انتقلَ إلى مدرسة النهضة التابعة لدير القديس جاورجيو سالشير. ومنها أنتقلَ في العام 1937 إلى الإكليريكية الشرقية حيث نالَ شهادة البكالوريا القسم الثاني في العام 1943. تابعَ دراسته اللاهوتية والفلسفية في الجامعة اليسوعية مُتعمّقاً في الأفكار المسيحية الأساسية، بانياً عليها طريقة تفكيرهِ ونمط عيشهِ. وسمَ كاهناً في دير الشوير على يد المطران فيلبس نبعة (متروبوليت بيروت وجبَيل وتوابعهما)، مُتخذاً اسم غريغوار إعجاباً بالبطريرك غريغوريوس الرابع حداد (1859-1928)، بطريرك الروم الأرثوذكس (1906-1928) الذي عُرفَ بزهدهِ وتواضعهِ ومساعدتهِ للفقراء.
أسّسَ في العام 1957 “الحركة الاجتماعية”، التي نالت العلم والخبر في شهر أيار من العام 1961 وتألّفت هيئتها التأسيسية من شبّان وشابات ينتمون إلى مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية في لبنان.
“الحركة الاجتماعية” عبارة عن منظّمة غير حكومية، لا حزبية، طوعية، تعمل في مجال الأبحاث والدراسات في الحقول الاجتماعية كافة، كما أنها تعمل بالتنسيق والتعاون مع الدوائر الحكومية اللبنانية، وتسعى بعملٍ جماعي مُتكامل إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وكان لها دور إغاثي مهم وناشط خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية. إنها جمعية مكرّسة للاهتمام بالإنسان، كل إنسان، وكل الإنسان، وسعت إلى تفعيل دور المواطن وتوعيتهِ وتوعية المجتمع على قضاياه الاقتصادية والاجتماعية ومطالبة الجهات المحلية المسؤولة بتطوير سياسات اجتماعية تؤمن الحاجات والحقوق الأساسية لأكثر الفئات المجتمعية تهميشاً، إضافة إلى التزام الحركة بمبادئ ثلاث: اللاحزبية واللاطائفية واللاعنف.
“مطران الفقراء”
بدأ غريغوار حداد حياتهُ اللاهوتية بتوقيع وثيقة تعهّدَ فيها ممارسة الفقر في حياتهِ الشخصية. منذ ذلكَ الوقت، لم تكن مواقفه وآراؤه وممارساته سوى تجسيد للقب “مطران الفقراء”، بدءاً من مقالاتهِ التي اقترحت لاهوتاً يتجاوب مع مقتضيات الواقع الاجتماعي والسياسي ومع أزمة الشباب في تحديد هويتهم وحريتهم وتطلعاتهم.
تولى حداد مهام أسقف مساعد لمطران بيروت ثم انتخبهُ سينودس الروم الملكيين الكاثوليك في العام 1968 مطراناً على أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما حيث أهتمَ بتنظيم العمل الرعوي ونشاطات الأبرشية. وبقي في منصبهِ حتى عام 1975. أسّسَ خلال هذهِ الفترة مجلّة “آفاق” مع لجنة رباعية، ونَشرَ فيها مقالات روحية لاهوتية، أدّت إلى اندلاع شرارة أزمة كبيرة بينهُ وبين غبطة البطريرك والسينودس، فتقرّرَ عزله عبر نقلهِ من أبرشية بيروت إلى أبرشية “أضنا” الفخرية. لكنّ تقرير الفاتيكان أقرّ لاحقاً ببراءتهِ من كلّ انحرافٍ لاهوتي نُسبَ إليه. كما تولّى مناصبَ كهنوتية عدة قبل اعتكافهِ في العام 1992، وأسّسَ عام 2000 مع مجموعةٍ من المناضلين العلمانيين “تيار المجتمع المدني” وهو حركة علمانية مجتمعية سياسية تسعى لبناء مجتمع الإنسان، “كلّ إنسان وكلّ الإنسان”.
تركَ المطران حداد كتباً عديدة نذكرُ منها “العلمانية الشاملة” و”تحرير المسيح والإنسان” و”المسيحية والمرأة” و”البابا ولبنان”. كما كان لديهِ اهتماماً مُميزاً باللغة العربية إذ تركَ كتباً تشرح قواعد اللغة العربية ومشكلاتها.
تنقلَ المطران غريغوار حداد في إقامتهِ بين دير المتوحدين في فاريا، ومقر البطريركية في الربوة. ثابرَ على الاهتمام بالمؤسسات التي أنشأها وأدارها حتى أخر أيامهِ وتوفي في أواخر العام 2015 عن عمر يناهز الـــ91 عاماً.
رَحلَ المطران حداد بعدَ صراعٍ طويل مع المرض. وشكلَ رحيلهُ خسارة مؤلمة لشخصية لاهوتية وطنية كبيرة، عملت على وضع أسس لبناء مجتمع الإنسان، وتفعيل وتجسيد الحوار الخلاق والمُثمر بين الأديان، بعيداً عن الموافق المسبقة والانغلاق على الذات والتعصب.
ماتَ المطران حداد رافضاً خلعَ ثوبهِ “الأحمر”. تزامنَ رحيلهُ بالجسد مع ولادةِ سيدنا يسوع المسيح، الذي صنعَ هذا الثوب ولوّنه بدمائهِ التي افتدى بها “الإنسان”.
المطران حداد والعلمانية
كان المطران حداد مُخلصاً لفكرة العلمانية ومنادياً بأهمية فصل الدين عن الدولة، مما أدى إلى اتهامهِ بالتجديف تبعاً لمقالاتهِ في مجلة “آفاق“، التي أسسها عام 1974، التي كان ينشرُ فيها مقالات روحية ولاهوتية، غير أنهُ بُرئ من كل هذه الاتهامات، وبقي ثابتاً على نهجهِ الفكري والفلسفي، فأسسَ في العام 2000، وقد أقتربَ عمرهُ حينها من الثمانين، “تيار المجتمع المدني” كحركة سياسية مجتمعية عَلمانية تسعى لبناء مجتمع يقوم على احترام التعددية في بوتقة المجتمع الواحد، بل الإيمان بالتعددية كعنصر غنى للمجتمع والثقافة، وشاركهُ في هذه التجربة عدد من النخب المجتمعية المدنية والسياسية اللبنانية العلمانية.
عملَ المطران حداد على تصويب المفاهيم التقليدية السائدة إزاء مفهوم العَلمانية، وشَرحَ ذلك ببساطة في واحدة من مقالاتهِ، تحت عنوان “العلاقة بين الدين والدولة”، بالقول: “كثر الكلام عن التعددية أو التنوعية الدينية، ونما مفهوم العَلمانية لتجاوز الصراع الذي استشرى بين الأنظمة المدنية والشرائع الدينية، ولكن هذهِ العَلمانية لم تولد أحادية المفهوم، بل تشعبت إلى (عَلمانيات) متنوعة، منها
مُلحدة، ومنها لا أدرية، ومنها لا مبالية بالدين وبالروحيات. وقد نشأ في لبنان أوائل القرن الحادي والعشرين، ما سُمي بالعَلمانية الشاملة، تبناها تيار المجتمع المدني، وبعض الهيئات الأهلية أو المدنية الأخرى…”.
ويردف في تعريف العَلمانية الشاملة: “تحدد العَلمانية الشاملة بأنها استقلالية مكونات وقيم الدين عن مكونات وقيم العالم، ونُشدد على فتح العين في العَلمانية على أنها مشتقة من العالم لا من العِلم. وتعتبر هذه العَلمانية الشاملة أنها ذات حيادٍ إيجابي تجاه الأديان. أي تعتبر أن الأديان لها قيمها، وأنها من مُستلزمات بناء الإنسانية، وتترك الحرية للمجتمعات لكي تتألف وتنمو. لذلــك، فالعلمانية الشاملة هي على مسافة واحدة من جميع الأديان”. ويستدرك: “العلمانية تُدعى شاملة لأنها تشمل جميع أبعاد العالم، فهناك العَلمانية الشخصية، العَلمانية السياسية، والعَلمانية الوظيفية، والعَلمانية القانونية، والعَلمانية المؤسساتية، والعَلمانية القيمية. والعَلمانية الشاملة يجب أن تبقي الحرية لباقي النظريات المجتمعية، فلا تصبح دغمائية مُتشددة تحكم على كل ما سواها فتصبح ديناً مدنياً متعسفاً…”.
ويُعلل حاجة المجتمعات العربية إلى عَلمانية ضمن هذا المفهوم بالقول: “العَلمانية لا بد لها إلا أن تلتقي مع قيم مجتمعية أخرى، مثل الديمقراطية، والحرية، والمساواة، والمواطنة. ولا يكفي القول بأن العَلمانية هي فصل الدين عن الدولة، فهذا أحد أبعاد العَلمانية، الذي لا يتم إلا بعد أن يتغير مفهوم الناس لمجتمعهم. فالعَلمانية لا تنشأ من فوق بل من القاعدة الشعبية، في أفقيات المدنية”.
وبهذا المعنى إن الوصول إلى هذا الفهم من العَلمانية يحتاج إلى عملية بناء ثقافية ومُجتمعية شاملة، لا يمكنُ لها أن تنجح وتُعطي ثمارها إلا في أجواء من الحرية والديمقراطية والتعددية في دولة مواطنة، تكفل تكافؤ الفرص لجميع مواطنيها، بصرف النظر عن معتقدهم الديني أو المذهبي أو آرائهم السياسية والفكرية.
أوّل من شطب المذهب عن الهوّية
ولم تكن رحلة المطران حداد اللاهوتية سهلة، فقد تعرَّضَ للكثير من الاتهامات غير المحقة، ليس من السينودس فقط، ففكره التنويري التجديدي للفكر اللاهوتي أثارَ سخط فئات من المُتعصبين المسيحيين ضدهُ، وصلَ إلى حد الاعتداء عليه شخصياً بالضرب في بيروت عام 2002. كان فكر المطران غريغوار يُمثل إحراجاً وإزعاجاً للمُتطرفين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، لأنهُ شكّلَ جسر محبة بين المسيحيين والمسلمين، وبين العرب عموماً والعالم، بالحثِّ على قبول الآخر والقبول بالتعددية ونبذ كل أشكال التطرف، وإدراك أن “مسار التطور في عصورنا مرتبط بصورة عضوية بقيام المجتمع المدني”.
كان المطران حداد أول رجل دين لبناني يطلب شطب المذهب عن بطاقة هويتهِ مُصراً على رفض الانتماء رفضاً مطلقاً إلى مجتمعات طائفية مغلقة على نفسها وعلى امتيازاتها. أصرّ على الانتماء إلى كنيسة المسيح رافضاً المال والملكية والاستثمار والمشاريع. أرادها كنيسة خادمة للمسيح، لا مدافعة عن الإقطاع السياسي والرأسمالية وتساهم فيه، وتلتزم بمسائل تهم كل الناس وتسيرُ معهم في سبيل التحرر الاقتصادي وتحقيق انسنة المجتمع وتنميته الشاملة. أما في موضوع العنف ومعضلاته في لبنان فأعتبرَ أن النضال اللاعنفي هو طاقة تعبيرية إنسانية ترتكز على الاحترام الكامل للإنسان وقيمة الأنسان ورقيهِ في التفاعل والتعامل.
وفي موضوع هوية الكنيسة، رفضَ المطران حداد، الكنيسة المرتبطة بالحضارة الغربية وقال: “أريدُ كنيسة ومسيحيين يعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي ويُشاركون في قضاياه ونضاله وأمانيه نحو التحرر وبناء مجتمع متطور لأعضائه كافة”.
كما أولى المطران اهتمامه بالحوار الإسلامي المسيحي، والنشاطات المشتركة بين المسلمين والمسيحيين من مختلف الطوائف لتبديد الأوهام وسحب الذرائع وتصحيح الصور النمطية والمسبقة. هذه الأفكار والطروحات طوّرت رؤية المطران حداد للمناداة بالعلمانية الشاملة في مواجهة الطائفية. علمانية بمعناها غير المعادي للدين وتراعي أوضاع البلد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ولا تلغي الطوائف بل تبني المواطنة الواحدة المؤسسة على المساواة والعقل والحرية. كما حثّ الشابات والشبان للإقبال على الزواج المدني.
بين الإمام والمطران…صداقة وتعاون
نشأت علاقة صداقة وتعاون بين الإمام موسى الصدر والمطران غريغوار حداد مع بداية تأسيس العمل الاجتماعي في لبنان، كونهما رجلَي دين عابرَين للطوائف والأديان. تعددت المهام والأنشطة التي قام بها الإمام الصدر منذ بداية الستينيات، لكن انطلاقتهِ الأولى تجسدت في العمل الاجتماعي والانفتاح على المجتمع اللبناني، وتحديداً في “الحركة الاجتماعية” التي أسّسها المطران حداد.
بذور التعاون بدأت بالنضوج عندما أتى الإمام الصدر في بداية ستينيات القرن الماضي إلى مدينة صور من إيران. وكان المطران حداد قد بدأ بتأسيس الهيكل التنظيمي للــــ”الحركة الاجتماعية” عام 1959.
ذهبَ المطران حداد إلى منزلهِ لزيارتهِ مع أثنين من أعضاء الحركة الاجتماعية. عرّفهُ عن نفسهِ، وعن نشاطات وأهداف الحركة الاجتماعية التي هي: لا طائفية ولا خيرية، أي إنها لا تعطي الإنسان، إنما تساعد الشخص ليقوم بتنمية ذاتهِ، ويعمل على تنمية محيطهِ. وقال لهُ أننا نحب أن نتعاون سوياً في “الحركة الاجتماعية”، فرحّبَ الإمام الصدر بالفكرة، وأصبحَ عضواً في المجلس المركزي للحركة الاجتماعية وأجتمعَ مع المجموعة كل أسبوع آتياً من صور إلى مركز الحركة في شارع بدارو في بيروت.
في العام 1961، أقامت الحركة مؤتمراً مهماً في نادي الجامعة الأميركية في بيروت وكان الإمام الصدر المسؤول عن إلقاء الخطاب.
اهتمت الحركة بتحقيق مشاريع التنسيق التالية: المستوصفات، محو الأمية، وصيفيات الأطفال.
تحمّسَ الإمام الصدر لمشروع المستوصفات وباتَ مسؤولاً عنها. وكانت المشاريع مُقسّمة جغرافياً بحسب المناطق، فتولّى الإمام الصدر مسؤولية منطقة الجنوب. في الوقت عينهِ، كانت لدى الحركة الاجتماعية لجان حسب الاختصاص مثل، اللجان: التربوية، الصحية والقانونية.
استمرَ التعاون بين الإمام الصدر والحركة الاجتماعية لمدة خمس سنوات، أي حتى عام 1965، عندها غادرَ صفوف “الحركة الاجتماعية” وأنصرفَ للاهتمام بمشاريعهِ الاجتماعية الخاصة.
انفتاح الإمام الصدر على الطوائف الأخرى، دفعَ بمؤسس الندوة اللبنانية” ميشال أسمر (1914-1984) إلى تنظيم محاضرات حول الدين الإسلامي ورأيهِ في العدالة، وكان الإمام الصدر أحد المحاضرين عن هذا الموضوع، ومن خلالها أصبحَ يُعرف تدريجاً عند المسيحيين الذين أعجبوا بشخصيتهِ كثيراً، وأصبحوا يطلبون منهُ إلقاء المحاضرات ومنها في الكنائس، أشهرها المحاضرة التي ألقاها في “كنيسة سان لويس للكبوشيين” في باب إدريس في بيروت، عنوانها: “التعاون الإسلامي/ المسيحي”. وكان المطران حداد يسمع جميع محاضراتهِ طيلة شهر رمضان الكريم، على الراديو، أثناء الليل، وقد كانت مهمة جداً وعميقة.
عندما افتتحَ الإمام الصدر الجامع في بلدة كيفون (قضاء عاليه) في جبل لبنان، دُعي المطران حداد والشيخ عبد الله العلايلي (1914-1996) المعروف بانفتاحهِ أيضاً لتدشين الجامع، وألقى كلّ منهما خطاباً حينذاك.
كان الإمام والمطران يلتقيان في المناسبات الوطنية، وكان المطران حداد يزورهُ بين الحين والآخر في مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بلدة الحازمية.
مع نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، التقى الاثنان عندما اعتصمَ الإمام الصدر في المهنية العاملية في رأس النبع في بيروت، عندها أضربَ عن الطعام بسبب اعتراضهِ على التقاتل الدموي الذي حصلَ بين اللبنانيين عندما انقسموا بين أحزاب يميناً ويساراً، ذهب المطران إلى المدرسة العاملية وقال لهُ إنني مستعد للاعتصام معك. فكانوا يطلقون عليهما تسمية الإطفائية، لأنهما كانا يحلان المشكلات في أماكن عدة.
اِطلاقه “آفاق” وعزله
شكّلت مجلة “آفاق” التي أطلقها حداد مع كل من بول خوري والأب ميشال سبع وجيروم شاهين عام 1974، منصة مثالية لنشر هذهِ المقالات والأفكار التجديدية والطليعية. وكانت بمثابةِ منبر حرّ لطرح أسئلة ومفاهيم وأفكار أزعجت وأحرجت الكنيسة، وللعمل على تحرير البحث الديني من الجمود الجاهز والتزمت. وقد أثارت الأفكار حول الدفاع عن حقوق الفرد المدنية والسياسية، والدعوة إلى العلمانية الشاملة موجة انتقادات عنيفة، عدّها كثيرون خروجاً عن أسس العقيدة الكاثوليكيّة، ما أدى إلى ولادة هجوم غير مسبوق على المطران حداد لترفع القضية بعدها إلى أروقة الفاتيكان. وفيما اتخذت “آفاق” موقفها بمساندة المسحوقين، أتت النهاية خائبة. فقررتْ الكنيسة الكاثوليكية تنحيته ومنحه لقب أبرشية “أضنه” الفخري. لم تُوقف هذه التنحية القصرية نشاط المطران حداد، إذ عادَ لأداء بعض المهام الكنسية من حين لآخر، مثل إدارة أبرشية بعلبك ثم صور، إلى حين انتخاب مطران جديد لها.
اتُّخذَ الــــ”سينودوس” الذي كان يترأسهُ رئيس أساقفة أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما مكسيموس الخامس حكيم (1908-2001) قراراً في أواخر العام 1974 بعزل المطران حداد من منصبهِ، ليعيَّن كرئيس أساقفة “أضنا” شرفاً، إذ نقلَ المقر البطريركي في عين تراز يوم الأحد 15 أيلول 1974، إلى سيادة المطران غريغوار حداد، أسقف بيروت للروم الملكيين الكاثوليك، كتاباً وارداً من غبطة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم، الموجود في الفاتيكان، يطلبُ اليه فيه التوقف عن ممارسةِ سلطاتهِ الروحية لمدة شهرين.
استندَ غبطة البطريرك في طلبهِ إلى الحق المخوّل إليه بموجب قانون كنسي كاثوليكي يجيزُ لكبير الأساقفة أن يجمّد مسؤوليات المطران لمدة شهرين.
اتصلَ المطران حداد حينها بالوزير والنائب السابق الراحل هنري فرعون (1901-1993) وأحاطهُ علماً بمضمون الكتاب الصادر عن غبطة البطريرك. وفي مساءِ اليوم نفسهِ، عُقدَ اجتماع لبحث الوضع، اظهرَ فيهِ المطران حداد حرصهُ على الالتزام بالأمر الصادر اليه. وقد كررَ التزامهُ في اجتماع مغلق عُقدَ بتاريخ 16 أيلول 1974 في دار مطرانية الروم الكاثوليك – طريق الشام- بدعوة من النائب الراحل هنري فرعون، وأستمرَ ساعتين ونصف الساعة، وحضرهُ عددٌ كبير من أقطاب طائفة الروم الكاثوليك، وفي طليعتهم النائبان البير منصور ونديم سالم (1935-2008).
قالَ فرعون في الاجتماع أنهُ حاولَ الاتصال بالبطريرك مكسيموس الخامس حكيم، في روما، فلم يجدهُ. بعد نقاشٍ متشعب اشتركَ فيه جميع الحاضرين اتخذت حينها قرارات أهمها:
– تكليف النائب هنري فرعون رسمياً، الاتصال بغبطة البطريرك وإبلاغه ضرورة العودة على الفور إلى لبنان للتشاور في أمرٍ خطير، يتوقف عليه مصير وحدة الطائفة الكاثوليكية في لبنان. ومطالبتهِ في الوقت نفسهِ، بإبلاغ المطران غريغوار حداد، بأنهُ يُجمد الكتاب الذي يفرض عليه التوقف عن ممارسة مسؤولياته اللاهوتية.
– إرسال برقية إلى الكرسي الرسولي في روما تشرح الوضع.
– برقية أخرى – شعبية – إلى روما بتأييد المطران حداد.
– إرسال وفد علماني إلى روما لمناقشة قضية المطران.
– أن يقوم المطران حداد، بالاتصال بالمطران أدلبي رئيس اللجنة التي أعدت “ملف قضية المطران” وإعادة فتح باب النقاش والحوار حول الأسباب التي أدت إلى إثارة قضيتهِ.
– أرسال كتاب إلى السفير البابوي في بيروت ألفريدو برونيرا، وهو يقع في ثلاث صفحات فولسكاب، يتضمن مطالبة السفير بالتدخل لتجميد كتاب البطريرك.
– عقد مجمع للعلمانيين، يتولى مناقشة القضية لاتخاذ قرار مؤيد للمطران.
وفي النقاش الذي جرى في الاجتماع المغلق، وردت الآراء التالية، وكانت موضع إقرار إجماعي:
– الحركة التي قام بها المطران حداد ليست تصحيحية أو تجديدية، إنما هي عودة الى الينابيع.
– التبشير بالمحبة أمرٌ جميل، ولكن العدالة هي قبل المحبة.
– رفض القرارات التي أصدرت عن المراجع الدينية، ضد المطران.
– لا يمكن لأي أنسان، مهما كان شأنه أن ينزع الصفة الكهنوتية عن المطران.
– المطران ليس وحيداً في معركته بل “كلنا وراءه”.
– الحركة ليست للمطران، بل هي للطائفة بكاملها.
المطران حداد يؤسس تيار المجتمع المدني
في العام 2000، أسّسَ المطران حداد مع مجموعةٍ من الشبان اللبنانيين حركة سياسية مجتمعية عَلمانية تحت اسم “تيار المجتمع المدني”، سعت إلى بناء “مجتمع الإنسان”… “كل إنسان وكل الإنسان”. كانَ ذلك قبل عامين فقط من تلقيه ضربة من شاب مسيحيي متطرف، على أبواب مؤسسة “تيلي لوميير” وأمام كاميرات التلفزيون، عندما كان يستعد لبرنامجه الحواري. ضربة المتطرّف رمتهُ أرضاً بسبب مواقفهِ، فلم يقابلها حداد إلا بالغفران. طالبَ المطران بإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، وكانَ من أبرز الداعمين للزواج المدني. حتى جاءَ العام 2009، عندما طلبَ شطب مذهبهِ من سجلّ نفوسهِ، ليعودَ لبنانيّاً كما كان دائماً. ومقابل اتهاماته بالإلحاد، أكدَ أنهُ “مؤمن بالعلمانية دعماً لإيماني بالله”، خصوصاً أن العَلمانيّة قيمة إنسانيّة مُستقلّة عن المنابع الدينيّة مع الحفاظ على التفاعل البنّاء.
المطران حداد يتعرّض للاعتداء
شهدَ يوم 14 حزيران 2002 حدوث اعتداء فردي غير مُبرر على المطران حداد، أدى إلى استنفار كافة القوى السياسية والدينية من أجل استنكار التعرض لحرية الفكر، والتسامح، والانفتاح، ووصل الدين بالعمل الاجتماعي والإنمائي… كشفَ الاعتداء عن وجود جيوب أصولية مسيحية لا تقبل أي تفسير مُخالف لرأيها في الإيمان المسيحي ومستعدة للانتقال إلى “العمل المباشر” لقمع كل صوت مغاير. تعالى المطران حداد فوق جراحهِ ليغفر للمُعتدي وليحول الضجة المثارة ضد الاعتداء إلى فرصة للتبشير بأفكارهِ المُتعلقة بالمجتمع المدني وباللامركزية الإنمائية وذلك أمام حشدٍ كبير من السياسيين ورجال الدين توافدوا إلى مبنى تيلي لوميير من أجل التعبير عن استنكارهم لما حَصلَ وتضامنهم مع “مطران الفقراء”. وحصلَ إجماع على أن يد التعصب التي امتدت إلى رجل التسامح والمحبة تدل على مخاطر الشحن بكل أنواعهِ بما يُلغي إمكانيات التعايش والحوار والاعتراف بالآخر والاستماع إلى أصوات الاعتدال المهتمة بالوصل بين طوائف لبنان ومناطقهِ وبمساعدة المعوزين على رد غائلة الضائقة الاقتصادية.