سجلوا عندكم

سردٌ مِن رَحِم الواقع في رواية “خفافيش كورونا” لـ إبراهيم رسول

Views: 191

الناقدة حنان رحيم

عند قراءتنا لأي كتاب، أوّل علامات الجذب هو العنوان، وعنوان هذه الرواية يستدعي الانتباه ويُصيب بالفضول لمعرفة مدلوله وما يُخفيه من رمزية في طياته، ولا يخفى على المتلقي أن معنى الكلمة الثانية ” كورونا” هو الوباء اللعين الذي أصاب العالم برمته، وأخذ حيزًا كبيرًا من الناس ليكون شغلهم الشاغل، أما سر العنوان فيكمن في لفظة “خفافيش”، وهذه الكلمة جاءت بصيغة الجمع لا المفرد؛ لقصدية يرغب الكاتب في ايصالها.

تتناول الرواية بالمجمل واقع حياة العالم في المدة الزمنية لظهور فايروس “كوفيد 19” ومن ثم توغل بتفاصيل المجتمع العربي، ومنه المجتمع العراقي بشكل خاص، ليكشف واقع المجتمع في ظل هذه الظروف الموبوءة بكل جوانبها وعلى جميع الاصعدة، السياسية منها والاقتصادية والدينية…الخ. 

 

الأسلوب الساخر

جاء أسلوب السرد على هيئة التمازج ما بين القديم والحديث، وأكثر دقة، جاء أسلوب السرد القديم على شاكلة أسلوب الجاحظ في كتابه “الحيوان” ذلك الأسلوب الساخر من الواقع الاجتماعي آنذاك، حيث استهل الكاتب إبراهيم رسول في روايته هذه بمقطوعة سردية، هي مقدمة وخاتمة لكل ما تحمله الرواية في طياتها آن واحد، وهذه المقطوعة هي عبارة عن حُلم يرويه الراوي – عين الكاميرا- من خلال الشخصية الرئيسة “سيف” في الرواية التي هيمنت على مقدرات المحكي، وحَوت عناصر السرد بكل تشكلاتها، إذ تمثل هذه الشخصية العمود الفقري الذي تقوم عليه الأحداث السردية، فمن خلال الشخصية الرئيسة تشكلت دينامية الصراع في النصوص السردية ومحور الاستقطاب في حركة الأحداث، ويبرز على هذا النحو نوع من العلائقية المستمرة بين الشخصية الرئيسة وبقية الشخصيات في الرواية.

حيث مثل هذا المنام رؤية رمزية لكل أحداث الرواية.

أما الأسلوب الحديث، فقد ورد بشكل صريح يُفكك كل ما جاء مُرمّزًا في منام البطل الروائي. 

يتناول السرد جوانب اجتماعية عدة، منها، ثقافية وسياسية ودينية ميتافيزيقية، فأما الثقافية منها جاءت متمثلة بجوانب مختلفة وأهمها جانب الوعي الجمعي الذي يمثل الواقع الثقافي على جميع الاصعدة الإجتماعية، حيث ينفتح أفق النص الروائي في محاولة حصول الراوي ” سيف” على معدل يُمكّنه الدخول إلى كلية الطب أو الهندسة؛ امتثالًا لرغبة والده في دخوله هذين المجالين، كما يبين ذلك النص: “كان يتوقع أن يحصل على معدل يدخلهُ كلية الطب كخيارٍ أول والهندسة كخيارٍ ثانٍ”.. (الرواية: ٨)

 وفي نص آخر يقول الراوي: “سمع والده يناديه بأنه المهندس المعماري الأشهر في البلد، لأن صديق أباه كان مهندسًا ناجحًا، مما جعله يكون من الطبقة الارقى في المدينة”..( الرواية: ٧١) 

 إلا إنه يفشل في الحصول على معدل عالٍ، مما يدفع والده إلى توبيخه في كل مرة يراها به، ويدخل سيف عالم الطب ولكن بصفة محلل مختبري، في إحدى الجامعات الاهلية (وهذه إشارة إلى أن التعليم أصبح يقوم على مبدأ الرأسمالية)، هذا الدخول الذي يساعده في الكشف عن الكثير من خبايا الجشع والفساد في منظمة الصحة ومؤسساتها الذي كشفته أزمة كورونا.

 

ثقافة المجتمع

ومن جانب آخر تناول السرد ثقافة المجتمع في تحديد مصيره من خلال عملية الانتخاب للحكومات التي تقود زمام الأمور بيدها وتُسيرها كيفما تشاء، فيكشف الكاتب غطاء الوعي المغمور في غياهب الظلام الإنساني وهذا ما يبينه في النص على لسان الراوي: ” تذكرت ذلك اليوم المشؤوم الذي أقبل علينا بسياراتٍ مصفحةٍ سوداء، هرعنا نحن أصحاب بيوت الطين والصفائح إليه مسرعين، نستجدي الذل والمهانة، ركضنا نحوه ونحن نتزاحم لبيع كرامتنا ببطانيةٍ للعائلة الواحدة، استلمت كل العوائل تقريبًا ولم تبقَ إلا عائلة جاري” ..(الرواية: ١٦) هذا النص يوضح الوعي السائد، وهو الأغلب، حيث امتثلت منطقة الراوي كلها ليبيعوا أصواتهم مقابل مبلغ مادي بخس، إلا شخص واحد لم يقوم بما قاموا به (جار الراوي) وهذه الشخصية مثلت ذات مترفعة عن تفاهات الواقع، ولكن الكفة ترجح للأغلب، وبذلك تصبح الصورة واضحة في قيادة المجتمع من خلال تسليم الأهالي، للشخصيات ذات السلطة والحكم، تلك الشخصيات التي عرفت ماهية الأمور وما يحتاجه الأفراد فلعبت ومارست الدور عليهم على أتم وجه، ليصعدوا سلم السلطة وقيادة مصير الشعب المغبون.

وبذلك يكون المجتمع مبني على حب المال والجاه والعمل على الوصول إلى شهوات النفس، إذ يبدأ من أصغر وحدة في المجتمع وهي ” الذات” وجاء تمثيل هذه الذات في شخصية “سيف” الشخصية الطامحة لأن تكون مختلفة راغبة في الحصول على المال والجاه، وهذه الرغبة مماثلة للنفس البشرية عامة، فهي رغبة جامحة في كل ذات إنسانية، وانطلاقًا من هذه الرغبة يدخل المجتمع عالما تحكمه الرأسمالية، عالم الوحش المادي، حيث تفنى فيه كل معالم الإنسانية وحدودها، وهذا ما كشفه السرد من خلال أزمة فايروس كورونا، حيث أصبح كل العاملين في مجال الطب يفكرون بالكيفية للحصول على أكثر فائدة مادية من طريق استغلال حال الأفراد في هذه المدة الزمنية، ليصبح ابخس الأشياء اثمنها -ماديًا- وهذه السلسلة تمثلت في السرد ما بين الشركات العالمية المصدرة للمضادات الحيوية لهذا الفايروس، وهنا تُحلل وتتفكك شِفرة العنوان “خفافيش” فيكشف الكاتب إبراهيم رسول، أن هذه الأزمة مزقت الغطاء عمن يتمثلون بروح الإنسانية ويمارسون مهنة الطب والمداواة، وفي التفاتة مهمة يعود الكاتب إلى أصل التسمية الأول، ليذكر أن اسم الطبيب سابقًا هو “الحكيم” التسمية الأكثر حكمة وقربًا لمداواة العليل، ولكن بفعل الحداثة والتطورات تغيرت التسمية لتلائم روح العصر، وأصبحت تقوم على امتصاص دماء الناس، فتجردت من انسانيتها وحكمتها؛ لقيامها على مبدأ مادي مؤطر ومقيد بقيود سلطوية رأسمالية، وهذه أحد الأسباب التي دعت الراوي للحصول على معدل عال يمكنه من دخول عالم الطب، لضمان حصوله على المردود المادي -التعيين المركزي- كما ذُكِرَ في السرد.

 

الجانب الأكثر تعقيدًا وغموضًا

وفي ما يتعلق بالجانب الديني، فهو الأكثر تعقيدًا وغموضًا لدى الناس، حيث يعدون أن مسبب هذا الفايروس هو غضب ” الله” على عباده! فيذكر السرد هذه الرؤية بقول الراوي: “الخطوة الأولى نجحت وانطلى على الناس أن الأمر وباءٌ من السماء لأنها غضبت من البشر لسوء أخلاقهم وتربيتهم، كأن السماءَ كانت غافلة كل هذه السنين ولم يحن الوقت إلا في هذه السنة وهي مشؤومة عند العراقيين، حتى السماء تتعامل بمنطق البشر”..(الرواية: ١٠٩) فيبين النص رؤية الأفراد لهذا الفايروس ولأن الإنسان بطبيعته يرمي كل ما لا يستطيع تفسيره إلى قوة الرب وخفاياه، فيرون أن سبب هذا الوباء هو غضب الله عليهم؛ لكثرة ذنوبهم المستشرية، متناسين ذنوب البشر منذ بدء الخليقة! ليجيء الرد السردي بتبرئة الرب من هذا التفكير والرؤى، فيقول: “ونسوا عن عمدٍ أنهم يسيئون إلى السماء بهذا المقياس، كيف للعدل الربانّي أن يغضب كما البشر، وكيف للحق الإلهي أن ينتقم كما ينتقم من البشر، بل صُوِرَ الربُ العادلُ أنه انتقم من الأبرياء والفقراء والبسطاء ولم يمسس الأقوياء والأغنياء! هكذا كانت الظنون والتهم تشاع في حق الرب تعالى وتقدست أسماؤه، حتى الله يريدونه مفصلًا على ما يريدون وما يشتهون”..( الرواية: ١٠٩) يبرأ السرد كل ما ورد من الاباطيل بحق الرب، ويكشف عن حقيقة مُغيبة عن الاذهان، وهي أن حقيقة هذا الوباء، جاء إلى العالم بفعل فاعل، مصنّعًا فلا علاقة بين غضب الرب والوباء، إنما هو الجشع والطمع والسيطرة والتنافس على البقاء للأقوى، البقاء للمال…وهذا أهم ما يروم إليه السرد في الرواية وقصديتها.

ولابدّ من الإشارة إلى أن هذا العمل الروائي يمثل وعيًا مبكرًا عند الكاتب إبراهيم رسول في فهمه للواقع، وعلى جميع الاصعدة الاجتماعية، فعبّر عنها أحسن تعبير، واجاد في ايصال ما ينبغي ايصاله، لتصبح هذه الرواية في الوقت الراهن ايقونة لعمله الروائي؛ فهو قدم المشكلات وأعطى الحلول كذلك، للتخلص من الواقع المأزوم، وهذا ناتج عن رؤيته النقدية الواعية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *