قوارير
د. جان توما
مرَّ العمرُ من هنا، وتركَ زورقَهُ يطفو فوقَ وجهِ المياه. أزهَرَتْ أيامُهُ ألوانَ فرحٍ ، وارتفعَتْ حلاوتُهُ أبراجَ قلعةٍ في وجهِ الرّيح. هكذا تغدو السنونُ مطارحَ لهوِ الأطفالِ في حيويّةِ الشبابِ وحكمةِ الشيوخ.
يروحُ الماءُ إلى رصيفِ القلعةِ، يناغي صلابةَ الصخور، يقدِّمُ ملحَهُ طِينًا لذكريات، يحفظُهَا في قواريرِ النسيانِ، يلقيها في عُمْقِ البحار، تتقاذفُها الأمواجُ، تعودُ القواريرُ حيرى ، تلتقفُها يدا بحّارٍ منسيٍّ على صخرةٍ، لا يعرفُ إنْ كانَتْ تحملُهُ أو يحملُها، يفتحُ سدادةَ القارورةِ يتلو ورقةَ صلاةٍ كَتَبَها تائهٌ على شاطىء رمليِّ ، نزَعَها من فمّ محارة، يكتبُ سطرًا في الهواءِ ويمحو.
يتّسعُ المدَى، يغورُ في عمقِ البحرِ، تنطقُ حجارةُ القلعةِ بما جرى، تتغنّجُ وريقاتُ الزّهرِ البحريِّ خَجَلى، يستردُ الموجُ رذاذَهُ عن رصيفِ العتباتِ، تروي الشبابيكُ أساطيرَ الرّواياتِ، يطلعُ صوتٌ ينشدُ من خلفِ المسافاتِ : “فِي بِحارٍ تَئنُّ فيهَا الرّياَحُ، ضَاعَ فِيَها المِجدَافُ والملاَّحُ”.