سجلوا عندكم

هُدى سليمان في باكورتها الأدبيّة “ضَمَّة”[1]/ عصفورةٌ مائيّةٌ في مدى الأزرق تُحلِّقُ عَبْرَ كتابةٍ إِبداعيّة!

Views: 82

 د. مصطفى الحلوة

 نائب رئيس “الاتحاد الفلسفي العربي” 

 

مدخل / … والنهاياتُ تُدركُ من البدايات !

إذا كانت الأديبة هُدى سليمان قد أتحفتنا بباكورتها “ضمّة” – وهو كتابٌ على حظٍّ من الإِبداع عظيم – فما قولُنا في ما ستأتي به الأيام ، من “ضمّاتِها” و”ضمائمها”، فما نستشعرُهُ يقينًا أنَّ الآتي أكثرُ ثراءً وأبعدُ مدى!

هذه المرّة ، دون مرّات ومرّات ، يُقرأُ المكتوبُ من عنوانِهِ ، وتُستعلَمُ المسيرة من الخطوات الأولى وتُدركُ النهايات من البدايات !

من خلال “ضمّة” ، دخلت هدى سليمان عالَم الفكر والأدب ، من أبوابٍ واسعة، بدعساتٍ واثقة ، فأبدعت أيَّما إبداع ! .. تُطِلُّ علينا ، وهي تُحلِّقُ في فضاء  الحُريّة ، وتمخرُ عباب الأزرق ، مُزاوجةً بين سماء وماء ، في تشكيل كونيّ ، ولا أروع!

“ضمَّة” … “كتابٌ يحتضنُ الجمال” ، كتَب أحدُهُم على باقة ورد ! وكتب القاضي علي نور الدين ، مُثمِّنًا هذا الكتاب : “أصبحنا ، في هذا الزمن ، نشتاقُ إلى اللغة والأدب والشعر ، اشتياقَ العاشق وحنينَهُ إلى الأطلال “(31/5/2025). وكتب  كثيرون ما كتبوا ، وكلّهم مجمعون على ما خلَّفه هذا المؤلَّف من عظيم أثرٍ في نفوسهم !

وإذْ “يشهدُ شاهدٌ من أهلها” ، فما أصدقَها شهادةُ شقيقتها د. إيمان سليمان، وهي تصف هُدى بالضحّاكة الضمّامة ، إذْ “كانت تنتقل ، في المكان ، بين ضحكة وضمّة / والكثير الكثير من الحبّ / أما أنا ، فكنتُ أراها أختي / أراني نركضُ خلفَ بعضنا البعض على درج البناية / القديمة تلك .. / وكبرنا / أراني نجلس على تلك الشرفة ، وأنتِ تقرأين لنا شعرًا وحبًّا / وكبرنا …/ أرانا تعاهدنا أننا إلى هنا واصلون / وكبرنا.. / أراني ورؤانا تتحقّق/ يليقُ بكِ الألقُ ، يا قطعةً من روحي/ تليقُ بكِ الانتصارات والضمّات ! ” (من صفحة د. إيمان سليمان ، على الفايسبوك، 1 حزيران 2025 ) .

د. مصطفى الحلوة

 

لماذا “ضمّة” .. في تأصيل الضمّ وفلسفته!

لطالما نُردِّدُ ، في مختلف مراجعاتنا النقديّة ، أن عنوان أيّ كتاب هو بمنزلة العتبة ، التي تضعنا عند أبوابه ، ونلجُ عبرها إلى فناءاتِهِ . وقد يُبالغ البعض ، فيرى أن العنوان هو النص والعكسَ صحيح ! .. علمًا أن عناوين كثيرة لا تفي بهذا الغرض!

لأوّل وهلة ، يضعنا كتاب “ضمّة” أمام مسارين : مسار الضمّ ، ومفرادتِهِ ، من عناقٍ وغمرٍ وحَضْنٍ وما شابَهَ من مواقف حميمة ، تُؤشِّرُ على علاقة محبّةٍ أو صداقة بين شخصين يُمارسان فعل الضمّ . وثمّة مسار اللغة ، حيث تُشكِّل الضمّة إِحدى الحركات الثلاث في العربية (الضمّ ، والفتح والكسر) . وبهذه الحركات تُؤدِّي المعاني دورها المحدَّد ، وفي إساءة استعمالها يُؤخذ المعنى إلى مسار آخر ، أو إلى نقيضه ، ومثالُنا على ذلك ما يقع فيه أحدهم ، وهو يقرأ الآية القرآنية الكريمة : “إنما يخشى الله َ من عبادِهِ العلماءُ ” (فاطر / 35:28) ، فعوضًا عن تحريك كلمة الجلالة (أي الله ) بالفتح ، يُحرِّكُها بالضمّ ، فيكون تجديف ، إذْ ينقلب المعنى إلى ضِدّه فيغدو الله هو الذي يخشى العلماء وليس العكس !

وكذا الأمر في تحريك فعل التعجُّب (أجمل) بالضمّ عوضًا عن الفتح ، فنروح إلى الاستفهام وليس إلى التعجُّب (ما أجملَ السماءَ ؟ / ما أجملُ السماءِ؟ ) .

في تعمُّق المسألة ، فإنّ فعل الضمّ سلوكٌ ، يُعبِّر عن مشاعر إنسانية ، بلغة الجسد ، سواءٌ أكان ذلك بين ذكرين ، أو بين أُنثيين ، أو بين ذكر وأنثى . هو فعلٌ نتوسَّلُهُ ، في لحظات السعادة والفرح ، كما في لحظات الحزن والمواساة .

هذه الوسيلة ، أيّ الضمّ أو العِناق ، دفعت باحثين ، في جامعة “بوخوم” ، بغرب ألمانيا ، إلى إجراء دراسة عن تأثير السياق العاطفي على الضمّ والعناق ، نَشَرَ تفاصيلها موقع “شتيرن” . فقد لاحظ الباحثون ، في أحد المطارات الألمانية، ألف حالة عناق ، في صالة المغادرة ، وألف حالة عناق أخرى ، في صالة الاستقبال .

عند المعانقة ، في الصالة الأولى ، تظهر مشاعر سلبيّة من جانب الأشخاص المعانقين ، جرّاء الفراق . في حين أن العناق ، في الصالة الأُخرى ، بدا مختلفًا ، بسبب فرح اللقاء ، بعد عناء السفر جوًّا ومخاطرِه .

وقد أجرت “الجمعية النفسية الأمريكية ” دراسةً ، حول التأثير الإيجابي للضم/ للعناق، فوجدت أن عشرين ثانية فقط ، بين ذراعي شخص، كافية لخفض معدّل ضربات القلب وضغط الدم !

ولأهميّة الضمّ والعناق ، تمّ تحديد يوم عالمي للعناق في 21 كانون الثاني، وقد بُدئ العمل بهذا اليوم ، في العام 1986  .

استزادةً من المسألة ، فإن الضمّ / العناق/ الغمر/ الحضن .. لغةٌ يفهمها العشّاق أكثر من سواهم . فما قولُك في جسدين يذهبان حدّ الإلتحام ، ويغدوان كجسدٍ واحد ، بقلبٍ واحد ، ونبض واحد ، وتسري فيهما حرارةٌ واحدة ؟!

ولا غروَ ، فإنّ في الضمّ / العناق بعض شيء من صوفِيّة- وهذا ما أدركته هُدى ، وهذا ما نستشفّه في بعض النصوص . ويأتينا الخبرُ اليقين من المغني الصوفي العالمي موران ميلان ، مصرِّحًا لموقع “اندبندنت عربية”، إذْ يقول : “إنّ العَبّوطة أو العناق ، بالنسبة له ، هي تأمّل سريع ، للعودة إلى أساسيّات الحياة ” .. ويُضيف :”أعيش تواصُلَ العناق ، كأنّه يبدأ من داخل المعدة ، ثم الرئتين والكتفين والنفس ، إلى أعضاء الجسد كافة . وهو ليس التصاق جسدين ، بل هو تفاعل ! ” .

(أنظر ، هلا الخطيب كريم ، مقال عنوانُهُ : “العناق لغة الحبّ الصامتة والمتوارية في زمن التباعد” ، موقع أندبندنت عربية الالكتروني ، بتاريخ 5 شباط 2021 ) .

.. في تأصيل العلاقة بين الضمّة الحركية والضمّة الصوتية ، يذهبُ ناشر هذا الكتاب د. كميل حمادة إلى أنّ ثمّة مخاتلة لغويّة مُرهقة وشديدة الحساسية بينهما، لها تأويلها ودلالاتها . وبمعنى أكثر إيضاحًا ، هناك علاقة قرابة ومشابهة . فالتماثُل الصوتي اللغوي يُحيلُنا إلى تماثُل معنوي شعوري ، إلى الضمّة التي تعني العناق ، الأداة التعبيرية الأعلى على عمق الشعور ، عند الحبّ أو الألم أو الحزن أو الوحدة (كلمة الناشر، ص 7).

أما في استكناه خلفيات هُدى سليمان ، يرى د. حمادة أنها بصدد مواجهة العالم وبشاعته بالضمّة اللغوية ، أي فعل الكتابة والتصدِّي لبشاعة الواقع، ببحث مستمر عن حالة أمان شعوري ، عبر ضمّة صديق ، وعناقٍ من حبيب (راجع ، كلمة الناشر ، ص 8) .

وإذ نتقصّى المسألة من خلال النصوص ، ففي النص الأوّل ( من الألف إلى الياء) ، تُقدِّم لنا هُدى نفسها ، كامرأة من حروف أو من لغة تتلاعبُ بجملها تلاعُبَ ساحرٍ ، يُتقنُ إخفاء الأشياء في أكمامه / تعتمرُ قبّعة اللغة والحُبّ ، لتُخرج من جيبها عصافير ونجومًا / وحزنُها الوحيد مع الحبيب أنّه لا يتقنُ اللغة ، ولا يعرفُ كيف يمكن لامرأة أن تتفيَّأ في ظل قصيدة! (راجع الكتاب ، ص 19) .

– ومن نصّ آخر (لـِ .. كَ.. بـِ .. فَ) ، لنا أن أنقرأ : “كسرتان.. وضحكتان / وضمَّةٌ سقطت عن حضن عُشّاقها / فنسيها الحبُّ آخر صيف”، حيث المماهاة بين الكسرِ كحركة ، والضَحِك كموقف ، وحيث للضمّة ارتباطٌ بعشق ! (أنظر ، ص 41) .

– ومن نص ، عنوانه “نفيٌ مؤكّد : ، ثمّة فعل الكتابة ، عبر أدوات النفي المتعدِّدة ، تتوسَّلها الكاتبة للتعبير عن حالات ومواقف شتّى : “إِمرأة .. تُجمِّعُ حروف النفي في سلّة واحدة / ترميها في وجه عينيك (..) / وكم تُبدعُ في لعبة التورية ، حيث تستحضرُ الحركات الثلاث : النصب والضمّ والجرّ ، في موقف عشقٍ ، وهي تتخَيَّرُ فستانًا ليُراقصُها فيه الحبيب : “وأجدُني أمام مرآتي/ أُعِدُّ فستانًا، أَعرفُ أنّك ستُراقصني فيه ، تنصِبُ لي فخاخَ عينيك / تضمُّني بشغاف القلبِ وشغفِه/ وتجرّني بيديك .. إلى .. / مكيده” . (راجع : ص ص : 42 – 43) .

– وأيضًا ، من نصّ عنوانه “قصيدة هاربة من دفتر العمر” … كان لها أن تغرس اللغة في مسَام الحبيب ، وقد رأت إليه طفلاً يحبو في مدارج اللغة :”أعرفُ كيف أتمتمكَ ، كطفل وصل حافة اللغة لتوّه .. أمرّرُ لغتي في مساماتِكْ… أعزفُ قيثارة ولعِكَ على إيقاع جسدك المنتفض في كوني.. أفكُّ شيفرة الحروف التي لا تقولها .. وأخبِّئُ قصيدتك في حنايا الضلوعِ .. أخرجُ منها كالجنِّية الطيِّبة ، لأختبئ فيك !”. (راجع ، ص : 44) .

.. وفي مُطالعة حروفية لغوية / تركيبيَّة ، فهي تُسفِرُ فيها عن لاعبةٍ لُغويَّة بامتياز ، حيث تَعْبُرُ إلى الحبيب ، إلى صباح الحبيب ، فتتكشَّفُ لها حروف (صباحك) ، في خمسة مواقف ، تندرج تحت ما يمكنُ تسميتُهُ ، بالبهلوانيَّة اللفظيّة:”إنّ صباحًا ، أشرقت شَمسُهُ من حضنك ، هو حتمًا صباحُك وحدك (..) أناي تروي ظمأها إليك / إليَّ .. وجدتُ ال : (ص) / يدي فوق قسمات اللغة واللهفة .. وجدتُ ال : (ب) / جسمي ، وهو يشتعل ليدِك تضمُّ يدي .. وجدتُ ال : (ح) / ونحنُ : أنا / أنت .. نذوبُ في العناقِ الأخير قُبيل أذان العقل والمنطق .. وجدتُ ال (كاف) .

ها أُصبِح بين يدي : ص – ب – ا – ح – ك . (راجع ، ص 61) .

استكمالاً لفعل الضمّ ، في حالات مُتعدِّدة ، لا بُدّ من استعراض المشهديات الآتية :

– فعن جدل الضم / الحب : “ماذا لو لففتَ يدك خلف ظهري ، ثم قرّبتني قليلاً من صدرك / فخرجت قرب أنفاسكَ (أُحبّك) ؟ ! ” ( ص : 81) .

– وعن الضمّ في بُعده الكوني : “.. يدانِ صغيرتان ، ولكنهما تعرفان جيِّدًا كيف تضُمّانِ وتُضمّان ” ( ص : 123 ) .

– أما عن جدل الضمّ / الموت/ الغياب الأبدي ، فتضعنا الكاتبة أمام ساعة احتضار أبيها وبعد غيابه : “تتلعثمُ بضمَّةٍ / خافت أن ترى موتك فيها / (..) تضمُّك أو لا تضمّك ؟ (لم تفعل ) / لكنّها ، ومنذ رحلت / تحلُمُ بضمّةٍ أخيرة ! ” (ص:145).

– وعن فعالية الضمّ للمواساة ، إثرَ انفجار مرفأ بيروت ، وفجيعة الأمّهات بأبنائهنّ : “ضمَّةٌ صغيرةٌ ، نُعبِّئها ، في سلالٍ ورديّة ، لأمّ ما زالت تستيقظ ليلاً، باحثةً عن ابنها ! ” (ص : 161).

 

“ضمّة” / موضوعاتٍ ، ولونًا أدبيًا وأبعادًا!

“ضمّة” … كتابٌ يحوي خمسة وخمسين نصًا ، جعلتها الكاتبة في “رِزَم” (مجموعات نصوص) (Pacquet) ، بلغت أربع عشرة رزمةً ، وُضعت بينها فواصلُ ، بخطٍّ عريض (Bold) . كل فاصلٍ يُشكِّل إضاءةً أو خريطة طريق للنصوص التي تتبعُ له .

في التعريف بالكتاب ، تُموقِعُهُ هُدى سليمان بين الضمِّ لرمادِها المستعِر ، وبين الإكثار في الحبّ والإكثار في الأمل. تقول مُخاطبةً نفسها : هذا الكتاب : ضمَّةٌ لكِ / لرمادِكِ المشتعل أبدًا / للطريق الذي عرفتُهُ / يوم أحببتُكِ كما أنتِ / كثيرةٌ في الحبّ / كثيرةً في الأمل / وكثيرةٌ في يدينِ / ضمّتين ” (من الإهداء ، ص 11) .

وإذ أكببنا على عناوين النصوص ، عبر عملية إحصائية دقيقة ، فقد تبيّن لنا أنّ ثمّة تسعة موضوعات تندرج تحتها هذه النصوص ، وهي على الوجه الآتي :

1- في الحبّ ، أربعة نصوص : “حبٌّ في مرمى عينين ” / “متى يحدث الحب ؟ ” / “شوقٌ مُقيمٌ وحبٌّ عابر ” / خاتمةٌ لسورة الحبّ ” .

2- عن المرأة ، “إمرأةٌ غرقت في نصّ ” / “لامرأة .. لا يختصرها نصّ” / “إلى امرأة خرجت من صُلبنا ” .

3- عن الشعر والقصيدة ، “قصيدة هاربة من دفتر العمر” / “حزن القصيدة”

4- في حالات قلق وخيبات ، “ضوء لحلم لم يُولد ” / “غياب” / “لحظة فراق” /”نسيان” / “محاولات للوقوف على الهاوية ” / “ركض خارج المضمار” / “نفق” / “ضمّة متلعثمة” / “عتاب” / “قلق”/ ذكريات ثورة مسروقة ” .

5- إيحاءات دينية ، صلاة لجسد راح ” / “صوم” / ” ما لم يقله التائبون” / “صلاة نزلت من السجدة السابعة ” / “أذان” .

6- عن السحر والعرافة ، “قالت لي العرّافة” /”نبوءة”/ “حدس” .

7- كوى مفتوحة على الأمل ، “رَحِمٌ قيد الولادة ” / “مُحاولة إلى الطريق”/ “انتصارات صغيرة ” / “انتظار” / غدًا يوم آخر ” .

8 – حضور الطبيعة ، “شجرة” / “نباتٌ طازج” .

هذه الموضوعات بلغت خمسة وثلاثين ، في حين ثمّة عشرون عنوانًا ، لا جامع بينها ، وهي الآتية : من الألِف إلى الياء / فستان / سهرة / لـِ كَ بِـ فَ / نفي مؤكّد / رقص / لو أنّك أنا / تفاصيل / دائرة / أربعون / وجهٌ / صُوَرٌ على جداريات المدن / كتاب / ضاد / طفولة / ألِف باء ياء / وطنٌ / إمتحان / خيارات/ مجاز .

“ضمّة ” .. مؤلَّفٌ من عيون فن النثر ، يقومُ على نظرات عميقة ، في قضايا الحياة وشؤونها والشجون . نُقِش بلغة شعرية ، مما يرتقي به إلى مصاف الكتابة الإبداعية . كأننا بهُدى ، تكتبُ بالصُور والمشهديات الساحرة ، تحفُرُ عميقًا في اللغة، ذاهبةً إلى أمدائها الأكثر إبهارًا وغرائبيَّةً !

“ضمّة” كتابٌ ينتمي إلى أدب الخواطر ، مُترعٌ وجدانيّةً ، ومواقف رومانسية، تصدر فيه هُدى عن رؤى عميقة ، عُمقَ البحر ، عشيقها الأبديّ ، واتّساعَ الفضاء ، الذي لا تغادره ! وكيف تفعل وهي عصفورته ، عصفورة الحريّة أللا حدودها لها ولا ضوابط ، فكأنما الأصداء “الفيروزيَّة” ” كِبْر السما ووسع البحر” تُعبِّدُ لها الطريق إلى بحرٍ وسماء !

لقد أعلنَتها هُدى صريحةً ، لا لُبس فيها ، أرادته كتابًا ” أوّلُهُ علمٌ وآخره مفتوحٌ ، كهذا البحر ، على كل الاحتمالات / نصُّكِ هو أنتِ / نصِّي كذاك القارب الذي يشدّني إليه / وأنا البحر / أو قُلْ : عصفورةٌ في مَداه / تحتاج لأفقٍ ..

لا لغلاف” ! .. هذا ما أفضت به ، إذْ سُئلت : أما آن أن تكتبي ؟!

ولأنّ البحر جارٍ في عروقها والشرايين ، وملحَهُ مستوطنٌ منها الحدقات، فبإسمِهِ تُقسِم وتُنشِدُ أعذب الألحان ، لاشيءَ يُثنيها  : “.. باسمِ الأزرق في دمي/ وملحِهِ في دمعي / سأغنّي .. أغنّي”.

في بعض نصوصها كثيرٌ من شعر ، وما يتجاوزُ الشعر ، رقةً وخيالاً وإيقاعًا وموسيقى ! كأننا بها ، في هذا المجال، لا تقول الشعر بل الشعرُ يقولها !

للحنين في نصوصها كبيرُ حضور، حنينٌ إلى أشياء وأشياء ، وحنينٌ إلى المطلق ! تفيض عاطفةً إنسانية ، وتغرقُ في تأمُّل ، يأخذنا إلى العرفانيين ، من غير شطح ولا تبديع !

تنهُد إلى الخلاص من تفاهة الواقع ، والتحرُّر من فكرة الموت ، التي حاصرتها ، عهدَ الطفولة والحداثة !

في عودٍ على بدء ، هُدى سليمان ، لا تكتب نصوصها إلاّ بالدموع:”..سيقولون إنّه نصُّ عن وطن / وسأقول إنّه .. لامرأة خافت الوقوع / فأسقطت دموعَها / في نص ” (ص : 94 ) .

تحيلُ دائمًا إلى البحرِ ، وتستحضره في كل آن ! فهي ، في مناجاةِ ربِّها ، تُخاطبُهُ قائلةً : “سأقولُ إنّك بحْرٌ / لأفهمَ كيف تكونُ أقربَ من الوريد ؟ ” (ص: 99).

ولأنها مائيّةٌ ، فهي تحاور النهر شعرَا : “.. مراهقةٌ تجلس قبالة نهر، يقولُ لها فلسفةً ، تُجيبُهُ شعرًا  ” . وفي موقف احتجاج وتمرُّد على البحر ، كونه لم يُعطِ بالاً لأغنياتها : “تُغلقُ نافذتها على البحر والعصافير ، لأن صدره لم يحتوِ أغنياتها”. (ص : 103 ) .

عن فلسفتها في الكتابة ، نتبيّنها من خلال إجابةٍ عن سؤالٍ لإحدى العرّافات، حين طلبت إليها أن تكتب : “يُعاودُني صوتُها وجبروتُها ، كصوتِ وحي في صحراء: أكتبي (على غرار ما طلب ملاك الوحي جبريل من محمد : إقرأ.. ما انا بقارئ) – فتردّ : ما أنا بكاتبة ! ” ، فهي ” عصفورةٌ تُرنِّمُ أنشودة فرح تسكنها.. تواجه بها هذا المطر ، يكسِرُ جناحيها ، فتغنّي ، تغنّي ، رغمًا عنها ، عن الحياة، عن هذا الليل الطويل ! ” (ص : 124) .

وعن هُويَّتها ، فهي تتجاوز إلى الفضاء الأوسع ، مُعانقةً المدى المفتوح عن آخره : ” في الهُويَّة ؟ كان يُمكنُ مثلاً أن تكون عصفورة ، تحذر أعيُن الصيادين، لكنها لا تهابُ أن تطيرَ مع الريح وعكسِها ، تفردُ ألوان جناحيها، على خيوط الشمس، وتُعانقُ حرية المدى المفتوح أمام ناظريها ” ( ص : 170) .

وإلى ذلك ، فهي امرأة تقرنُ الأقوال بالأفعال : “بالعربي ؟ أنا امرأةٌ من كلام، وأفعالٌ تترجم ذلك الكلام ” (ص : 128) .

وهي تعزو حُبَّها للضاد إلى أبيها ، الذي كان صديق مشاريعها اللغوية:”..سلامٌ عليكِ ، يا حبيبة أبي ، الغافي تحت صنوبرة (..) سلامُ الله على صديق مشاريعي اللغوية ، يوم أصبحت الأبجدية : ألف .. باء .. ياء ، (أي أبي) ” (ص : 128 ).

 

“ضمّة” .. هو كتابُ هُدى المُشرّع على الملأ .. فمن هي ؟

هذا الكتاب ، بنصوصه الخمسة والخمسين ، يُشكِّل إحاطةً كاملةً  بهُدى، بكل ما تختزن من خلفيات فكرية وقيميّة ، ومن تشكيل ذهني ومعرفي ، ومن تطلّعات وانتظارات .. حتى ليصحّ القول ، بلسانها ، أنا هذا الكتاب ، وهذا الكتاب هو أناي ! هي العلّةُ – بلغتنا الفلسفية – والكتابُ معلولُها ، فلا حاجة بنا إلى تعرّفها ، عبر مداخل أو مسارب أخرى ، فـ “ضمَّة” هو السبيل إليها !

هذه “الهُدى” تخترقُ  الكتاب ، من ألِفِهِ إلى يائه ، وتعشِّشُ بين تضاعيفه ، في حضورٍ آسر !

وإذْ نعبُرُ إلى “بروفيلها” (Profile) ، يتحصل لنا هذا “البازل” ، الذي تتفاعل جزئياته مع بعضها البعض ، بشكل خلاّق ، وهاكم أبرزَ ما في الصورة :

هي الطفلة العابثة الحرون ، التي ترمي أوراقها في موقدٍ ، كلما عنّ على بالها أن تبكي (ص : 11) / هي الحُبلى بحبِّ رجلٍ يُحِبُّ العصافير مثلها (ص: 23) / هي التي سترتدي نفسها ، حُبًّا للحياة، وشهقة الطفلة في الغناء (ص : 31)/ هي من تتطلّع إلى أن تكون ماءً وملحًا وموجةً عابرةً للأفق ، تنهزمُ في عناقِ صخرة، ثم تولدُ من جديد (ص : 33) / هي التائهة في صحراء الحبّ أربعين عامًا، كلما آنست نارًا ، أطفأت الريحُ وطنها ، وغابت في متاهات الكآبة ، وهي الهاربةُ من حزن حوّاء فيها ( ص: 35) / هي ذاتُ قلب يُسرعُ الخُطى نحو السكون (ص : 37) / هي المحتمية بالشعر ، تشدُّ لحاف الشعر عليها ، كي لا يجمِّد لغتها (ص : 40) / هي المائيَّةُ التي اعتنقت الأزرق لأنْ لا بحرَ في قريتها ( ص 49 ) / هي امرأةٌ تسكبُ في هدير الموج دموعها ( ص50) / هي من تحاول عبثًا لجم قلمها عن السيلان على الورق (ص 51) / هي التي تخافُ الغيابَ وكل مُشتقّاتِهِ ، وأعظمُها خطر الموت (ص 52) / هي مَن تُنجبُ نشوتها بغير أطفال ( ص : 54) / هي المتمايلة على وقع القلق ، تشدّ خيبتها من أذنيها ، كي لا تتكوّر في الرَحِمِ وتُصبح جنينًا (ص ص : 54 – 55 ) / هي التي توزِّعُ الحبّ أرغفةً للجائعين (ص 56)/ هي التي ترى إلى نفسها محترفةً جدًّا ، تُحبُّ اللعب ، على مستوى الأفكار (ص 65) / آمنت بأن كلّ الطاعات مقبولةٌ في رحمة الحبّ ، إلاّ طاعة النسيان (ص67)/ هي امرأةُ لا تملك ترفَ الحبّ المفصّل عند خيّاط العصر ، وتستطيع أن تمشي بجرح مفتوح  ( ص 69 ) / هي من تُغمضُ عينيها لتترك لكلّ حواسها متعة التجربة ( ص 75) / تحبُّ البحر على إيقاع الحبيب ، فهي تُغلقُ نافذتها كي لا يوقظ صوتُ البحر حنينها (ص 77 ) / هي التي تُغريها كل نصوص الشعراء ، لكنها تسقط أمام امتحان البوح (ص 77 ) / هي تُؤمن بأنّ الحبّ سينتصر في النهاية ، وسينتصر الفرح ، وسينتصرُ الأبيض ، وعصفورة قلبها تُرنِّم : تنتصر الأجنحة في النهاية ( ص 80 ) / ترى إلى نفسها امرأة من أجنحة ، اشتدَّ ضلعها الأنثوي ، تمرّدت على رقّتها المفرطة (ص 101 ) / تسابق الحزن .. والانكسارات ، تركض، تغنِّي ، ترقص نجمةً في سماء (ص 104) / هي امرأة ، بقلبٍ هشٍّ ويدين جبّارتين (..) تشقُّ بعصاها بحر إيمانها (ص 105) / هي مُحاربةٌ عنيدةٌ توقظ ، كلّ يوم، ضحكتها بحنانٍ مُفرط ، تُلبسُها وحيَ الأيام القادمة ، وتجبرها على الركض معها ، في مضمار القصص والحكايات (ص 113) / هي من لا سند لها سوى نفسها، وبتعبيرها : لا سند لأنا إلاّ أنا ( ص 117) / هي وفيّةٌ للنصوص التي تكتبُها (النصوص هي التي تكتب هُدى ، وليست هي من تكتب النصوص ! ) (ص 118)/ هي البرق الذي لا ينضب ، والضوء الذي لا يخبو ، وإن الكرة الأرضية عبثًا تحاولُ ألاّ تدور حولّها (ص 125) / هي القادرة على إخراج المارد من معمعة (ص 126) / هي عاشقةُ العربية ، صديقةُ نهاراتها ورفيقة دربها الطويل (ص 127) / هي من غرّبتها عروبتُها في مشارق الأرض ومغاربها ، فرأت تُجّار القضايا، يستثمرون بحروفها صفقاتٍ ومشاريع (..) ويشربون كأس قوميّتها ، في حفلات الانهيار الأخلاقي (ص 127) / تمتلك الشجاعة ، بما يكفي ، لتشقّ هذا البحر بعصا رؤاها ، وتُغرق كل وهم ادّعى ربوبيّةً على روحها ( ص 129) / هي ابنةُ العجلة والصخب والضجيج ( ص 131) / هي من كان جدُّها الفلاّح ، قد علّمها شموخ الشمس ، قبل قراءة الكتب ( 134) / وهي من آمنت بأنّ الشاعر هو خدينُ الله ، خالق الشعر ، يعزفان معًا ( 134) / هي من تزعم بأن الشمس قد تُشرق من المغرب لأجلها (ص 135 ) / هي صنيعةُ أبيها ،في كل شمعةٍ تُطفئها تُحْييه داخلها رجلاً ، أجمل ما وهبها أنه جعلها هُدى (عيد ميلادها في 29 نيسان صادف يوم رحيله! ) (ص 150) / هي ذات نزوع وطني ، تدعو إلى وطن ، نداوي به كسرَ القلوب ( ص 167) / تدين خيانة الوطن من قبل بعض أبنائه ( ص 169) / هي مؤمنةٌ بأن الشعوب المقهوّرة لا بُدَّ أن تنتصر ( ص 176) / هي المتشبّثة بالحياة ، لا تريد أن تموت ، لأنّ ما زال في مكتبتها كتابًا لم تقرأه ، وفي أحلامها طفلٌ يُقاوم لم تنجبه ، وفي جيبها رصاصةٌ لم تُطلقها ( ص ص : 181 – 182 ) / هي تؤمن بأن الاستسلام للموت هو موتٌ آخر (ص  185) / هي بعكس من يخترن صانعي الماركات العالمية ، إذْ تختار صانعي الكرامات (ص 187) / هي مؤمنةٌ بأن الحبّ لا تقتله العزلة ولا يقتله النسيان (ص 187) / هي تُؤمن بأن السياسي قد يعتزل الكرامة ، في حين أنّ الحرّ يعتزل كل أنواع الخنوع ( ص 190) / هي تدينُ المتكلّمين باسمه ، بل موزّعي الحقد باسمه : “لم أَرَ الله يومًا منتقمًا ، أو حاقدًا ، فكيف يوزعون كل هذا الحقد باسمه ؟ ” ( ص 194) / الله هو فعل محبّة ، يكفيه فعلٌ ودعاء وصلاة مُباشرة ، عموديًّا ، منّا إليه ! (ص 194 ) .

 

“ضّمة ” .. من السِحرِ الحلال / لغةً من كونٍ آخر .. وحين الكتابةُ بالغةٌ ذُرى الإبداع!

أن تكون / تكوني مبدعًا / مُبدعةً في فن الكتابة ، فليس ذلك بأمر يسير ، إذْ لا يُلقَّى ذلك إلاّ ذو حظٍّ عظيم !

أن تكون / تكوني مبدعًا / مبدعة في فن الكتابة ، فإن ذلك يقتضي الفرادة في التعبير ، كما في المضامين ، كي يتميَّز النص الأدبي عما سواه من نصوص .

الإبداع ، كما نردِّدُ في مراجعاتنا النقدية ، يعني الجديد ، والجديد ينبثق من الاختلاف ، ويقوم على الفرادة . بل إن الكتابة الإبداعية تقتضي الانتقال باللغة ، من كونها لغة تعبير إلى لغة لاكتشاف حقيقة ، تبقى مجهولة ، أي غير مدركة ، حتى اللحظة !

الكتابة الإبداعية تقوم على ركائز مُتعدِّدة ، أبرزها ركيزتان : الصُوَر والمشهديات الناطقة / التعابير والتراكيب المبتكرة التي تجنح إلى الغرائبية!

الكتابة الإبداعية لا تكون إلا بالتمرّد على اللغة ، بتثويرها ، فتُبثُّ فيها حياة، وتُنفح روحًا من عالم أثيري ، خارج عالمنا الترابي!

ويبقى السؤال : هل نجحت هُدى سليمان ، في باكورتها “ضمّة” ، بالاستجابة إلى هذه الشروط ؟ ! ذلك ما سوف نتبيّنُهُ من خلال عملية مسح شبه شاملة ، عبر شواهد ، تشهدُ لإبداعها ، وتجعلها في مصاف الكُتّاب المبدعين!

.. سلامةُ اللغة ، ونقاؤها ، وانسيابيتُها .. هي السمات التي تطبع لغة هُدى سليمان ، فقد استمكنت من الضاد، اكتسابًا وعبر جينات وراثية ، انزرعت فيها من أبيها ، فأورقت وأعطت أطيبَ الجنى !

بين إرثٍ تليد واكتساب جديد ، كان تفرُّدٌ لديها وخروجٌ على المألوف ! فقد راحت تتلاعبُ بأبجدية اللغة ، دخلت بها إلى معارج ومتاهات ، وظلّت قابضةً على أعنّتها ! ضخّت في حروفها والكلمات دمًا تعبيريًّا جديدًا ، فكانت عبارات غير مسبوقة ، وكانت معانٍ من معينٍ ، فيه من الجِدَّة الشيء الكثير ! لغتها مجنونةٌ مثلها . وهذا ما أدركه ناشر الكتاب د. حمادة ، فكانت هذه الشهادة : “لغة هدى سليمان مجنونة مثلها ، صاخبة عاصفة ، وعذبة رقيقة ، مائيَّة مثل البحر ، الذي تُطِلُّ عليه من شرفتها (في صيدا) ، زيتيّة ككرم زيتون قديم ، شهد على أوّل ضمّة بين فلاح وتراب (..) بحريةٌ جدًّا لغة هدى سليمان ، مدٌّ وجزرٌ ، شمسٌ ومطرٌ وأنواء ، أشرعةٌ ومهاجرون غروبيّون (..) لغة بلا شطآن ، بلا مرافئ ، ولا تأخذك إلاّ إلى الدهشة العالية ، وهي ، على رهافتها ،بلا شبيه (..) لم يكن لها كفؤًا أحد” (التقديم ص ص : 8 – 9 ) .

ومن جانبنا نُضيف : لغتها على غرارها ، هي صدى لما يصطرع داخلَها من مشاعر، في حالات صحوها وعصفها ، في حالات تعقُّلها وجنونها .. لغة ، رقراقة ، كماء نهرٍ ، تصبُّ في بحر هائج ، يحكمها مدٌّ وجزرٌ من دون ضفاف ! لغة يتلاشى معها المدى ، إذْ يفتح على لا نهائية كونية !

.. ولضيق المقام سوف نتمثّل ببعض الشواهد النموذجية ، ذلك أن توفية المسألة حقها ، تتطلّب نسخ الكتاب برمّته ، إذْ في كل صفحةٍ من صفحاتِهِ المائتين ، ثمّة إبداع تعبيري ، بل في كل فقرة وفي كل سطر من سطور النصوص :

– عشرون عامًا تحبلُ بك / بزبد الشهيّة الفائقة للحب / لرجلٍ يخرج من صُلبها ( ص 22) ، فهي تعكس آية الخلق ، فلم تعُدْ من ضلع الرجل ، بل هو الخارج من صُلبها !

– حُبلى بحبّك / ويفيض حرفُها على ورقِ العمر (ص 23) .

– “.. ثمّة وطنٌ هنا / زرعتُهُ في القلب / ولي منه بيتٌ وأطفال/ ورجلٌ لا ينهمرُ من برقِ الفراق ” (ص 24) ، مقطعٌ أقرب إلى الشعر منه إلى النثر ، فهي تشعُر إذْ تنثر(أي تقول النثر) !

– ومن تعبير مُتفرِّد : “.. يُهيِّء مواقد الضياع / لقلبين .. مفردين/ واشتبكا بمفردات الحنين ! ” اشتباك بمفردات الحنين ، لا مفردات عُنفيَّة ، كما هو معهود ! (ص 28 ) .

– ومن أحد أجمل نصوص الكتاب ، عنوانه “سهرة” ، نتوقَّف عند حوار بين هي وهو ، ملؤه الإيقاع ، بما يُقرِّبه من لغة الشعر . وفيه من الطرافة ما فيه  (ص ص : 30 – 31 ) .. هو نصّ رقيق ناعم ، رقّة هُدى ونعومتَها : “- ماذا ستلبسين ؟ / سأرتدي جسدي / إذًا ارتديني يصلُحُ شغفي دثارًا للسنين / وأيُّ عطر سيعبُرُ مسامكَ ؟ / ياسمين ؟ / هاكِ نفسي.. يُغلغلُ القلب كطوقِ نجاة / خلخالُك؟ / خيطٌ رفيعٌ .. كخطِّ طفلٍ يتلعثمُ بالممرّات / .. وشعرُكِ؟ / ليلٌ ينسابُ ناعمًا / خُذي نبضي ! ضوءٌ في عتمِكِ الممتدِّ أفقًا / وماذا ستقولين ؟ / شِعرًا وعطرًا / .. وحُمرةُ الشفاه ؟ / ضِحكةٌ صادقةٌ / أيا سعدَ الناظرين / سأرتدي نفسي .. حُبِّي للحياة .. وشهقة الطِفلةِ فيَّ للغناء / وذاك لعمري .. حظُّ السامعين ! ” ( أشبه ما تكون بصلاة لمتصوّف في العشق الالهي ).

– تعبير فيه مُفارقة : “قلبٌ يُسرع الخُطى نحو السكون ” (ص 37) ، أي طلبًا للراحة !

– “أشيلُكَ من قلبي / كعروسٍ نزعت خاتمها / المرصّع بالمواعيد ” (ص 38).

كم هو موفّقٌ استخدام فعل (شالَ ) ، ففي الشيل عملية انتزاع وإبعاد أو رمي خارجًا ! .

– تعبير رائع ، تُصوِّر فيه احتماءها بالشِعر :”أنا امرأةٌ تشدُّ لحاف الشِعر عليها / كي لا يُجمِّدَ لغتها/ ضحكتها بردُ الهزائم واللوعات  ” (ص 40) .

– لوحة ، بل مشهدية خلاّبة : “عبثًا أهربُ منك ومنِّي .. من لمسةٍ خضراء، تُخصِّبُ أوردتي البحرية بالفرح ، فأنجِبُ ضحكاتٍ وابتساماتٍ ، وشوقًا لعسلِ عينيك القرويتين ! ” (ص 49 ) .

– مشهديّة ولا أجمل تعبيرًا عن الغياب : “أخافُ الغياب / ألعبُ بألغامِهِ كطفلةٍ تلهو بدُمية / “أمكيجُ ” عينيه الواسعتين / ألوِّن فمه الكبير بأقلام التلوين/ .. وعندما ينفجرُ فيَّ/ أتناثرُ على حافةِ الوقت وأبكي ! ” (ص 52) . (مراعاة نظير).

– تعبير جميل مُتفرِّد ينضح إنسانيةً : “أوزِّع الحبَّ أرغفةً للجائعين ” (ص56) .

– عن لحظة الفراق : “أجُرُّ عواطفي من أذنيها / وأشنقُها في الساحات ” (ص 63) .

– من ثوابت الحب لديها (من قواعد الحب الأربعين) : “كل الطاعات مقبولةٌ في رحمة الحبّ .. إلاّ طاعة النسيان ” (ص 67 ) .

– “أنا امرأةٌ لا تتقن فن الخياطة (..) أغزُّ إبرة الوقت على عكس اتجاه الرحيل ” (ص 69) .. كم يُذكِّرني هذا الموقف ويردّني إلى ميراي شحادة ، في “بوهيمية” ، فهي امرأة لا تتقن فن الطبخ إلخ .

هذه الإشارة تُفتّق لديَّ جرح المقارنة بين هُدى وميراي ، فكلتا هما عصفورتان تنشُدان الطيران ، والتحرر من ربقة المجتمع الظالم وقيوده ! ولنا أن نعود إلى ميراي في مؤلّفها “يوم قررتُ أن أطير ” ، وإلى “بوهيمية” ، وإلى “ضمّة” هُدى سليمان ، كي نتبيّن القواسم المشتركة بين هاتين العصفورتين ، اللتين تغرّدان بلغة وبمفاهيم ، من خارج عالمنا الأرضيّ الرتيب !

.. أكتفي بهذا القدر ، وأوصي بتدبُّر نصّين رائعين مُبهرين ، أولهما بعنوان:” صلاة نزلت من السجدة السابعة ” ( ص ص 99 – 102) ، وثانيهما عنوانه : “وجه” . ففي النص الثاني تقف أمام مرآتها ، تُخاطبها لتعرف من الأكثر صدقًا اليوم ، هي أم المرآة ؟ ( ص ص : 108 – 109 ) .

لعلّ المحسنات البيانية ، من استعارات وكنايات وتشابيه ، شكّلت الأدوات الأساسية لتجسيد مختلف الصور والمشهديات الإبداعية ، التي أتحفتنا بها الكاتبة هُدى سليمان . ناهيك عن حقولها المعجمية ، التي جاءت “حفرًا وتنزيلاً ” في مُطالعاتها الأدبية المتميّزة .

وبكلمة ، هذا الكتاب ” ضمّة” ، ينتمي “حِلّةً ونسبًا ” إلى الكتابة الإبداعية ، وهو “يُقرأُ من الجِلدة إلى الجِلدة ! “.

***

[1] – قراءة نقدية لكتاب “ضمّة” ، مؤلِّفتُهُ د. هُدى سليمان ، وذلك في ندوة ، بدعوة من “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافي”  و “الرابطة الثقافية – طرابلس ، يوم السبت 14 حزيران 2025 . والكتاب صادر عن دار كاف، بيروت، لبنان، طبعة أولى 2025 .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *