مصابيح تبكي
“كل الكلمات/صارت خناجر/تجرحني/كل الأفكار/صارت لهباً/يكويني”
نزار سيف الدين في كتابيه “ظلال” و”العصافير ترحل أيضاً”:
“تحولنا في هذا العالم المجحف والقاسي إلى مصابيح تبكي”

زينب حمّود
يجيء الكاتب نزار سيف الدين إلى القصة القصيرة، والرواية من تجربة طويلة متمرسة، ومن حضور قوي في المشهد الثقافي والتجارب الإنسانية المعجونة بالأحاسيس المرهفة والأسلوب الواقعي والتجاريب اليومية التي لا تخلو من الدموع والمآسي وأوضاع الوطن والفرد. وهو في مجموعته القصصية الجديدة “ظلال” واختها رواية “العصافير ترحل أيضاً” عن الدار العربية للعلوم، ينحاز إلى القرية والطبيعة وابنها الإنسان، يحيك معاناة الحرب والموت والجريمة وويلات حرب لبنان في مرحلتها المثخنة بالمآسي والذكريات المثقلة بالأوجاع والمتغيرات الاجتماعية والبنيوية، في وطن عانى ويلات الحرب، سافر ناسه إلى الغربة، نالوا جنسية أخرى، لكن آثار هذه “الملعونة” مازالت تحفر في الذاكرة حكايا السواد في أرض تنتظر من ينقذ ترابها من لوثة السموم المنتشرة كالنمل الطالع من الزوايا العفنة.

رواية مثقلة بالوقائع السردية الرشيقة ومجموعة قصصية يتقمص الكاتب بعض قصصها. وهي كناية عن 21 قصة كتبها بصدق عن الأستاذ أحمد ودكان حبيب، حيث عرض بإسهاب مشكلات الموظفين في الإدارة العامة والتعليم، وعصامية البائع وأحلام من يريد العودة إلى الأرض السليبة، وعن علاقة الإنسان في عالمنا الثالث مع التكنولوجيا وسوء استخدامها في قصة “أبو علي انترنت” وعن قضايا المرأة والأولاد وهجرتهم المستمرة، وعن الماضي والحاضر في “شروال جدي”، إضافة إلى مواضيع أخرى تحمل الغرائبية والهروب إلى الطبيعة في قصص من الخوابي، والحلم واللحظات القاسية والظلال، وصولاً إلى زوارق الليل وإشراق وحكايا من الواقع، من حقيبة الكاتب الذي قدم منذ العام 1992 قصص: طائر الحنين، قال البحر، أمي وروايات “زمن الهروب” وقصائد “مكان في القلب”.
عاشق القرية والريف وشمس الجبال الضارعة هو نزار سيف الدين، ابن بلدة مزبود المتكئة على كتف البحر قرب بساتين الليمون والخضرة وخرير المياه، في هذه الجماليات عاش الكاتب وناشد الزمان أن يجود بالفرح وأن يعيد القرية الحقيقية إلى قريته…
“أتألم بصمتٍ”
*لماذا أصدرت قصص “ظلال” ورواية “العصافير ترحل أيضاً” في توقيت واحد؟
-هذا السؤال طرحته على نفسي مراراً وتكراراً، لكن ماذا يفعل المرء حين يكون وحيداً؟ البعض يفكر أو يرسم أو يغني أو يسمع شيئاً أو يقرأ أو يكلم نفسه، وأنا أزيد على ما أسلفت بأنني أكتب، والكتابة قدري وشغفي وحرفتي التي أهواها، أضف إلى ذلك أن الناس عادةً تتألم بضجيج، أما أنا فأتألم بصمتٍ يشجيني ويقهرني ويعذبني، لذا أرسمه بالكلمات التي سردت رواية وقصصاً، وهنا يجب أن أشكر حائط غرفتي، ونافذتها والأصدقاء الذين رحلوا، والأناس الكثر الذين كانوا يطلون علي وأنا ملقى فوق سريري، وهم كانوا أحياناً يدقون باب غرفتي بعد منتصف الليل، فأرسم أشكالهم وأحفظ أسرارهم، ونتبادل أطراف الحديث، ربما لأنهم يعرفون قسوة النوم المتواصل على السرير وغِلظة الوحدة.
في تلك الليالي الطويلة كتبت الكثير، قصاصات كثيرة، وأوراق لا تُحصى، وكنت أمام خيارين، إما أن أمزق كل شيء وهذا سيعذبني طويلاً، وإما أن أنشرها وهذا ما حصل فعلاً، ِأما لماذا؟ فلأنني أولاً في الثلث الثالث من العمر، وثانياً لأنني أعرف أو نُمي إليَ، بأن مخطوطات لكتاب معروفين، كان مصيرها سلة المهملات بعد رحيلهم، ولا أريد هذه النهاية الحزينة والمؤسفة لفلذات كبدي، والآن بعد صدورهما، تعمدت مؤقتاً إغلاق نافذتي نصف إغلاقة، لأنني أريد أن أستريح قليلاً، قبل أن أستقبل سماراً وزواراً ورفاقاً جدداً، ليؤنسوا وحدتي بأخبار النساء الجميلات والمقاهي والرحلات والأغاني البديعة والموسيقى ومعارض الرسم والشوارع وحكايا الناس الفقراء والأغنياء، والحواري والأزقة والمعامل والمزارع والمدارس والجامعات والصحف والمجلات والجبال المغمورة بأشعة الشمس، والمدن المفتوحة للقمر وللحروب والصراعات والنزاعات التي لا تنتهي.
معاناة جيل
*تُهدي القصص إلى نزار قباني في قصيدة “الرسم بالكلمات” ماذا يعني ذلك؟
-كلمات هذه القصيدة الرائعة، عبرت بشكلٍ جلي وواضح عن معاناة جيل، فقد تعبتُ وتعبنا من تساقط أحلامنا الواحدة تلو الأخرى، كما سقط معها أيضاً عادات وتقاليد كنا نظن بها خيراً، حتى تحولنا في هذا العالم المجحف والقاسي إلى مصابيح تبكي، ولا أحد يرى مأساتها، بل الكل تحول إلى جلاد، الكل ينتقم، الكل على الصعيد الفردي والجماعي، ثأر منا، كلٌ على طريقته، فكل المبادئ والغايات النبيلة والشعارات التي ناضلنا من أجلها حولتها شهوة الدم فينا إلى ركام وعذابات لا تُحصى ولا تُعد، أما لماذا نزار قباني، فلأنه نجم تلك المرحلة التي ابتلعها الطوفان بحنينها وأحلامها وآمالها، وكأني به يقول: وداعاً لزمن لن يعود، وداعاً لحبٍ وعواطف اندثرت، وداعاً لحقبة سقطت إلى الأبد، بعدما تغولت الخناجر والسيوف، وأصيبت بعمى أفقدها التفريق بين العدو، وبين الأخ والصديق. هل هذا يعني اليأس؟ أعتقد ذلك بالتأكيد ومن دون مواربة، فالياسمين والأزهار والورود والفراشات والعصافير والدنيا الجميلة، فارقتنا ورحلت ربما إلى الأبد. (youngmedicalspa.com)
في مجموعة “ظلال” لعب الحنين دوره في شد القارئ إلى حضرة الشعر والشوق والوجدان والسرد، ماذا تعني الأمكنة والزمان في هذه المفردات؟
الكاتب في سرده البهي واللماح، وفي لحظات أساه، تُشكل وتؤلف الاحتدامات السردية الشعرية الحافلة بالأشجان والهموم الشخصية والعامة أسس وركائز عملية البوح في حبكة مضبوطة، فتأخذ القارئ إلى عالم آخر يتدفق. أما المشاعر والأحاسيس الجميلة وحتى البشعة، فلا يصورها على أكمل وجه سوى الشعر، لذا من الضروري أن يكون الروائي أو القاص شاعراً، حتى يضيف إلى نصه بعده الإنساني والشفاف، ومن يقوم بهذه المهمة سوى الكلمة أو النغمة التي تُزين العبرات ببعدها الإنساني الزاهي والبهي، وإلا تحول إلى تقرير أو تحقيق صحافي، ننساه بعد لحظات من بثه، وهذه حقيقة موضوعية لا خلاف حولها بين أهل القلم والكتابة، لأن الإضافات إياها تُغني النص بصورة عامة وتُثريه بآفاق وأبعاد تثير مخيلة القارئ، والعين تتولى بعد ذلك عملية الانتقاء، أما الأمكنة فهي محج الذكريات، وهي المكونات التي تراكمت خلال سنوات العمر، وتسألين عنها؟ وماذا تفعل بنا هي والزمان؟ وما بين قطبيها عرفنا الفرح والألم، عشنا حياة كاملة، هي الطفولة حين كنا مثل ذلك المهر الشارد والمتمرد، المطل على الدنيا بفرح غمر كيانه، قبل أن يتحول الواقع والحياة إلى معلم، يقسو أحياناً ويحنو أحياناً أخرى، والأمكنة تعني أول حب، وأول راتب وأول نضال وأول ساحة أعلنا فيها رفضنا، قبل أن نطأطئ الرؤوس لقساوة ما حلمنا بها أبداً، وما بين الأمكنة والأزمنة عشنا عمرنا قبل أن ننتبه وأن نفيق على الشعر الأبيض وقد كسا الهامات، ولم نحظ بعد بفرصة فرح حقيقية، كنا نمني النفس دائماً بحصولها.
القرية وأحلام الطفولة
*القرية هي المآل والرجعة الأخيرة للإنسان، ماذا تعني القرية في قاموس الراوي الكاتب؟
-هي حلم جميل، من أحلام الطفولة، وزمن انقضى ولن يعود، هي المكان الذي نعمنا فيه بالأمان والسلام الروحي والمادي، لأنها ملعب من ملاعب أحلى الأعمار والبراءة، فيها كان يظن الكاتب بأنه سينعم بسكينة الروح والوجدان، وبقضاء آخر أيام العمر كما شاهد في الأفلام السينمائية، أو كما قرأ في القصص والروايات، كان المسكين يظن بأنها فردوسه الحقيقي، بعد أن أحب وعشق حتى (الثمالة) مدينته، لكنها وللأسف الشديد خذلته وخانته هي الأخرى، فهو أحبها حين كانت بيدراً وكروماً وساحةً وعين ماء وجراراً وناطوراً وسماءً فسيحةً وشمساً ونجوماً وأحلاماً، وحين كانت تعبق من حواريها روائح الصابون والزيت وروث البهائم. ويتعالى منها صياح الديكة ونباح الكلاب ونهيق الحمير وصهيل الخيول وثغاء الغنم وخوار البقر وهديل الحمام وتغاريد الصنادل والبلابل والحساسين، أما الآن فقد صارت مجمعات سكنية و”مولات” وخيماً بلاستيكية، وسيارات من أحدث طراز، وعلاقات اجتماعية معلبة تشبه إلى حد ما النمط الغربي.
والآن، الآن يفتقد قريته تلك، التي لا تزال في البال، متسائلاً بكل براءة: “من يعيد القرية إلى قريتي؟” فأي وحشة وقسوة بعد هذا النداء؟

*في رواية “العصافير ترحل أيضاً” تحكي الحرب، الحياة، المرض، الموت، العمر والشيخوخة، حكايا من الذاكرة. إلى أي حد يعطي الكاتب من ذاته ويتماهى مع نصه الإبداعي؟
-من الطبيعي أن يكتب جيلنا عن الحرب بموضوعية وصدق، وأنا اخترت معاناة الإنسان العادي في ظل هذه الحرب، والحروب عامة، والكاتب، عادة يتقمص شخصيات روايته، لذا في 173 صفحة، تألمت وكرهت وحلمت وانتقدت ورفضت وثرت ورضخت واستكنت وعشقت وتاجرت، ثم عدت، لكنني ما لبثت أن فررت ثانية، والناس أو الأبطال الذين أطلوا من نافذتي إياها، حكوا وشكوا وبكوا وصبوا جام غضبهم على الدنيا، وأنا دونت ما سردوه لي بأمانة، والرواية، كما أسلفت، تسرد حيوات مجموعة من أبناء الوطن الذين عانوا الأمرين من حرب أو حروب لا شأن لهم بها، وهذا الكلام قد يصدم البعض ويثير غيظه وغضبه، ولكنها الحقيقة، ولا أظن أن أحداً قد حظي بموافقتهم عليها قبل أن ينفذوها.
أما الكاتب فإنه يعطي من ذاته ويتماهى فعلاً مع نصه الإبداعي، فبطل الرواية سامي يشبهني في مرحلة قصيرة من عمره، لكنه بعد ذلك تحول إلى شاهد حي تجمعت فيه مجموعة حيوات للكثير الكثير من أبناء هذا الوطن الموزعين أو المنتشرين في أرجاء المعمورة، أما العودة إلى الماضي، فكانت بهدف إقامة مقارنة بينه وبين الحاضر، وأنا لم أتهم أو أدين بقدر ما أردت أن أصور بأمانة حياة الضحايا جميعاً، وهم كذلك، ما دامت لعبة الأمم قد حصدت سنابل أعمارهم، عند تناقض مصالحها مع مصالحهم، أما البطل الحقيقي برأيي، فهي المدينة بما تعنيه وبما تمثل، ربما لأنها تختصر معنى التيه الذي احتضن الجميع، لذلك تعمدتُ في بدايات الرواية وخاتمتها أن يتوجه البطل إلى الخالق عز وجل وفي مناجاة تختصر ضعفنا وعجزنا بقوله: “أيرضيك هذا يا رب؟ أيرضيك أن تُدمر بيوتنا، وتُقتل فلذات أكبادنا كل عشر أو خمس عشرة سنة؟”.
بين الخيال والواقع
*ما الفارق بين المتخيل الروائي والواقعية المباشرة، كيف نستطيع اللعب على وتريهما؟
-الفارق بينهما كبير جداً، كالفرق بين الرسام والمصور الفوتوغرافي، والروائي أو القاص لا يكتفي في سرده بالنقل الحرفي لبطله الموجود عملياً في رحم الواقع، وطريقة إخراجه ورسم طريقه هي اللحظة التي تحصل فيها عملية المزج بين الحقيقة والخيال. وأؤكد أن عملية نقل الواقع كما هو محدودة جداً، ولا تتجاوز العشرة في المئة، وإلا تحول المبدع إلى مجرد محقق في صحيفة أو مؤرخ أو ناقد في علم الاجتماع، وهذا بالطبع ليس دوره، لأننا حين لا نضيف من ذاتنا وفكرنا وخيالنا، نتحول إلى مرايا عادية باردة، أما المرايا الأخرى، وأقصد مرايا الملاهي، فهي الأحلى لانها تدهشنا وتثير إعجابنا، والجمع بينهما هو المهمة الأساسية التي تقع على عاتق الكاتب، وبقدر ما يوازن بينهما، يحقق النجاح المطلوب، لكن أريد أن أوضح بصدق أن خيالات وأطياف بعض أبطالي كانت تلاحقني في صحوي ونومي وفي حياتي اليومية، مثلي مثل ديك الجن الذي أنشد: “قولي لطيفك ينثني عن مضجعي عند المنام” مخاطباً في هذه القصيدة زوجه، وهذا ما فعلته معي “أمينة” التي كانت تطالبني بإلحاح أن أدعها وشأنها، وحين أتأخر كانت تصرخ في وجهي، كانت تبكي بحرقة، وهي المظلومة، لذلك أفرد لها فصلاً أطلقت عليه اسمها، وحين أنهيته، غاب طيفها ولم أعد أسمع صوتها، هل هذه أضغاث أحلام كما سيعتقد البعض؟ لكن المكتوب على الورق له رأي آخر.
*أي رواية هي المطلوبة اليوم؟
-لا أريد أن أكرر ما قاله إليوت بأن الكتابة تسلية سامية، لأنني في القطب الآخر أرى أنها بالإضافة إلى ذلك هي المعاناة، ولا يمكن للمبدع أن يظل مجرد شاهد يقف على الحياد، بل عليه أن يضيء شمعة وسط الظلمة الحالكة في مجتمعه، خاصة في عالمنا الثالث أو الألف. الرواية المطلوبة اليوم ودائماً تلك التي تحمل أنوار التغيير في الفرد والمجتمع والتي ترفض الظلم والاستبداد في شتى تجلياته، وتحارب الفقر والجهل والتخلف والمرض والخرافات والأساطير التي تعبث بأقدارنا، فهل يعقل أن يظل هذا الليل مهيمناً؟ وهذا التشتت والضياع واضطراب الموازين والقيم؟ أضف إلى ذلك تخلخل النظريات السياسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية، وما نتج عنها من فوضى عارمة، ومعظمنا ماذا يفعل إزاء هذه الكارثة سوى الثرثرة والتكاثر والتقاتل، وبعد ذلك نسأل: ما الرواية المطلوبة اليوم؟ وأمامنا هذه “المظاهرة” من الحقائق والوقائع.
*تقترب في كتاباتك من الشعر؟ هل كتبت القصيدة التي تحلم بها؟
-هذا الكلام صحيح وآثاره واضحة في كل ما كتبت رواية أو قصة أو مقالة، وفي ديوان “مكان في القلب” كتبت مجموعة من القصائد، لكن أحلاها تلك التي وجهتها إلى “أمي”، أقول فيها:
“تعبتُ/تعبتُ/يا أمي../ كل الكلمات/صارت خناجر/تجرحني/كل الأفكار/صارت لهباً/يكويني/خبئيني/دثريني”..