قراءة في ديوان

Views: 209

“لبنان.. إلى أين؟!” لـ عبد الحافظ شمص

د. سلوى الخليل الأمين
د. سلوى الخليل الأمين
د. سلوى الخليل الأمين

دَخَلَ مملكة القصيدة من أبوابها الواسعة، متكيّفًا مع بحورها والحداثة، فعبرت قصائده دفاتر الأيام، بهناءة شاعر استراح لهبوب رياح الشعر العابرة معه كلّ المواعيد والمناسبات، قاطفًا من داليات الحياة وعودها الدّانيات، الراشحة عطرًا وإبداع مواسم، تكلّلت بإشراقات دواوينه المتخطّية كل الفصول، وأحكام الزمان، ودروب الحبّ المعتليّة مواكب شمسه، التي أشرقت من رحيق حلم دغدغ مشاعره الوطنيّة وحساسيته المطلقة، التي رصدت الرؤى الجمالية والفنّيّة، ومكامن الخلل، بتلألؤ أفكار تماهت على مرايا الوجود ومضامينه، كإشعاعات ضوء تطلّ من أوجاع الزمان، التي حلّت على وطنه لبنان.. فكان ديوانه الجديد، الذي حَمَّله عنوانًا مثيرًا للجدل والنّقاش والذي يهم كل مواطن لبناني، يعيش في حالة المعاناة القاسية والمريرة، التي ترجمها الشاعر عبد الحافظ شمص بقصائده فكان عنوان ديوانه: لبنان.. إلى أين؟! الذي يتضمّن الكلمة الشعريّة التي يقول فيها” “.. إنّها تتخطّى في فاعليتها المسافة الشعوريّة وتستهدف كيان الشاعر، توقظه على تجارب جديدة في الوجود، والتّوجّه إلى الكلمة الشعريّة يفترض وجود الحافز…”.

شاعر وفنّان

لقد عرفت الصّديق عبد الحافظ شمص شاعرًا وفنّانًا واقفًا بصبرٍ على درب الجلجلة، متمنطقًا يراع الفكر والشّعر، ضاربًا بهما عثرات الزّمن المتغيّر والمتبدّل، ناشرًا على الملأ قصائده ارتشافات حبّ وجرعات أمل، وانتظارات قيامة لوطن أراده الحلم الجميل المستوطن ذاكرته على الدوام.. لهذا تكثّفت تساؤلاته الشعريّة الصارخة بالألم، النازفة وجعًا غطَّ على مراح الزّمن ومشقّات العمر.. جداريّات رُؤى، تحاول نفض غبار الأحزان التي تأسر الوطن وتُؤطّره ضمن تعرّجاتٍ تُحاكي الغد الآتي، حين سُؤاله هو العنوان: “لبنان.. إلى أين؟!”.

عبد الحافظ شمص، لم تأخذه أنانيّة الأَنا إلى مطارحها المهلكة والمدمّرة.. وهو الصحافي والكاتب والشاعر والفنّان، إضافة إلى موقعه الرّسمي في الوظيفة العامة في مجلس النّواب اللبناني، بل بقيت الكلمة الشّاعريّة لديه هي المتنفّس الوحيد لعمق معاناته كشاعر وكفنّان رهيف الأحاسيس مؤمن بتحرير الضّمير، يطلق من جوف الظّلم والقهر.. صرخاته، التي يحاول رسمها بالكلمات، إنطلاقًا إلى بذر الوعي، الذي يرنو إليه.. فجرًا جديدًا، مكلّلاً بالغار.

لهذا كلّه، أخذت الكلمة معه تلبس ثوبها الثرّ، وتأخذ مداها الواقعي المرموق، مستريحة على متون قصائده المترفة في دقّة اللّفظ، وجماليّة العبارة الشاهدة على وقائع الحياة المؤديّة إلى رصد الأشياء، القابلة إلى التّطوّر، الدّاخلة في مدارات الأنسنة، التي تلامس الضّمير عبر مواقفه، التي تستحيل من خصوصيّة إلى عموميّة، وترتفع إلى حقائق، تستقرّ في عين الشّمس، حين وطنه لبنان هو الأهم، وحين المواطنة الصحيحة في قاموسه هي الهدف والرّجاء، حيث لا احتمال لازدواجيّة المعايير والمفاهيم والقناعات، بل هي تعبّر تعبيرًا دقيقًا عن معاناته كمواطن، وعن احتياجاته إلى بيئة وطنيّة صافية وحاضنة، تمكّنه كما غيره من اللبنانيين من أهل الفكر والقلم، من بلوغ مراتب الإبداع، في مختلف مجالات الحياة، التي رسمت لبنان سابقًا، وطنًا للإشعاع والنّور.

مناجاة الوطن

Dr-S

       من هنا كانت صياغة قصائده الوطنيّة تحت عناوين متداولة في واقعنا الحياتي، ومنها مناجاة الوطن وما يكرّ به من أحداث مؤلمة، إضافة إلى تأييد مؤسسة الجيش اللبناني التي يعتبرها الرّمز للوحدة الوطنيّة، وكذلك تحيّته للمقاومة وللشهداء في معلولا والهرمل وفي كلّ بقعة من لبنان وسوريا وفي هذا العالم العربي الغائص في الرمال المتحرّكة، فكانت بعض عناوين قصائده: لبنان والعيد، إلى أين يا لبنان، الجيش، السّفهاء، عَبْرا، إنهض وقاوم، الوطن، إلى شهداء معلولا، إلى شهداء الهرمل، وغيرها من قصائد، وضع الشاعر القارئ والمتلقّي من خلالها أمام تحدّيات النّفس، التي تُعزّز عاطفة الإنسان الحرّ، حين يستوطنه القلق على المصير والمسار، فيجد الشّاعر نفسه يطرق أبواب العواطف المرهفة، بتساؤلات تهم جميع أبناء الوطن، وبعفويّة الإنسان المؤمن بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة، القادر على تطويع قلمه من أجل كشف الحقائق الزّائفة والهدامة، وعبر نسج الأفكار في قصائده.. اجتراح معجزات، تهدف إلى التّغيير، حيث معركة الشاعر الشعريّة، لا تدور بينه وبين ذاته فقط، إنّما تطال المجتمع ككلّ، بكلّ طموحات  بنيه، وتفاصيل حياتهم اليوميّة، بما فيها من تناقضات وتأزّمات تستدعي الشاعر والفنان والأديب إلى عدم الوقوف على الحياد، فللشّاعر كلمته، وموقفه المتّصل بالوجدان العام وبإبداع الواثق من مصداقيّته في تسليط الضّوء على الخلل القائم في الوطن، إضافة إلى تحسّس الأفق الذي ينشد الضّوابط المجتمعيّة، والمصائر الواعدة، دون أي غرق في متاهات تؤذي الآخرين، لأنّ الشاعر، كما هو واضح في ديوانه الذي بين أيدينا، آمن بمضمون الكلمة الشعريّة هدفًا من أجل الوصول إلى الحقيقة والجمال النّفسي والطبيعي، إضافة إلى ضبط كل الإيقاعات التي تخلخل مسار الوطن والمواطن، على حدّ سواء، من منطلق الإيمان بقول الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير “Gustave Flauber” عن: “أنّ الشعر لا يحاكم بصفته نتيجة متعالية أو تدقيقًا تاريخيًّا بل بموجب صفاته الجماليّة”.

قصائد محبوكة بالنّغم

الشاعر عبد الحافظ شمص، أطلّ على مشارف الزّمن، المحكوم بصفاء الذّهن وصدق العبارة، المتآخي مع سرديّة النّصّ الشّعري، مشهود له حياديّته الإيجابيّة خلال المواقف العاصفة والمؤلمة التي تهز كيان الوطن، لهذا كانت القصيدة لديه، محبوكة بالنّغم، والروح الشّعرية المترسلة في زمن الالتواءات والقهر والظّلم، بحيث أتتنا قصائده في ديوانه “لبنان.. إلى أين؟!”، كي تضع الأصبع على الجرح، محاولة وقف النّزف العام، والاستهتار بمصير الوطن، الذي يتفاعل تناقضًا وتصادمًا، ومناظرات كلاميّة لا تمسّ المصلحة الوطنيّة العليا.. لهذا يعبّر الشاعر، بحياديّته المؤمنة بالوطن، ودون أيّ انفعال أو تأثّر مباشر بحوليّات الزّمن الصّعب، عن معاناته الصّعبة، وهو يرصد الحالة المأساة، التي حفرت خطوطها على مساحات الوطن.. بالقول: “إلى أَينَ يا لبنان، يحملك القدر/يقودك رُبّانٌ عميلٌ وَمُحْتَقَر../ إلى أَين تمشي والعدوُّ أمامنا / وَمِنْ خلفنا، والنّار فينا سَتَسْتَعِر/سؤال من الأعماق يشغل بالنا / هل العقل في دنيا العروبة يُحتَضَر؟!”.

من هنا نجد ونحن نقرأ ديوانه “لبنان.. إلى أين؟!” كلّ القضايا الوطنيّة مقولبة في قصائد هي الذّات الوطنيّة في لوحه المحفوظ، وهي الحقيقة في بَريّةٍ، أشواكها غطّت أَسوار العقول والضّمائر، بل هي نثار الأحلام التي أفلتت من عقالها أناشيد رسوليّة موجعة، ترقّ في تعابيرها حينًا، وتشتدّ قسوة تارة أخرى، وتهدأ حين الأمل هو الفرج القريب، الذي ينتظره الشّاعر، المتفائل بقيامة لبنان من جديد، لإيمانه أنّ هذا الوطن، الذي يحرسه جيش وطني ومقاومة جديرة بالاحترام، لا يمكن لأيّ قوّة، مهما علت، أن تسقطه عن خارطة الوجود.

أختم مهنّئة شاعرنا القدير الدّكتور عبد الحافظ شمص على ديوانه الجديد، الذي يثير في نفس القارئ، لذّة التّأمّل والتّفكير الجاد، مؤكّدة على قوله في قصيدة الوطن “ص 30”:

“لله يا جبلَ الصمود بموطني / لكَ كلّ ما تبغي بكلّ تَجَرُّد/لله يا بطلاً تقدّم، هازئًا / بالموت، لا يثنيه فِعلُ مُعَرْبِد/لكَ في قلوب المؤمنين مراتبًا / تسمو وأَنت المفتدى والمفتدي”.

——————————-

* كلمة رئيسة ديوان أهل القلم، وندوة الإبداع د. سلوى الخليل الأمين في حفل توقيع ديوان “لبنان.. إلى أين؟!” للشاعر د. عبد الحافظ شمص، القصر البلدي- الغبيري.

————————

  • نقلا عن جريدة “الأنوار” الصادرة اليوم الاثنين اواقع فيه 7/9/2015
  • يمكن قراءة المقال في “الأنوار” (الصفحة الثقافية) على الرابط الآتي:                                                                          http://www.alanwar.com/article.php?categoryID=10&articleID=279511
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *