أدونيس وجدلِيّةُ الجَمال

Views: 577

د. جورج شبلي

(بمناسبة تكريمه في الجامعة الأنطونية )

عندما مَدّت الحداثة رأسها في الفكر والشّعر، انتفض التراثيّون وكأنّ التقليد قد عُقِص. ولم يقفوا على حقيقة

أنّ الحداثة ليست مفهوماً معقّداً ومشوّشاً، بقدر ما شكّلت انفتاحاً تاريخياً شاملاً، أو هي حركة لها إيديولوجيّتها ومنطقها الذي يشير الى التطوّر العقلي، والى التغيير في الذهنيّة السوسيونفسية للمجتمعات.

أدونيس فهم الرابط بين الحداثة والتقليد على أنه علاقة إنبثاقيّة لا تعارضيّة، وهما يتكاملان بسيرهما في اتّجاه واحد ولا يتعاكسان. من هنا، لم يختزل نتاجات الكلاسيكيّين في الأدب والفكر، أو يتنكّر لإنجازاتهم المتعاقبة في الزمن، لكنّه لم يحشر نفسه في التكرار، واعتبر أنّ التجديد حالة مشروعة يقتضيها الخروج من النمطيّة الى الإبداع. وإذا سلّمنا مع أدونيس بأنّ الحياة نهريّة، أي تتجدّد باستمرار في تحوّلات مُلزِمة، وهذا قدَرها، فمن الممجوج ألاّ نماشيها فلا نتنكّر للمدنيّة التي وحدها تنجّي شجرة الحياة من الذّبول.

أدونيس أقام للحداثة في الشعر سوقاً، وعلّق أجمله على سور ذاكرة السنين. والحداثة لا ترتبط بالأمزجة، إذ اعتبرها بعضهم سلوكاً فردياً مُعقلَناً، أو تحرّراً شخصياً فانتازياً. إنها اتّفاق بين الفكر الحالِم وتحميسه على التجاوز، أو هي لعبة العقل الذي بقدر ما يسعى للهروب من أُطُره الإحتوائيّة، بقدر ما يسعى الى نقلها نوعيّاً صوب الإنفتاح والتأقلم مع الجديد. من هنا، فالحداثة مع أدونيس عبقرية، “والدّهر مِلك لها وحدها”. أمّا “الثابت والمتحوّل”  في هذا الإطار فيشكلاّن خلال مجرى فكره طِباقاً يجعلهما متنافِرَين تارةً ومتّفقَين طوراً، بحسب الحبكة التي يزاولان فوقها لعبتهما.

أدونيس محاضرًا خلال حفل تكريمه في الجامعة الأنطونيّة

 

إنً المحرّك الجوهري لجدلية الجمال في حداثة أدونيس، هو رميُه الى إقامة نموذج لعالم خاضع للإبداع، وعلى مرأى من الجميع. وهذا النموذج هو انعكاس من شأنه أن يجسّم في عالم الأشياء الحسيّة واقعاً شخصياً داخلياً يفرض الخلق لا التعبير، وهو ليس انعكاساً للنفس بقدر ما هو تفسير لها. والجمال معه استباق حقيقي للإدراك، أو مُنَبِّه هندسيّ يتقابل عنده المعلوم والمجهول بالمواد التي صُنِعا منها، يستحضرهما الذّهن لإعداد أصالة الصّورة في قوّتها الإيحائية. وكأنّ الصورة لا تدعم ما هو كائن، بقَدر

ما تتوقّع ما يمكن أن يكون، من هنا، فإيعازه ” تكلّمْ مع الهواء لكي تعرف كيف تصغي الى الشّجر ” هو تحديداً سلوك المسافة بين الصّمت والصّراخ.

يبدو أدونيس وكأنه يريد التخلّص من الزمان أو هو يرغب في قهره، ليبني ذاته في صروح اللاّزمني خارج المواضيع المتغيّرة. وهذا مثالٌ لقانون وجده البعض إفراطاً في التخيّل، لأن ليس له شبكة مفاهيم مطابقة تحصره، وما من مصفاة مفهومية تصوغ شروطاً أوّلية كافية لإمساكه. فالزمان حدود كدّست مواداً لا معنى لها ولم تنتِج فرضيّة الربح الأكبر، بل شرّدت المعرفة نحو نشاط الشّعور. لذلك، يرى أدونيس أنّ عالم اليقظة الفتّانة يثير الشّغف لإشباع الرّغبة لا الإمتلاء فتفقد الحقيقة الكثير من وضوحها، حتى أنّ الرغبة تخلق سلسلة من الأشباح تصبح  أثمن من الحقيقة ذاتها، وفي هذا السّياق اعتبر “فلوبير” أنّ الرغبات هي في أكثر الأحيان أجمل ما تمتّعت به الحياة. وأمام هذا التشوّش الذي يشبه “التحولاّت والهجرة في أقاليم الليل والنهار”، يصعّد أدونيس استحضاره لصورٍ تسمو بالحياة فوق ما يثقلها.

لو سلكنا مع أدونيس مجرى الإبتكار الخصيب، لوجدنا أنّه لم يخيّب ظنّ اللغة التي استبان دوره في تحوير تعبيرها نحو الصّفاء. فاللغة مع أدونيس هي إوالية المعرفة أو جسمها الناطق، ومهما اكتنف بعضَ رموزها من غموض، تندحر ألغازها أمام مراسم التمتّع بنقوشها هذه التي حُفرت على النمط الجمالي. من هنا، ومهما أُخضِعت لغة أدونيس لنقدٍ في تركيباتها بنصوص صعبة، غير أنها ما فقدت معالم حيويّتها ولم يصبها الإمّحاء إذ أبرزت لنا أدباً غنيّاً متشعّباً، وذلك من دون أثوابها البالية. وإذا كانت الكتابة الشعرية العربية قد تحرّكت في إطار فرديّ وشبه منعزل عن المحيط الثقافي، فأدب أدونيس، ولا سيّما قصائده الحرّة في رموزها الجمالية والفكرية، هو نوع من نبضٍ كونيّ.

أدونيس يحمل في ذاته قضية لم تترهّل عندما نقلها الى الشمس، وبالرغم من فاعليّتها لم يستشعر نشوة الفوز. هي المرأة التي تحيا مصيره بالذات لذلك لم تولد للوَأد، وقد وجدها أدونيس نسخة صادقة عن الإحساس، أو ينبوعاً لمادة حرّة لا تخضع لتركيبات العقل، إنها نوع من التصوّر الكونيّ أو ” مفتاح معرفيّ لاكتشاف العالم “. وإذا كان جسد المرأة قادراً على “تمزيق التاريخ”، وقد فعل، فكيف إذا حرّرنا قواها الإدراكيّة الرّاقدة لتوافق جوهر النموذج الإنساني بالذات؟ وإذا سلّمنا بأنّ أدونيس يتبنّى ظاهرة النظرة المثالية للمرأة، وقد يكون متأثّراً بمفهوم التبلور عند “ستاندال”، فهذا يُلغي ما ذهب اليه بعض الإغريق من أنّ المرأة شجرة مسمومة، إنها شريكة الإسهام بوجودٍ أسمى.   

وبعد، هل يعني الصدى الوجداني عند أدونيس أنه قريب من الصوفيّة، أم انّه فقط حالِمُ يقظة؟ هو ليس متصوّفاً إذ يتبنّى “نيتشه”، لكنه شاعر تحرّرٍ يبعده عن كلّ ما يقيّد بالأشياء، فيطغى عنده عمل المخيّلة التي بها يتكوّن اسلوب البحث عن الإبداع. والإبداع أماميّ كالرّيح، “والرّيح لا ترجع القهقرى”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *