“تراتيل السواقي”… عنوانها اسمُكَ ودليلها الكتاب!

Views: 492

د. عماد يونس فغالي

أن يقدّمَ إليكَ شاعرٌ أبياتَه مكتوبة، هو يدعوكَ لتقرأ شخصيّته حيث أراد أن يثبّتها ويعرضها للناس.

هذا ما يقدّمه غسَّان نفّاع في كتابه ههنا. داليةٌ اعتصرتْ موهبةَ شعرٍ، أودعها دنانَ العتمةِ، ضرورةَ اختمار، فاستحالت معتّقَ خمرٍ، أحالت موائدَ ربّةِ الشعر سكرى من جمال!!!

قصائد غسَّان في باكورة نتاجه أطباقٌ ملوّنة المواضيع تراعي أذواقًا مختلفة وتهدي كلاًّ وفقَ شهيّته.

قد يقال، ماذا يبقى من الشعر الزجليّ الهاتف فولكلورًا مغنّى، عابقًا بالتراث، إذا دوّنَ على قرطاسٍ جافّ جامد؟

شعرُ غسَّان ينقض القولةَ، بل يعطي برهانًا على أنّ الزجل مضمونٌ في صورةٍ شعريّة يهدي إفادةً إلى المتعة!!!

أمّا إذا نظرنا إلى ألوان الزجل، وجدناها شبه متوفّرة جميعها في الكتاب، لكأنّ شاعرَنا في حفلةٍ منبريّة، يقول المعنّى والقصيد، ينوّع بالعتابا والميجانا ويختم بالموشّح الغزل.

في أوَّل تصفّحٍ  للنصّ، تلقى إهداءً، تحاول قراءته وزنًا وقافيةً، فيكلّمكَ بسيطَ النثر المحكيّ تشكّيَ واقعٍ  يؤلم الشاعر فيبعث إلى  رهيف إحساساته: “لضيعتي وأهل ضيعتي اللي غصبني الزمن والظرف وجبروني إبعد عنها…”

في هذا الإهداء فرادةٌ، شكلًا من حيث نثريّته كما سبق، والشعراء بعامّة يقدّمون إهداءاتهم أبياتًا تعرّف بهم شعراء. ومضمونًا في وضع إطارٍ تعريفيّ لشخصه الضيعويّ وارتباطه العضويّ بهذا الانتماء!

أمّا شخص غسَّان الشاعر، ففالشٌ على الديوان منذ الصفحات الأولى. قصائدُ كاملة عالجت موضوع الشاعر، وعرّفتْ به، (عرزال الشعر، قنديل الشعر، قلب الشاعر… شعر وشاعر، عمر الشاعر)، تنقلُ مفهومه في ذهن صاحب الكتاب، وقناعته في الشخصيّة التي يتّصف بها. ولم يرتوِ شاعرُنا من مقاربته الموضوع، وربّما لم يقتنعْ أنّه أشبع مخزونه الشعريّ منه، فكان له في كثيرٍ من القصائد ذكرٌ، جاء بطبيعيّة لا تخدشُ مدى الاحتمال، بل بعث في مكانٍ  على الدهشة، إبداعَ صورة:

وبعدما ربّي الأمانة يعيد

                       البدّو يجي ويزورني شي يوم

         رح كون ساكن بيقلب ديواني

وغنيٌّ النصّ بالقصائد الضيعويّة في الحياة اليوميّة. كأنّي بالشاعر لم يكتفِ بإعلان انتمائه لقريته، بل نظم لها ولأشخاصها وتقاليدهم. الجميل في أبياته أنّها تعرضُ لهذا التراث بأمانة، فتتجلّى صورةُ الضيعة أمامكَ مشهديّةً واقعيّة، تخال نفسكَ تشاركُ فيها. وإن كُنتَ ممّن عايشوا هذه الحياة، لا يمكنكَ إلاّ تصوّرُ امتدادًا لما مرّ معكَ من أحداثٍ وأشخاص. كم منّا على سبيل المثال يجد في قصيدة “ستّي”، صورةَ جدّته شخصًا وسلوكًا، وكلّنا يهتف مع غسَّان: “…لا تسألونا ليش منحبّا”.

غسَّان، ملأتَ الديوانَ خمرةً من عتيقِ دنانكَ الشعريّة، التي يليق بمحبّي الشعر اللبنانيّ الأصيل، تذوّق طيّبها رشفاتٍ، تلذّذَ حنينٍ وتمتّعَ جمال. وهم، إن ارتشفوا ثمالةً حتى أتَوا عليه، يقينُهم أنّ الخمرةَ الجيّدة تأتي متأخّرة على ما صار في قانا الجليل، وهي تعدُ بمآدب مفتوحة لا تنضب، يبقى عنوانُها اسمُكَ ودليلُها “تراتيل السواقي”. الكتابُ هذا، في دلالاته إبداعٌ وارتقاء!!!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *