حول كتاب “مئة عام على الحرب الكبرى 1914 – 2014”

Views: 1177

 د. سحر نبيه حيدر

  “مئة عام على الحرب الكبرى 1914 – 2014” كتاب في جزأين صدر عن المركز الدولي لعلوم الإنسان – جبيل، برعاية من منظمة الأنيسكو، وبإشراف وتحرير كل من الدكتور جوزيف أبو نهرا والدكتور منذر محمود جابر والأستاذ نايل أبو شقرا.

    جزآن من الحجم الكبير، يقعان في 332 صفحة، و336 على التوالي. الجزء الأول يحمل عنواناً إضافياً، يبرزان هاجس المنظمة الداعمة لتأليف هذا الكتاب، وهو ما يطل علينا من العنوانين الصغيرين الذين يستظلان العنوان الكبير للكتاب: “مئة عام على الحرب الكبرى 1914 – 2014″. العنوان الصغير الأول يأتينا على شكل تساؤل قلق”السلام متى ربيعه“، أما العنوان الإضافي للجزء الثاني يأتينا على شكل صرخة تطل كذلك من صفحة الغلاف “السلام يا أهل الأرض“.

   العنوانان يوضحان الهدف الأول من الكتاب، السلام أولاً، والسلام ثانياً، والسلام عاشراً، وألفاً….السلام على هذه الأرض، قبل أن تغدرنا الأحداث الأليمة وعلاقات ما بين الدول، فتكون الحرب الكونية الثالثة، بدمارها الشامل بالتأكيد، فيصحّ عندها القول جملة الوداع الأخيرة، وجملة الندامة والأسى، “على الأرض وإنسانها السلام”.

المضمون الغني

   مهمة التأليف قام بها واحد وثلاثون باحثاً، أساتذة جامعيون وباحثون لهم “كلماتهم في مجال البحث، وتحديداً في مجالات مباحثهم حول قضايا عشية الحرب وغداتها في منطقة الشرق الأوسط، توزعوا واحداً وثلاثين موضوعاً، تدور على جوانب الحرب الأولى أسباباً ومراحل ونتائج. وتدور عليها اجتماعاً وسياسة وعسكرة واقتصاداً وثقافة. بحيث تغطي وتشتمل على جغرافيا واسعة من ميادين هذه الحرب في أوروبا وفي الشرق الأوسط إلى بعض أفريقيا. هذا، إلى عدد من الموضوعات البارزة في أثناء الحرب دون أن يكون لها ثأثيرات حاسمة في مساراتها، شأن أوضاع المرأة في الحرب و”أدباء أوروبيون في الحرب و”الصليب الأحمر والهلال الأحمر “وخسائر الحرب”.

   ومواضيع الكتاب تحدد ما غفل عنه العنوان، من أن مهمة الكتاب هي الحديث في المحددات التي كانت تحكم منطقة الشرق الأوسط عشية الحرب، والمحددات التي راحت تفعل في هذه المنطقة غداتها. فما يدور من الحرب في أوروبا يشغل مبحثاً واحداً “الحرب في أوروبا والجبهات الحاسمة” (د. جوزيف أبو نهرا)، من مباحث الكتاب الواحدة والثلاثين، أما المباحث الثلاثون الباقية، فهي تغطي كل ما يشكل هيئة الشرق الأوسط ومحيطه السياسي الكبير، المتمثل بالسلطنة العثمانية، من نزاعات وشقاقات قومية وسياسية وعسكرية واقتصادية، كانت تغتلي في السلطنة العثمانية. فالجزء الأول من الكتاب يتناول “المسألة الشرقية: بوابة الحرب الكبرى” (د. جورج قرم)، و”أزمة الدولة المالية عشية الحرب” (د. عبد اللطيف الحارس)، و”الأقليات في السلطنة العثمانية عشية الحرب بين نظام الملل والحماية الأوروبية” (د. سعاد أبو الروس سليم)، و”بداءات الفكر الإصلاحي والوعي القومي في الاجتماع العربي” (د. هدى نعمة)، و”الفكر السياسي والحركة الدستورية في السلطنة العثمانية عشية الحرب” (سليمان تقي الدين)، و”انقلاب 1908 الدستوري وعثرات الإصلاح” (د. سناء أبو شقرا)، و”الجمعيات والاتجاهات السياسية اللبنانية 1914 – 1918″ (د. عصام خليفة)، و”وثائق من الأرشيف الفرنسي حول حركة الإصلاح البيروتية والمؤتمر السوري العربي الأول والخلافة الإسلامية” (وجيه كوثراني)، و”الجيش التركي في لبنان: الحكم المباشر في المسائل الوعرة” (جوزيف وأدونيس نعمة)، و”تأثير الحرب على الصحافة العربية” (جان داية)، والثورة العربية بين النجاحات العسكرية والإخفاقات السياسية” (نايل أبو شقرا)، و”الشرق الأوسط 1914 – 1918، تشابك الوعود الأوروبية” (د. شفيق المصري)، و”جبهة السويس وبداءة التراجع العثماني في المشرق” (العميد الركن الياس فرحات)، و”المعارك في المشرق العربي بعد حملة السويس ودور القوات العربية” (العميد الركن سامي ريحانا)، و”الحرب الكبرى في مذكرات ثلاثة من القادة: جمال باشا وصبحي العمري وعزيز علي المصري” (محمد السعيدي). 

    أما الجزء الثاني فيتناول “الحصار البحري خلال الحرب: أهدافه، تطبيقه، ومضاعفاته” (د.أنطوان حكيم)، و”الجراد والأمراض والأسعار في جبل لبنان ومحيطه 1914 – 1918″ (د. فادي توا)، ومعاناة اللبنانيين في الحرب ودور الجمعيات والأفراد ومواقفهم” (د. طوني يوسف ضو)، و”في المجاعتين” (د. جوزيف معوض)، و”الهجرة اللبنانية عشية الحرب وغداتها” (د. بطرس لبكي)، و”عمليات إبادة الأرمن خلال الحرب” (د. ريمون كيفوركيان)، و”الحرب العالمية الأولى ومسألة النفط” (د. دعد أبو ملهب)، و” التوازنات الدولية بعد الحرب” (د. الياس أبو عاصي)، و”تحديات بناء الدولة الوطنية: تجربة لبنان الكبير: أحلام وعقبات” (د. فاديا كيوان)، و”تركيا من السلطنة إلى الجمهورية” (د. محمد نور الدين)، و”من بداءات الوعي الوطني بمخاطر المشروع الصهيوني إلى هبّة البراق” (د. ماهر الشريف)، و”من الحرب الكبرى إلى حركة العصابات السورية 1919 – 1921) (د. نادين المعوشي)، و”دولنة المواطنية في المجتمعات العربية أو العلاقة المعلقة بين المواطن والدولة” (د. أنطوان مسرة)، و”المشروع النهضوي والإصلاح الديني” (خالد غزال)، و”مشاهد من التعليم في لبنان قبيل الحرب وبعدها” (د. منذر محمود جابر).       

   ومما ساهم في إغناء هذه الأبحاث، إضافات قامت بها لجنة الإشراف والتحرير، تمثلت بإضافة نصوص تاريخية موثقة (وضعت ضمن كادر ذي خلفية زرقاء)، مستلة من مصادر عايشت مراحل من الحرب، أو مراحل من الحدث موضوع البحث. وتمثلت كذلك بإضافة إيضاحات (وضعت ضمن كادر ذي خلفية صفراء)، وفيها ما يؤكد أحياناً مذهب الباحث في تحليلاته ورؤيته، أو أنها تمثل رأياً مجانباً، أو حتى متناقضاً تماماً، لما يقوم عليه كلام الباحث ووجهة نظره.

الأسلوب هو الكتاب

   الكتاب فريد في منهجه وروايته للحرب، فهو بعيد عن جفاف الأبحاث الأكاديمية الصارمة، حيث لا يستطيع القارئ متابعة البحث واستثماره، إلا إذا كان صاحب غاية منه، في بحث عتيد يباشره حول الحرب، فهومضطر والحال هذه، لأن يتابع القراءة، المضنية غالباً، من موقع “المعتاز” وصاحب الحاجة. أما منهج الكتاب فهو يجمع بين نفَس المصنفات الأكاديمية، وبين نفَس المقالة الصحفية. وهذا ما حتم، على ما يبدو، التخلص من صيغة الإشارة في هوامش الأبحاث، إلى مصادرها ومراجعها. وهذا ما حتم كذلك، تكثيف الخرائط والصور للأحداث والأشياء والأشخاص في متن النصوص، لأنها تكسر جفاف الصرامة الأكاديمية وتخصصيتها. وعلى هذا بدت ال 760 صورة الموجودة في الكتاب، والفريدة في مجملها، وكأنها من صلب الأبحاث، لما تقدمه من توضيحات تساهم في تقريب دلالات النصوص وإساغتها للقراء. أو لما  تقدمه من وسائل إيضاح مرئية للعديد من جوانب الحرب: قادة وجنوداً وأسلحة وخسائر وخنادق وميادين…

   وينبغي أن ننوه بغنى مكتبة أبحاث الكتاب، في مصادرها ومراجعها، إذ تبلغ الـ 430 مصدراً ومرجعاً (264 باللغة العربية و166 باللغة الأجنبية). كذلك يستوقفنا الثبت الوافي لكرونولوجيا الحرب وأحداثها الكبرى (16 صفحة)، والفهارس الشاملة للأشخاص والأمكنة.

     ولا يفوتنا هنا أن ننوه، بإطلالتين في الكتاب: الأولى “أدباء أوروبيون في الحرب”، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من بقي حياً وبدّل في قناعاته وصار داعية للسلام، بعدما عايش من الحرب خوفها ومآسيها.  

   والإطلالة الثانية وتطال “المرأة في الحرب”، وهو دور حاسم في متابعة الاجتماع الإنساني حياته، لدى كل من المعسكرين المتحاربين. دور النساء كان حاسماً في كل مقاليد الحياة ومغاليقها، دون أن ينال هذا الدور بالاعتراف من قبل الهيئات الفاعلة في الاجتماع الإنساني، وهذا ما يؤكد “نقص” النساء في حظوظهن من الدنيا، مع عدم الاعتراف بجميلهن في حفظ المجتمع، يوم يطلق الرجال العقال لنرجسيتهم في القتال وشهوة الدم. وهذا ما تقودنا إليه سيرة واحدة ممن داولوا هذه الحرب وأبلوا فيها، نختم بها عرضنا لهذا الكتاب الغنيّ والفريد، وهي الصربية ميلونكا سافيك، التي شاركت مباشرة في جبهات الحرب، يوم لم يكن مألوفاً بعد، أن تقاتل النساء إلى جانب الرجال في المعارك.

 نالت ميلونكا سافيك مداليات ثلاثة، وحصلت، وهي الصربية، على تقدير من فرنسا التي منحتها وسام جوقة الشرف، فكانت المرأة الوحيدة التي نالت هذا الوسام. وحصلت أيضاً على وسام القديس جاورجيوس من روسيا، ووسام القديس ميخائيل من إنكلترا … بالتالي كانت الأنثى الوحيدة التي نالت أكبر عدد من الأوسمة في الحرب العالمية الأولى تقديراً لبطولاتها العسكرية.

    بعد نهاية الحرب، تم تسريحها من الجيش سنة 1919، واختارت متابعة حياة بسيطة في بلغراد … وفي مرحلة ما بين الحربين، نسي النّاس بطولاتها وأفل نجمها، فمارست الأعمال اليدوية البسيطة كي تكسب عيشها، لأنها كانت شبه أمية واستقرّ بها الأمر في شركة مصرفية في بلغراد حيث اشتغلت كعاملة تنظيفات…

  “مئة عام على الحرب الكبرى 1914 – 2014“، كتابٌ جدير بالقراءة كسيرة ميلونكا سافيك، وجدير بالاقتناء.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *