قراءة في “رحلةٌ في الذّاكرة”- دير مار شلِّيطا- القطارة للأب سيمون عبّود

Views: 1446

سليمان يوسف إِبراهيم

جميلٌ أن نفيَ أُمّنا الأرض حقها من الحنوّ علينا، والأسطع ميزةً، أن يكون الوفاء طبعًا راسخًا فينا لنتمكن صادقين من العيش بما يمليه علينا، تجاه الأَرض وفي تعاملنا مع إِنسانها، خلّنا وصنونا في وادي الدّموع.

الأب سيمون عبُّود، واضع الـمُصنَّف “رحلةٌ في الذَّاكرة”، لم يشأ أن يمرَّ بوقف “القطارة” –دير مار شليطّا، راهبًا عاديًّا يولي مذبحه الإهتمام بالفروض الدينيّة وأَرزاق وقفه كدّ الأيام مرويا التربةَ من عرق الجبين، موليًا كل ذلك ظهره نزولًا عند أَمر الطّاعة، فور حلول فجر أيّ تغييرات يفرضها صدور أيّ  تعيينٍ فحسبُ.

إنَّه الكاهن النشيط الممعن في الحركة وأَخذ المبادرات الكبرى دومًا. ولم يشأ من خلال إِقامته في دير القطارة أن يكتفي بإنبات الأَرض خيورًا، وإِفاضة الأَشجار المثمرة بوفرة المواسم إبَّان مواعيد الجنى ويستريح… بل أَلحّت عليه ريشة القلم كما كانت تصرُّ عليه أَدوات الحقل… 

وكما كان معوله يستحثُّ الأرض أن تورق وتثمر، هكذا أَلحّ عليه قلمه أن يسنخرج من معين علمه الجم وثقافته الواسعة كتابًا يحكي حكاية أرض وقف مار شلِّيطا في القطارة، نتاجًا غير مسبوقٍ يودعه مكتبة الرّهبانيّة اللُّبنانيّة المارونيّة التي هو أَحدُ أَبنائها البارِّين والتي يوجّه لها إِهداءه في صدر مُصنَّفه قائلًا: ” بعضٌ من دينٍ، إلى رهبانيَّتي اللُبنانيّة المارونيّة”. 

بعد مطالعتي لهذا الكتاب الباكورة الشّيق، بما يقدِّمه من معارفَ ومعلوماتٍ دقيقةٍ المتجلبب بعباءة التأريخ الحضاري لسيرة نشوء الدِّير ومراحل بنائه وتوسّعه أَملاكًا؛ وجدتُ كاتبه وقد انضم إلى نادي الكُتَّاب، متمنطقًا بعتاد الباحث الحقّ من الموضوعيّة، فالدِّقة  والأمانة في بث المعلومات والمعارف لقارئه، مقمِّشًا المعلومات جامعًا للحقائق موثِّقًا لكل ما يورده… وبالطّبع، لو لم تكن الكتابة في الموضوع وليدة رغبةٍ مكينةٍ لما تمكّن من تحمُّل مشاق البحث في غياهب المحفوظات والسهر والمجالدة سعيًا خلف كلّ معلومةٍ تحقِّق له هدفه من الدِّراسة، فضلًا عن تحقيق النصوص الأَصلية لحجج البيع والوقف للأملاك والإتفاقيات المعقودة في حقبٍ غائرة في الزَّمن. 

بعد مكوث الأب سيمون راهبًا في هذا الدّير لتسع سنواتٍ مُتتاليات، وهو الأَصيلُ المُعتقِدُ بصداقة المكان، والإرتباط النفسي الوجداني بمرتع العيش لردحٍ من العُمر، لم يُرِد مغادرة ديره الذي أَحبَ، دون أن يترك في مكتبته من سيل فكره وفيض علمه، بصمته الأَلصق من ضمن مؤرّخات الرِّهبانبة اللبنانيّة لأديرتها، لتأتي أَشد نصوعًا ولصوقًا من النَّقش الماثل في حجر العتبة التي تعلو مدخل الدّير نفسه. 

توَّج الأب سيمون مُصنَّفه بمقدِّمة بقلم الأب الفاضل يوحنّا وهبه، أتت لتفي دير مار شلِّيطا- القطّارة وواضع المصنّف حقَّهما من الأقدميّة في الوجود من جهة، والتّجديد في حفظ الحضارة في آنية من ذهب المعارف التي ضمَّنها كتابه من جهةٍ ثانيةٍ. 

أمّا عن مراجع ومصادر الكاتب لبحثه، مستقيًا المعلومات والمعارف ليرصفها بمقدرة البحاثة القدير ،من الكتب، المجلّات، الجرائد، الـمُراسلات، اليوميّات وعن ألسنة شهودٍ عيان. كما من أَرشيف البطريركيّة المارونيّة، أرشيف الدّير نفسه المتبقّي في مكتبة جامعة الرّوح القدس – الكسليك، أَرشيف الرِّئاسة العامّة للرُّهبانيّة اللُّبنانيّة المارونيّة، كتلبات الأَب أَنطونيوس شبلي في “الآثار المطويّة”، “تاريخ الرُّهبانيّة اللُّبنانيّة المارونيّة: للأب لويس بليبل. 

تتمدّد “رحلةٌ في الذّاكرة”- دير مار شلِّيطا- القطّارة، على مساحة أربعة عشر فصلًا، وينطوي على خاتمة،مضمّنًا المؤلّف الكتاب ثبتٌ مصوّرٌ لكل المستندات الخطيّة والرَّسمية التي شكّلت جزءًا بيِّنًا من مراجع الدّراسة، منها الملوّن ومنها بالأسود والأبيض… كلّ ذلك بأسلوبٍ سرديٍّ شيقٍ، يطال معارفه المثقف كما الإنسان العاديّ، من غير تقعيرٍ ولا اسفافٍ، ولاحوشيةٍ في استعمال الكلمات أو تخيُّر المفردات: لقد أراد الأب سيمون عبود لكتابه الباكورة أن يصل لكلّ الناس من كافّة المستويات والطّبقات. 

بكلمة، لقد شيَّد الرُّهبان الأَقدمون دير مار شليطا- القطَّارة- ليكون موئلَ سُكنى لأفراد الرهبانيّة اللّبنانيّة المتوالين، بوركت أناملك الأَب سيمون عبّود إبن عنّايا، فقد بنيتَ مؤلَّفَكَ ليسكننا دير القطّارة على الأَجيال، بروحانيته وحضارته وتاريخيّته الباسقة من شاهق بنيانه، المطبوع في سمات وجوه حجارته.  

                                                  (عنّايا، الخميس 4- 7-  2019)

           

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *