أديب صعب في مجموعته الشعرية “حيث ينبع الكلام”: لون الأحلام وإيقاع الروح

Views: 97

مايكل موسى

في مجموعته الشعرية “حيث ينبع الكلام”، الصادرة حديثاً في بيروت (الدار العربية للعلوم، أيّار 2019)، يتابع أديب صعب تجربته الشعرية الحداثية التي تضعه إلى جانب الشعراء الرواد. وبالرغم من انتمائه إلى جيل لاحق لجيلهم، إلا أن عدداً من كبارهم، مثل أدونيس وخليل حاوي وبلند الحيدري، وضعوه في الصف الطليعي لشعراء الحداثة العربية إذ وجدوا في قصائده استمراراً وتجديداً للريادة الشعرية. 

في 176 صفحة تحوي 95 قصيدة قصيرة وقصيدة واحدة طويلة، يوزع صعب مجموعته الجديدة على أقسام، حسب موضوعات القصائد. في القسم الأول، “شجرة الشعر”، هناك ثماني قصائد تدور على الشعر. فهو يرسم بالشعر خريطة طريق، يتركها لقرائه نوراً نابعاً من الحب والجمال. ويقف بدهشة، معايناً “الوجود شعراً” وملوّناً “بدم الورود أول الربيع”. هو لا يكتب الشعر، بل يتهجّى “صوته الطالع من رحم المياه”، مكتشفاً “ذلك الوجه من الكون الذي لسنا نراه”، وموحّداً الشعر بالصلاة. هنا يصير الشعر لا أقل من عملية كشف، أو رحلة إلى “حيث ينبع الكلام” لاكتشاف “لون الشمس وعمق الأسرار”. 

القسم الثاني من المجموعة، “تحت خيمة الربيع”، يحوي 13 قصيدة تصوِّر تحولات الزمان والمكان. هنا يستعين الشاعر بأبجدية الربيع ليقرأ علامات الفصول. إنه “الربيع يستفيق في دم العباره”. كما نقرأ: “وفي المدى تحت الجسور تجري/أحلامنا الزرقاءْ/تلوّنُ السماءْ”. وحده الشاعر يستطيع أن يعلن أنّ زرقة الشمس هي لون الأحلام منعكساً على السماء. القسم الثالث، “هكذا يغيّر الصباحُ دربَه” (15 قصيدة)، تدور قصائده على الحرب في لبنان. هنا نقرأ عن “أولاد الأفاعي يَسرحونْ/في عروق الأرض يمتصّون أعصاب الشجر” الذي “أَورثَه الآباءُ جيلاً بعد جيلْ/وسقوهُ بِتَباريحِ العيون”. نقرأ عن نازحين “حاملين البؤسَ” وفوق رؤوسهم سماء بلا شفقة، تسودّ ولا تدمع لها عين. نقرأ عن مساء يتثاءب “من نوافذ الصغار”، في حين “يخبّئ الربيع وجهه ويبكي”. ووسط يأسه، يعلن: “أَعجن العتمَ بالدمعِ، أقتاتُ خبز الظلامْ”، ويحمل أُمّته الكسيحة “على سرير”، علّ مسيحاً أو مخلِّصاً يقيمها من الجحيم. حيال هذه اللعنة، هذا العذاب، تكتسب لغة الشاعر نبرة الادانة التي تذكّرنا بلغة الأنبياء، ومن صفات النبي أنه نذير. هنا تصير قصائد الشاعر سوطاً ينقضّ به على “الآلهة” التي “تموت”. 

يلي هذه الأقسامَ “غابة من البهاء” (13 قصيدة). هنا يتوغل الشاعر داخل عالم الروح في أبعاده وأعماقه، متسائلاً: “كيف يعطَى لِعَينين أن تنطقا ولِوَجهٍ/أن يصلّي/أن يَصير صلاةْ؟”. ويحاول أن يصوّر هذا العالم الروحي الذي يسمّيه “الملكوت”: “لفَّهُ النورُ، أينَ؟ كيفَ؟ ضاعَتِ العبارَهْ/خانَهُ صوتُهُ فحاوَلَ الإشارَهْ”. وينتهي القسم بقصيدة “خُذْني”، التي جاء منها عنوان المجموعة: “خُذْني/حيثُ ينبع الكلامُ من عُيونٍ/حيث يُزْهِرُ الكلامُ في الشجرْ/خُذْني/فلقد سَئِمْتُ لَغْوَهم أُولئك البشر”.  ثم مع قسم “كل شيء على ٱسمِكِ”، نحن أمام 24 قصيدة في الحب، تتفرّد بأبعاد غنائية وروحية وتأملية تميزها عن كثير من شعر الحب. الشاعر يستهل هذا القسم بقصيدة يعلن فيها أنه نُوح وأنّ الحبيبة هي السفينة التي يستقلّها نحو الخلاص من طوفان هذا العالم، غيرَ حاملٍ على السفينة من متاع العالم سوى الشعر. هو الخلاص، إذاً، يتحقق بالشعر، إذ يغدو الشعر والحب توأمين. ويستنجد بالحب كي يتعلم “حروف الهجاء” و”أوزان الشعر”، ويسمّي “مجاهيلَ لا ٱسمَ لها بَعدُ”. إنه الحب، اللغة الكونية التي معها “ينتفي عملُ الترجُمانِ”.

البساطة العميقة

في القسم السادس تأتي قصيدة طويلة بعنوان “شوارع المدينة” (123-131)، هي القصيدة الوحيدة الطويلة في المجموعة. وقد كتبها الشاعر في باريس خلال الحرب الدائرة في لبنان. وتنطوي على عالَمَين أو جَوَّين أو صورتين، هما الأمل واليأس. “تتمشّى شوارعُ المدينهْ/في عروقي ويَرفض الظلامُ أن يجيءْ”. ويصف فرحه: “فرحٌ، سَمِّهِ الربيعَ، إنه ٱنبعاثُ كونٍ/لا يسمَّى، ورعشةٌ تلوِّن المدى ولا تُقالُ”. لكن سرعان ما ينقلب هذا الفرح إلى نقيضه، لأن “الرماد خنقَ الصدى وأطفأ العيونْ”. وإذا بالشوارع تعجّ بالقتل والدماء، ويصير “كلٌّ عدوّاً لكلٍّ/بٱسم آلهةٍ تَخنق الحبَّ”. لكن ما الدين بدون الحب والسلام؟ وفي المقطع الأخير من القصيدة يسعى الشاعر إلى خَلق وطن بديل: “ألَيس وجه أُمي وأبي وطناً/أليست القصائد التي تناثرت على الدروب من رماد قلبي/وطناً؟”. يلي هذه القصيدة قسم أخير بعنوان “من دفتر الطفولة”، يحوي 21 قصيدة غير منشورة سابقاً، كتبها الشاعر وهو دون العشرين. وهي موزعة بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وتكشف “عن براعة تقنية في البناء والتعبير، وعن بُعد روحي وفكري هو من النضج والشفافية قلّما نراه عند شخص في مثل هذه السن”، كما كتب أدونيس عن مجموعة صعب الأُولى “قيثارة الضياء”.  

في أُطروحة الدكتوراه (الجامعة اللبنانية) التي تناولتُ فيها الرموز والاشارات الدينية في شعر أديب صعب، وجدتُ أنه أكثر شعراء الحداثة العربية استخداماً لها. كما وجدتُ أنه يلجأ إلى هذه الرموز لا لأهداف حَرفية أو دينية، لكن ليحقق عبرها ما سماه الشاعر – الناقد تي إس إليوت “البديل الموضوعي”، أي الواسطة التي يعتمدها الشاعر لكي يمدّ جسوراً بين تجربته الشخصية وقراء شعره. الرمز هنا، كما سمّاه صعب، هو “الرمز الكاشف” تمييزاً له عما سماه “الرمز الساتر”. 

في شعر أديب صعب يجتمع عنصران قلما نراهما معاً في الشعر، هما البساطة والعمق. ونأخذ من مجموعته الحالية قصيدة بعنوان “في البراري” (ص 42-43) مثلاً على ما نقصد. يستهل قصيدته برسم لوحة من الطبيعة: “في البراري/حيثُ لا أبوابَ، تغدو الشمسُ بَوّاباً يغنّي/نافخاً عبر مزاميرِ الهواءْ”. ويأتي المساء، فينضمّ القمر إلى هذه اللوحة: “ثم يأتي حارسُ الليلِ وقدد فاحت من الأرضِ الطيوبُ”. هنا تأتي الاستعارات الدينية بكثافة: “وهُتافٌ يملأُ الأصقاعَ: هذا ٱبني الحبيبُ”. (Clonazepam) وكأنما قصدَ الشاعر باستعارته هذه الايحاء بأن الطبيعة لا تقوم في ذاتها، بل هي قبس من الألوهة. وهذا يتأكد مع الصورة اللاحقة: “ويطلّ القمرُ الحاني على عرسٍ، يصيرُ الماءُ نوراً ويَصيرُ النورُ ماءْ”. هنا يستعير الشاعر القصة الانجيلية حول عرس قانا الجليل، الذي ظهرت فيه أُولى معجزات المسيح بتحويله الماء خمراً، ليقدّم لنا صورة عن الطبيعة المسحورة، الطبيعة المتحولة من “كتلة حجار وتراب لا معنى لها ولا قيمة في ذاتها إلى مرآة تعكس وجه الله”، كما يقول أديب صعب في فلسفته. وهو مؤلف خماسية معروفة في فلسفة الدين (دار النهار، 1983-2015)، جعلت منه أول المفكرين العرب وأبرزهم في هذا الحقل الفلسفي الرئيسي والدقيق.  

مجموعة أديب صعب الشعرية الحالية تضم قصائد منسوجة كلياً من صوَر. عبثاً نبحث فيها عن تجريد. أما إذا كان التأمل الفكري أحد معاني الفلسفة، فهذه المجموعة غنية جداً بالتأمل والفكر. التجديد الشعري عند أديب صعب نابع من تجديد في الفكر والحياة. نحن هنا أمام شعر يقدم صورة للعالم والحياة والانسان. وبناء العوالم هو من عمل الشعراء الكبار فقط. ومن عناصر العظمة في “حيث ينبع الكلام” الموسيقى الشعرية الغنية. فمنذ قصائد الطفولة، التي خصص القسم الأخير من مجموعته الحالية لمختارات متألقة منها تُنشَر للمرة الأولى، يمتلك صعب ناصية اللغة والوزن الشعري، مع غنى في تنويع الأوزان ربما لا نجده عند شاعر آخر. وفي المجموعة الحالية عدد كبير من القصائد التي تقوم على مفاتيح موسيقية مبتكَرة، لا عهد للشعر العربي بها. وتتضاعف أهمية هذا الغنى الموسيقي في المجموعة إذ يرافق عالماً جديداً يقدمه لنا أديب صعب بفضل صوره واستعاراته ورموزه الكاشفة. “حيث ينبع الكلام” مجموعة قصائد رائعة، تعيد إلى المكتبة الشعرية العربية عصراً ذهبياً طال انتظاره.

________________________

(*) مايكل موسى طالب في الجامعة اللبنانية. أُطروحته لدرجة الدكتوراه اللبنانية في الأدب العربي، التي ينتظر مناقشتَها قريباً، حَوَت دراسة طويلة عن الرموز الدينية في شعر أديب صعب.       

       

    

 

  

 
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *