لا… لَن تَغِيبَ!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(مُنذُ زَمَنٍ نَأَى وَنَأَى حَتَّى اختَفَى مُعظَمُهُ مِن تَلافِيفِ الذَّاكِرَةِ، وكُنتُ في بَدءِ دِراسَتِي الجامِعِيَّة، قَرأتُ في مَجلَّة «الأدِيب» – إِذا أَسعَفَتِ الذَّاكِرَة – أُقصُوصَةً رَقِيقَةً، أَظُنُّها لِلأَدِيبِ سَعِيد حُورانِيَّة، فَأَثَّرَت فِيَّ عَميقًا.
وَهَانِي، بعد هذا الزَّمن الطَّوِيلِ، أَحُوكُ أقصُوصَتِي مُستَوحِيًا ما بَقِيَ مِن فِكرَةَ سَالِفَتِها، مُستَأذِنًا رُوحَ ذلك الأَدِيبِ المُبدِع)
كُنتُ في التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ عندما التَحقتُ بالجامِعَةِ اللُّبنانيَّة، مُتَخَصِّصًا في الرِّياضيَّات.
تَرَكتُ قَريَتِي وهُدُوءَها، وبُطْءَ أَيَّامِها، وصَفاءَ العَيشِ فِيها، وَوَلَجتُ بَيرُوتَ، وضَجِيجَها، وسُرعَةَ حَرَاكِها، والتَّعاطِيَ البارِدَ بين قاطِنِيها.
إِنقَضَت ثَلاثُ سَنَواتٍ دِراسيَّةٍ، وسَيتَخَرَّجُ رَفِيقايَ اللَّذان أَشَغَلُ مَعَهُما مَنزِلًا اكتَرَيناه. أَمَّا أَنا فَسَأُنهِي دِراسَتِي مع انتِهاء العامِ الجامِعِيِّ القادِم. فكان عَلَيَّ أَن أَتَدَبَّرَ سَكَنًا لِلسَّنَةِ الأَخِيرَة يَكُونُ مُتَناسِبًا وإِمكاناتِي المادِيَّةَ المَحدُودَة.
أَسَرَّيتُ هَمِّي لِـ «المُعَلِّم جَابِر»، مُتَعَهِّدِ «الكافِيتِيرِيا» في الكُلِّيَّةِ، فأَعلَمَني بِوُجُودِ غُرفَةٍ عند امرَأَةٍ مِن قَريَتِهِ، قَرِيبَةٍ مِن الجامِعَةِ، بِبَدَلٍ مَعقُول.
إِستَقبلَتنِي المَرأَةُ بِحذَرٍ، واتَّفَقتُ معها على الإِيجارِ بعد أَن مَنَّنَتنِي بِما صَنَعَت، لِما لِـ «جابِر» مِن عَزَازَةٍ عندها. ثُمَّ تَلَت عَلَيَّ شُرُوطَها المُبرَمَة:
– لا لِلتَّجَمُّعِ مع رِفاقِي في حَرَمِ مَنزِلِها، بِالرُّغم مِن أَنَّ لِلغُرفَةِ مَدخَلًا خارِجِيًّا مُستَقِلًّا.
– لا لِلتَّصَرُّفاتِ الشَّائِنَةِ، فَزَوجُها مُهاجِرٌ في أَمِيركا، وابنَتُها نَدَى وَحِيدَةٌ، لِذا فهي لا تَحتَمِلُ الشَّواذَ والمُشكِلات.
– لا لا لا…
أَنهَت تِلاوَتَها السُّلطانِيَّةَ الصَّارِمَةَ، فَوافَقتُها على ما طَلَبَت، وطَمأَنتُها بِأنَّني ابنُ قرَيَةٍ، أَتَمَسَّكُ، مِثلَها، بِقِيَمِ الرِّيفِ وأَعرافِهِ وتَقالِيدِهِ، ولا تَستَهوِينِي مَفَاسِدُ المَدِينَة.
مَرَّتِ الأيَّامُ رَتِيبَةً، وكانت نَدَى تَمُرُّ، كُلَّ صَباحٍ، أَمامَ غُرفَتِي لِتَستَقِلَّ الباصَ المَدرَسِيَّ.
ناعِمَةٌ، طَرِيَّةٌ، في حُدُودِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ من عُمرِها. وَقُورٌ في مِشيَتِها ولِباسِها، على صِغَرِ سِنِّها، ما زَادَ من اهتِمامِي بها.
بَدَأَت تَشغَلُ تَفكِيرِي، ويَقوَى حُضُورُها في ضَمِيرِي، يَومًا عن يَومٍ، وبَدَأتُ أَنتَظِرُ مُرُورَها أَمام شُبَّاكِي، بِفارِغِ صَبرٍ وشَغَفٍ، لَم أَتَحَرَّى، في قَرارَتِي، عن سَبَبِهِما. وباتَ وجهُها يَهجِسُ في صَدرِي مَهما كَبُرَت مَشاغِلِي، وَبَدَأَت تَمَضُّني أَيَّامُ الإِقفالِ المَدرَسِيِّ، لِأَنَّها تَحُولُ بَيني وبَينَ رُؤيَتِها.
هي حَيِيَّةٌ، مِثلي، تَغُضُّ من طَرْفِها إِمَّا رَأَت أَعيُنًا تَرقُبُها.
وتَلاقَت نَظَراتُنا يَومًا، فَابتَسَمتُ لها، ولِلحالِ صَبَغَتِ الحُمْرَةً خَدَّيها، وأَطرَقَت بَصَرَها وهي تُسرِعُ في سَيرِها.
أَرَّقَني انشِغالي بِصُورَتِها الَّتي باتَت لا تُفارِق مُخيِّلَتي، حَتَّى أَضحَت تَقتَحِمُ فِكرِي أَثناءَ المُحاضَراتِ الجامِعِيَّةِ، فَأَذهَلُ بينَ آوِنَةٍ وأُخرَى، ثُمَّ أَستَفِيقُ وأَرتَعِشُ، وأَطرُدُ الخَيالَ الطَّارِئَ، وأُتابِعُ شَرحَ أُستاذِيَ، ما وَسِعت.
راوَدَني خاطِرٌ أَتَمَلَّصُ بِهِ مِن جُبْنِ مُواجَهَةِ نَدَى بِالكَلامِ الصَّرِيحِ، فَكَتَبتُ رِسالَةً قَصِيرةً أُعَبِّرُ فيها عن إِعجابِي بها، وعن كَونِها باتَت لا تُبارِح خَيالِي آناءَ اللَّيلِ والنَّهار. وأَفَضتُ في تَعدادِ صِفاتِها الَّتي جَذَبَتنِي، وبِأَنَّنِي جادٌّ في عاطِفَتِي، ولَستُ مِمَّن يَتَزَيَّفُونَ أَمامَ الفَتاةِ لِكَسبِ وُدِّها، والحُصُولِ على ما يَبتَغُون.
ثُمَّ رُحتُ أَتَرَصَّدُ فُرصَةً مُؤَاتِيَةً لِأُناوِلَها إِيَّاها خِلسَة.
وسَنَحَت يَومًا، وكانت آمِنَةً مِن تَرَصُّدِ العُيُونِ، ولكِنَّنِي تَلَكَّأتُ وقَلبِي في خَفَقانٍ شَدِيدٍ، وطَوَيتُ الوَرَقَةَ في جَيبي، وَعُدتُ إِلى عُزلَتِي نادِمًا، كَسِيفًا، ناقِمًا على نَفسِي.
وتَكَرَّرَت مُحاوَلاتِي، وتَكَرَّرَ فَشَلِي…
***
أَقلَقَني عَدَمُ ذَهابِها إِلى المَدرَسَةِ طِيلَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتالِيَةٍ، ولكِنَّنِي لَم أَجرُؤْ على سُؤالِ أُمِّها عنها، فهي امرَأَةٌ صُلبَةٌ، مُتَجَهِّمَةُ الوَجهِ، لا تَترُكُ لِلتَّودُّد مَكانًا، وأَظُنُّها على رِيْبَةٍ دائِمَةٍ حِيالي.
في اليَومِ الرَّابعِ لَمَحتُها تَنزِلُ الدَّرجَ أَمامَ نافِذَتِي، فَأَحسَستُ قَلبِي يَنبُضُ سَرِيعًا، وسَمِعتُ خَفَقانَهُ على جِدارِ صَدرِي، وهَمَمتُ بِأَن أُحَيِّيَها… ثُمَّ تَراجَعتُ، وانكَفَأتُ، كما في كُلِّ مَرَّة.
في المَساءِ التَّالي سَمِعتُ طَرْقًا على بابِي، فَقُمتُ لِتَوِّي أَفتَحُهُ، فَإِذا الأُمُّ تُسَلِّمُ عَلَيَّ بابتِسامَةٍ غَيرِ مَعهُودَةٍ، وبَشاشَةٍ دافِئَةٍ، وتَستَأذِنُ عَلَيَّ، فقلتُ: تَفضَّلِي، يا خالَتِي، هو بَيتُك.
دَخلَت مُتَلَفِّتَةً إِلى كُلِّ الاتِّجاهاتِ، وجَلَسَت.
– ماذا تَدرُسُ في الجامِعَةِ، يا بُنَيّ؟
– أَتَخَصَّصُ في الرِّياضيَّاتِ، وهذه هي سَنَتِي الأَخِيرَةُ، سَأَتَخَرَّجُ في نِهايَتِها، وأَبدَأ التَّعلِيم.
– إِذَن سَتَترُكُنا بَعدَ أَشهُر.
فَابتَسَمتُ قائِلًا: نَعَم، وأَنا شاكِرٌ لَكِ جِيرَتَكِ المُحِبَّةَ طَوالَ سَنَةٍ، وعَسَى أَن لا أَكُونَ أَزعَجتُكُم بِشَيءٍ، ومِن ناحِيَتِي فَإِنَّنِي لَن أَنساكُم أَبَدًا.
– وَفَّقَك الله. لَقَد كُنتَ خَيرَ الجارِ، ومِثالَ التَّهذِيب. وسَكَتَت، وأَنا أَحتارُ بِماذا أَملَأُ الصَّمتَ المُخَيِّم.
ثُمَّ قالَت: لا أَدرِي إذا كُنتَ عَلِمتَ بِغِيابِ «نَدَى» عن المَدرَسَةِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، لِوعكَةٍ أَلَمَّت بها؟
– لا، لَم أَعلَم. والحَمدُ لله على شِفائِها.
– بُنَيَّ… هلَّا تُسدِي إِلَينا خِدمَةً، وتُعِينُ نَدَى في ما فاتَها مِن دُرُوسٍ أَثناءَ غِيابِها؟
– بِالتَّأكِيدِ، سَأَمُرُّ بِكُم في المَساءِ، عند رُجُوعِي مِن الجامِعَة.
خَرَجَتِ المَرأَةُ مِن غُرفَتِي فَرُحتُ أَقفِزُ مِن مَكانٍ إِلى آخَر، طائِرًا مِن فَرَحِي. ولَم أَقدِرْ على التَّركِيزِ على دُرُوسِي إِذ كانت صُورَةُ «نَدَى» تَملَأُ الصَّفَحاتِ أَمامِي، والأَفكارُ تَتَجاذَبُنِي كَوَرَقَةٍ في رِيْح. (Ambien)
***
جَلَسنا مُتجاوِرَين حَولَ طاوِلَةٍ صَغِيرَةٍ، في غُرفَتِها، فَعَرَتنِي رِعشَةٌ لَفَّتنِي مِن رَأسِي حَتَّى أَخْمَصَيَّ، وارتَبَكتُ، وتَلَعثَمتُ في كَلامِي وأَنا أَسأَلُها عَمَّا فاتَها مِن دُرُوس.
قالت إنَّها تُرِيدُ مِنِّي مُساعَدَةً في مادَّةِ الرِّياضِيَّاتِ، فَقَط، فَهِيَ المادَّةُ الَّتي لا تُتقِنُها ولا تَرغَبُ فِيها.
مَرَّت ساعَةٌ حَسِبتُها دَقِيقَةً، والأُمُّ تَدخُلُ علينا تِباعًا، تارَةً تَحمِلُ لنا الشَّايَ، وطَورًا تَأتِينا بِطَيِّبِ ما عِندَها، وأَحيانًا تَسأَلُ عن استِيعابِ نَدَى لما أَشرَح.
أَمَّا أَنا فقد خِلتُ الجَنَّةَ المَوعُودَةَ رَاهِنَةً بين يَدَيَّ، في قُربِ مَن مَلَكَت جَنَاني، ومَلَأَت أَيَّامي بِمَشاعِرَ غَرِيبَةٍ عنِّي. وَأَحسَستُ في «نَدَى» مَيلًا نَحوِي، أَو هكذا تَراءَى لِي. أَلَم تَسأَلْني أَشياءَ عن حَياتِي الخاصَّة؟! أَلَم تَستَفسِرْ مِنِّي كيف أَقضِي أَوقاتَ فَراغِي؟!
تَشَجَّعتُ، إِثْرَ هذه اللَّيلَةِ العامِرَة مِن حَياتِي، وَدَسَستُ في يَدِها، وهي تَمُرُّ أَمامَ نافِذَتي في اليَومِ التَّالِي، الوَرَقَةَ الَّتي طالَ أَسرُها في جَيبِي، وقد أَضَفتُ على مُحتَواها، بِكُلِّ ما وَسِعَت لُغَتِي، إِعجابِي ومَحَبَّتِي لها. واجتاحَنِي خَوفٌ وقَلَقٌ، فَجَلَستُ واهِنًا أَنتَظِرُ انقِضاءَ النَّهارِ، ورُؤيَتَها، لِأَعلَمَ أَثَرَ بَوْحِي فِيها، وكُنتُ مُلازِمًا المَنزلَ، أَستَعِدُّ لِامتِحانٍ فَصلِيّ.
عادَت في مِيقاتِها، وأَنا مُنتَظِرٌ في نافِذَتي نافِذَ الصَّبر.
صَعِدَت الدَّرَجَ مِن دُونِ أن تَنظُرَ في اتِّجاهِي، فَتَقَهقَرتُ وارتَمَيتُ على سَرِيرِي، أَرتَجِفُ كَعُصفُورٍ تَحتَ البَرَدِ، تَلُفُّني الخَيبَةُ، وَيَقُضُّني الإِحباط.
بَعدَ دَقائِقَ مَعدُوداتٍ سَمِعتُ طَرْقًا على الزُّجاج، فَهَبَبتُ كَمَن لَسَعَتهُ جَمرَةٌ، فَإِذا بِـ «نَدَى» تُلقِي إِليَّ بِوُرَيقَةٍ، وتقول، لاهِثَةً: استَفَدتُ مِن غِيابِ أُمِّي عن المَنزِلِ لِآتِيك. ثُمَّ ارتَقَتِ الدَّرَجَ عَدْوًا، فرَاشَةً تَحمِل في رُدْنَيها رَبِيعًا مِن صِبًا وجَمال…
حَتَّى اليَومَ، وَعَبَرَت سَنَواتٌ، لا يَسَعُني أَن أَصِفَ شُعُورِي حِينَ فَضَضتُ الوَدِيعَةَ، فَوَجَدتُ في سُطُورِها ما كُنتُ أَحلُم به. ومُنذُئِذٍ بَدَأَ تَبادُلُ الإِشاراتِ والرَّسائلِ بَينَنا، واستِرَاقُ الفُرَصِ النَّادِرَةِ لِقَنصِ لَمَساتٍ بَرِيئَةٍ، وكَلِماتٍ دافِئَة.
والغَرِيبُ أَنَّ أُمَّ «نَدَى» قد تَغَيَّرَ سُلُوكُها مَعِي، فَباتَت أَلُوفًا، تَسأَلُني عَمَّا أَحتاجُ، وتَطلُبُ إِلَيَّ أَن أَعتَبِرَها كَأُمِّي. ومَرَّةً سَأَلَتنِي إِن كان مُمكِنًا أَن أُعَيَّنَ، بعد تَخَرُّجِي، في بَيرُوت. ولَمَّا أَفَدتُها بِالصُّعُوبَةِ البالِغَةِ لِهذا الشَّأنِ قَرَأتُ في عَينَيها أَسَفًا، لَم أَشغَلْ نَفسِي، يَومَها، بتَفسِيرِه.
***
تَخَرَّجتُ، وعُيِّنتُ في ثانَويَّةٍ رَسميَّةٍ بمِنطَقَةٍ جَبَلِيَّةٍ، نائِيَةٍ جِدًّا عن بَيرُوتَ.
وَدَّعتُ المَرأَةَ، فَأَبصَرتُ في قَسماتِها حُزنًا دَفِينًا. رَبَّتَت على كَتِفي، وعانَقَتنِي، سائِلَةً: أَلَن تَزُورَنا في قابِل الأَيَّام؟
أَكَّدت لها أَنَّنِي أَعتَبِرُها وَ«نَدَى» مِن أَهلِي، وسَأَزُورُهُما كُلَّما تَيَسَّرَ لي. وأَوصَيتُ نَدَى بالدَّرسِ الجادِّ، فهي فَتاةٌ ذَكِيَّةٌ يَنتَظِرُها مُستَقبلٌ باهِر. أَمَّا هي فَبَقِيَت صامِتَةً، في عَينَيها حَيرَةٌ، وفي شَفَتَيها سُؤَال!
في المَسَاء، وفي غَفلَةٍ مِن أُمِّها، رَسَمتُ وَ«نَدَى»، بين الآهاتِ والدَّمعِ المَكتُومِ، أَشياءَ تَطالُ حَياتَنا، ووضَعنا لِلعُمرِ خِطَّةً مِن أَحلامٍ ورُؤًى، وتَواعَدنا على اللِّقاء كُلَّما أُتِيحَت لنا نُهْزَة.
تَتَالَتِ الأَيَّامُ، يَلتَهِمُ بَعضُها بَعضًا، وأَخَذَنِي التَّعلِيمُ بِكُلِّيَّتِي، وَبَقِيَت نَدَى خاطِرًا لا يُبارِحُ بالِي، ورَفِيقًا أَنِيسًا كُلَّما أَوَيتُ إِلى فِراشِي، أَستَعِيدُ صُورَتَها وذِكرَياتِي القَلِيلَةَ مَعَها!
كُنتُ أُخَطِّطُ لِلنُّزُولِ إِلى بَيرُوتَ وزِيارَةِ بَيتِ الحَبِيبَة. على أَنَّ انهِماكِي في تَحضِيرِ الدُّرُوسِ، وتَصحِيحِ الفُرُوضِ المَدرَسِيَّةِ، وصُعُوبَةَ الرِّحلَةِ إِذ يَتَطَلَّبُ الأَمرُ تَبدِيلَ سَيَّارَةِ الأُجرَةِ ثَلاثًا، كُلُّ هذا أَخَّرَ زِيارَتِي المُنتَظَرَةَ، مِن دُونِ أَن يَخفُتَ شَوقِي أَو تَهمُدَ هِمَّتِي.
رَاوَدَتنِي مِرارًا فِكرَةُ الاتِّصالِ هاتِفِيًّا بِالبَقَّالِ جارِهِما، أَطلُبُ إِلَيهِ أَن يَستَدعِيَ لِي «نَدَى» – وكُنتُ على عَلاقَةٍ طَيِّبَةٍ مَعَهُ – ولكِنَّنِي كُنتُ أَعُودُ عَنها لِمَا فِيها مِن إِثارَةٍ لِحَفِيظَةِ الأُمِّ، وإِحراجٍ لِفَتاتِي.
وأخيرًا شَدَدتُ الرِّحالَ، في فُرصَةِ عِيدِ المِيلادِ، وَيَمَّمتُ المَدينةَ، قَاصِدًا قِبلَتي العَتِيدَةَ.
إستَقبَلَتني الأُمُّ بِذُهُولٍ، فَأَخبَرتُها أَنَّني جِئتُ بِطَلَبِ ورَقَةٍ مِن الجامِعَةِ، وَأَيضًا كَي أَزُورَهُما، مُعتَرِفًا لها بِتَقصِيرِي وَإِطالَةِ غِيابِي.
تَأَمَّلَتنِي الأُمُّ، في وَجهِها كَآبَةٌ بادِيَةٌ ورَأسُها يَعلُو ويَهبِطُ بِبُطءٍ، وقالت: لَيتَكَ لَم تَتَأَخَّر هكذا في زِيارَتِنا، فَلَقَد ظَنَنَّاكَ مَحَوتَنا مِن ذِهنِك. «نَدَى» تَزَوَّجَت مِن قَرِيبٍ غَنِيٍّ لِزَوجِي، جارٍ لَهُ في غُربَتِهِ، وهي الآنَ معه. كان زَواجُها مُفاجِئًا، أَرادَهُ والِدُها، وَأَصَرَّ في إِتمامِهِ بهذه السُّرعَةِ، رافِضًا كُلَّ تَأَنٍّ أَو مُماطَلَة. ففي ظَنِّهِ أَنَّ زَواجًا مُؤَاتِيًا كهذا لن يَتَوَفَّرَ كُلَّ يَوم.
تَوَقَّفَت قَلِيلًا ثُمَّ أَضافَت: صَحِيحٌ أَنَّ الشَّابَّ طَيِّبُ القَلبِ، مَيسُورٌ جِدًّا، ولكِنَّهُ في أَواخِرِ ثَلاثِينِيَّاتِ عُمرِهِ، يَكبُرُها بَحَوَالَى العَقدَين.
عارَضَت «نَدَى»، وبَكَت أَيَّامًا طَوِيلَةً، وأَنا لم أَكُنْ راضِيَةً بِما اعتَبَرتُهُ صَفْقَةً، ولكِنَّ أَباها أَصَرَّ على الأَمرِ، فَتَراجَعتُ كَي لا أَهدِمَ هَناءَةَ عائِلَتِنا، ورُحتُ أُقنِعُ ابنَتِي بِحُجَجٍ لَيسَت مِن قَناعَتِي بِشَيءٍ، ولكِنَّنِي خَشِيتُ مِن عاقِبَةٍ قد تَكُونُ داهِيَةً، لِأَنَّنِي أَعرِفُ زَوجِي وعِنادَهُ الَّذي لا يُذَلَّل.
لا بَأسَ، ولكنَّ الغُربَةَ صَعبَةٌ، وكنتُ أَتَمَنَّى لو تَزَوَّجَت ولم تُسافِر.
وأنتَ … أنتَ، يا بُنَيَّ، لَيتَكَ تَعَيَّنتَ في بيروتَ؟ ولكنَّ الأَمرَ لم يَكُنْ في يَدِك.
تَكَلَّمَتِ الأُمُّ، وتَكَلَّمَت، وأَنا صامِتٌ كَحَجَرٍ، شَاخِصُ البَصَرِ، مُحَدِّقٌ إِلى لا شَيء. ثُمَّ تَمَالَكتُ نَفسِي عَن شرُودِ ذِهْنِي، وقُلتُ لِلأُمِّ مُفتَعلًا الكَلام: وَفَّقَها اللهُ، هي تَستَأهِل الخَيرَ الكَثِير.
خَرَجتُ إِلى الشَّارِعِ، مُدرِكًا أَنَّنِي دَفَنتُ، في هذا البَيتِ، ذِكرًى أَزهَرَت في رُوحِي، وفَجرًا رَأَيتُ في تَباشِيرِهِ سَعادَةَ الحَياةِ، وَحُلمًا بَنَيتُ عليه صَرْحًا مِن آمالٍ عِراض.
عُدتُ إِلى عَمَلِي وبِي ما هو أَمَرُّ مِن الحُزنِ، وأَقسَى مِن الحِرْمان…
وَمَرَّت سَنَواتٌ ثَمانٍ، طَوَتني هُمُومُها وشُجُونُها، فَحَسِبتُ أَنَّني سَلَوت!
***
في غَمرَة الشَّارِعِ البَيرُوتِيِّ، اشتَبَكَت عَينايَ وَعَينانِ أَلِيفَتانِ، فَجَمَدَت أَنفاسِي.
مَرَّت بِي، وتَجاوَزَتني، يُرافِقُها رَجُلٌ، وتُمسِكُ بِيَدِ فَتاةٍ صَغِيرَة.
نَظَرتُ وَرائِي، خَطْفًا، فَإِذا هي تَرمُقُنِي. وإِذْ تَلاقَت نَظَراتُنا، خِلتُ أَنَّ وَجهَها شَحَبَ، وسَمِعتُ الرَّجلَ يَقُول: ما لَكِ يا «نَدَى»، دَعِينا نَدخُلُ هذا المَتجَر…
طَوانِي زِحامُ الشَّارِعِ، ومَشَيتُ على غَيرِ هُدًى، كَأَنَّنِي في ضَبابٍ مُطبِقٍ، لا وُجهَة لِسَيرِي.
وَلَفَّني ضَيَاعٌ حَارِقٌ، فَأَمسَكتُ دُمُوعًا كادَت تَطفِرُ مِن مُقلَتَيّ…
كِدتُ أَبلُغُ نِهايَةَ الشَّارِعِ، حِينَ وَمَضَت في ذِهنِي فِكرَةٌ، فَقَفَلتُ راجِعًا، مُسرِعًا، أُدافِعُ السَّابِلَةَ، وأَتَفَحَّصُ وُجُوهَ المارَّةِ، حتَّى أَتَيتُ المَكانَ الَّذي رَأَيتُها فيه، فَرُحتُ أُفَتِّشُ بِنَظَرِي داخِلَ المَتجَرِ الَّذي ضَمَّها، فلم أَرَها، فَعُدتُ إِلى بَحثِي المَجنُونِ، اللَّامُجدِي، في الشَّوارِعِ المُحِيطَةِ، ذاهِلًا عن نَفسِي، وعن الوَقتِ الَّذي انقَضَى…
***
عُدتُ في المَساءِ، إلى مَنزِلِي الجَبَلِيِّ، وفي ضَمِيرِي صُورَةٌ قَدِيمَةٌ، مُستَجِدَّة…
لا.. لن تَمُوتَ ذِكراها!
يَكفِي أَن يَمِضَ بَرْقُها في البالِ، حتَّى تلتَهِبَ، جَمرةً كَوَتِ الفُؤادَ، مِن ماضٍ حَنُونٍ، وما زَالَت لَسعَتُها في الشَّغَاف!
قد تَغِيبُ لِوَقتٍ طَوِيلٍ، فَتَعمُرُ الأَيَّامَ هُمُومُ الحَياةِ، وَيُلقِي الزَّمَنُ رِداءَهُ الكَثَّ القاتِمَ على أَحداثٍ غَبَرَت، وَيَأخُذُنا التَّرْحالُ المُستَمِرّ!
وَلكِنْ…
إمَّا هَبَّت نَسمَةٌ مِن هاتِيكَ المَرابِعِ والمَواجِعِ، فَإنَّها تَعودُ شَوقًا دافِئًا، يَبُثُّ في القَلبِ طَعْمَ الكآبَة…
سَنَواتٌ طِوالٌ مَرَّت، سَلَخَت كَثِيرًا مِنَ المَعالِمِ الحَمِيمَةِ، ولكِنَّها لم تَسلَخ ذِكراها الشَّجِيَّة.
وَأَنَّى لِنارِ الحَشَى أَن يُخمِدَها كَرُّ الدَّهر؟!
أَبَدًا لَن تَغِيبَ مِن بالِي، وَلَن تَخبُوَ صُورَتُها!
أَلَم تَكُن دِفْءَ الخَفَقاتِ في رَبِيعِ الصِّبا وَأَشواقِهِ العِذاب؟!
لا… لَن تَغِيبَ، لَن تَغِيب!