“المرأة ودورُها في الأدب العربيّ”

Views: 947

د. يسرى البيطار

ليسَ غريبًا أنّ أغلبَ لغاتِ العالم، كي لا أقولَ كلَّها، قد أنّثَت الحياة، وأنّثَت الأرض، وأنّثَت الطّبيعة؛ وذلك في اعتقادي، لأنّ المرأةَ هي الوِلادة.

لذا كانت المرأةُ منذ التّاريخ، هي الواقفة عند المَفاصل، ونقاطِ الثّورةِ والتّغيير، بنفسِها، أو خلفَ عظيمٍ قيلَ إنّ وراءَه امرأة.

والأدب، أليسَ تجسيدًا للحياةِ ذاتِها؟

فمنذ جاهليّاتِ الأمم، كانت امرأةٌ هي التي تُلهِمُ الفرسان، وتقفُ وراءَ النّصر.

الشّاعرة العربيّة صفيّة بنتُ ثعلبة، أليسَت هي مَن جمعَت قبيلتَها شَيبان مع القبائلِ الأخرى لمحاربةِ الفرس في معركة ذي قار؟ هكذا يخبرُنا التّاريخ.

وصولاً إلى العصر الحديث، فقد وقفَت الرّوائيّةُ الجزائريّة آسيا جبّار في مواجهة الاستعمار، مثلما وقفَت مَي زيادة مدافِعةً عن حقّ المرأة في المساواة، ونوال السّعداوي وأحلام مستغانمي وغيرُهنّ. تقولُ آسيا جبّار: “كانَ أبي يصبح من النّبلاء عندما كان يتحدّث بلغة والدتِه، وكانَ يصبح من أدنى طبقات العمّال عندما كان يتحدّث الفرنسيّة”.

انظروا كيف نسَبَت هذه الكاتبةُ الكبيرة لغةَ الوطنِ إلى الوالدة، الأمّ، المرأة، فيما ترَكَت والدَها يختار، حينًا لغةَ الوطن، وحينًا لغةَ الاستعمار. كلامٌ بهذا الحجم لا يأتي صدفة. إنّه موقفٌ، واعٍ أوْ لا، يؤكّدُ أنّ النّضال في سبيل الحرّيّة، ومناهضةَ الاستعمار، وأنّ الأصالةَ، والتّمسّكَ بالأرض، والجذورِ والتّراث، كلّها، كلّها مؤنَّثة. فالثّورةُ لا تنفصلُ ولا تنفصم. والمرأة، حين تثورُ على التّقاليدِ الحجَريّة، من أجل حرّيّتِها الشّخصيّة، وحرّيّة فكرِها وجسدِها، هي نفسُها التي تثورُ حفاظًا على كرامة وطنِها ومجتمعِها، تمسّكًا بتراثِها الحضاريّ، وتمسُّكًا بالأرضِ والجذور، والحقِّ والحقيقة. لذلك قلْتُ، أنا يسرى البيطار، في قصيدةٍ كتبتُها لقريتي، والقريةُ رمزُ الأصالةِ والتّراث، قلت:

” هيَ علّمَتني أن أثورَ وأن أناضلْ

وأهُدَّ معقلَ كلِّ باطلْ

هيَ علّمَتني أن أطيحَ بكلِّ أنظمةِ القبيلَهْ “.

وإذْ لم تكنْ شاعرةُ الجاهليّةِ الخنساءُ ثائرةً بالمعنى المتداول، فقد كانَ دويُّ دمعِها في رثاء أخوَيها صخرٍ ومعاوية ثورةً في وجه المأساة. هي التي عبرَت، حتّى في الرّثاء، عن تمسّكِها بقيَمِ الحضارةِ الجاهليّة؛ قالت ترثي أخاها صخرًا:

حمّالُ ألويةٍ هبّاطُ أوديةٍ

شهّادُ أنديةٍ للجيشِ جرّارُ

في عصرٍ كانَ يمجّدُ القوّة، أظهرَت الشّاعرةُ شغفَها بالقيَمِ، وحبِّ الأخ؛ فليسَ كلُّ أخٍ للمرأةِ رمزًا للقيد، لكنّه قد يكونُ أحيانًا حاميًا وداعمًا ومحرِّرًا، مثلما كانَ الشّاعرُ الفلسطينيّ إبراهيم طوقان ملمحَ حرّيّةٍ في حياةِ شقيقتِه الشّاعرة فدوى طوقان التي شكّلَت رمزًا لمعاناةِ المرأة العربيّة من تقييدِ الأُسَرِ المتزمّتة والمتشدّدة في تطبيقِ ما يسمّى التّقاليدَ الاجتماعيّةَ على النّساء. ولقد ظهرَت هذه المعاناةُ جليّةً في أدب فدوى طوقان، فتميّزَ بنشدانِ الحرّيّةِ الفرديّة، وكذلك الحرّيّةِ الفلسطينيّةِ – القضيّة. وإذْ بدأَتْ كتابةَ الشِّعرِ على النّمط الكلاسيكيّ، فقد انتقلَت بعد ذلك إلى الشِّعرِ الحرّ. فهل من تلازمٍ بين الحرّيّةِ المنشودةِ في المضمون، وحرّيّةِ الشّكل؟

أمّا طليعةُ مَن كَتبْنَ الشّعرَ العربيَّ على النّسَقِ الحرّ، في منتصف القرن العشرين، فكانت بلا شكّ الشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة، وهي مِن أبرز روّاد شِعر التّفعيلة وربّما في طليعتِهم، رجالاً ونساء.

نعم، فإنّ بصماتِ التّجديد الأدبيّ، في تاريخ الأدب العربيّ، قد اقترنَت بأسماء الشّواعرِ النّساء.

فوَلاّدة بنتُ المستكفي أطلقَت شراراتِ الجرأةِ الشّعريّة الأنثويّة في عصر الأندلس بلا مواربة، قالت:

أمكِّنُ عاشقي من صحن خدّي

وأمنحُ قبلتي مَن يشتهيها

وبغضّ النّظر عن موقفي الشّخصيّ من هذا البيت الذي لا يعجبُني مضمونُه، ليس لسبب انغلاقٍ أو تمسّكٍ بالتّقاليد، بل لأنّني أؤمنُ بالحبّ، والحبِّ فقط. ولكنْ، ورغمَ هذا التّحفّظِ الشّخصيّ، فلا يمكنُ إنكارُ النزعةِ الجريئةِ التي تميّزَ بها شعرُ وَلاّدة، وأنّه شكّلَ حالةً جديدةً في شِعر المرأة العربيّة.

ولم يقتصرْ تجديدُ المرأةِ الشّاعرةِ على شِعر النّساء، بل لقد شكّلَ فتحًا في الشِّعر العربيّ عمومًا أحيانًا كثيرة؛ فرابعة العدويّة مِن مؤسِّسي المذهب المسمَّى اصطلاحًا مذهبَ الحبّ الإلهيّ في الشِّعر الصّوفيّ، كما أنّ نازك الملائكة من مؤسِّسي حركة الشِّعر الحرّ في القرن العشرين. تقول:

” هبطَ اللّيلُ وما زالَ مكاني عندَ شطّ النّهر في الصّمت العميقْ… “

دورُ المرأةِ في الأدب العربيّ لم يشملْ فقط ما قالَته وكتبَته، بل ما أوحَت به أيضًا للأدباء الرّجال؛ فبطلاتُ الرّواياتِ وقصصِ العشق قد شاركْنَ بلا شكٍّ في إنشاء النّتاج الأدبيّ، وكذلك سيّداتُ الحبّ العذريّ كلَيلى وبثينة.

وبدر شاكر السّياب، ألم يكنْ ليُتمِه وفَقدِ أمِّهِ البصمةُ الأساس في شِعرِه كاملاً؟ الأمُّ تَطبعُ الحياةَ كلَّها، بوَعيٍ أو لاوعيٍ، بالحضورِ أو الغياب، جسديًّا أو عاطفيًّا. وكم من الأدباءِ غيرِ الأيتام يشكونَ غيابَ الأمومةِ، كشعور. قالَ أبو القاسم الشّابّيّ:

فلمّا نَدبتُ ولم يَنفعِ

وناديتُ أمّي فلم تَسمعِ

رجعتُ بحزني إلى وحدتي

وردّدْتُ نَوحي على مَسمَعي

ولقد تجاوزَت الأديبةُ العربيّةُ في نتاجِها إلى الفلسفة أيضًا، والفلسفةُ تَنبتُ في الأدبِ ومنه. قالت فدوى طوقان: ” لقد نبتسمُ أحيانًا لكي نخدعَ الحزن”.

وبَعد، فإنّ دورَ المرأةِ في الأدب العربيّ لم يكتفِ بالتّأليف والإيحاء، فقد قيلَ إنّ أجملَ قصائدِ إبراهيم ناجي هي قصيدةُ الأطلال، إذْ قد غنَّتها أمُّ كلثوم. وقيلَ إنّ فيروزَ شاعرةٌ بالصّوت، لأنّها تؤدّي ما تغنّيهِ إلى جانب الشّحنةِ الشّعوريّةِ المرهفةِ حتّى الدّمع، وفقَ تعبير أنسي الحاج.

وإذْ رَفعَت أديباتُ العربِ لواءَ المساواة، قالت نوال السّعداوي:

“إنّ شرفَ الإنسان، رجلاً أو امرأة، هو الصّدق. فالإنسان الشّريف لا يعيشُ حياةً مزدوجة، واحدةً في العلانية، وأخرى في الخَفاء”.

وكيف لا تكونُ المرأةُ العربيّةُ طليعةَ الثّورة دفاعًا عن القيمِ الإنسانيّةِ، والحقّ، والعدالةِ الاجتماعيّة، في الحياةِ وفي الأدب، هي التي لا تزالُ حتّى اليوم تناضلُ في العالم العربيّ من أجل المساواة. حتّى إنّ قيودًا ما، تُفرَضُ على آرائِها وكتاباتِها الأدبيّة، بصورةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة.

وإذْ قالت نوال السّعداوي، وهي على حقّ، “إنّ تحويلَ المرأةِ إلى سلعة تباعُ وتشترى باسم الزّواج، نوعٌ من البغاء المقنَّع بقناع الشّرعيّةِ المزيَّفة”، فإنّني يسرى البيطار أتساءل، ومن باب المساواة: ألا يندرجُ فرضُ ما يسمَّى الواجبَ الزّوجيّ على الرّجل فرضًا، في إطار التّسليع والاستعباد أيضًا؟

وبَعد، أقِرُّ بأنّني لم أذكرْ أديباتِ العربِ كلَّهنّ، فلا تزالُ هناك أسماءٌ أخرى جديرةٌ بالتّنويه.

آملةً أن أكونَ قد وفَّيتُ الموضوع جزءًا من حقِّهِ، في الوقت المتاح.

***

*كلمة الدكتورة يسرى البيطار في مؤتمر أكاديميّة التميّز بالهند، بالتعاون مع “منْدي” لثقافة السّلام وإدارة التنوّع، والبيت العربيّ النّمساويّ للثقافة والفنون، ورابطة الكاتبات التونسيّات، وغرفة 19 الثقافيّة. ٢٠ آذار ٢٠٢٢

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *